خطاب قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى عاشوراء 1441هـ
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وعظَّم الله لنا ولكم الأجر، وأحسن لنا ولكم العزاء في ذكرى مصاب سيد الشهداء، سبط رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”: أبي عبد الله الحسين بن علي أمير المؤمنين، وابن فاطمة الزهراء “عليهم السلام”.
هذه الذكرى الأليمة، والفاجعة الكبيرة في تاريخ الأمة، والتي لها امتدادها في تأثيرها المباشر في واقع الأمة عبر الأجيال، فلم يطوها النسيان، ولم ينهِ تأثيرها امتداد الزمان؛ لأن علاقتها بواقع الأمة من خلال ارتباطها الوثيق والعميق والمؤثِّر في رسم مساراتها، وصياغة مفاهيمها، وصناعة مستقبلها، فقضية الأمس هي قضية اليوم، والمشكلة هي ذاتها، والخيارات في المواقف هي نفسها، وبنفس الآثار والنتائج التي هي نتاجٌ لتلك المواقف؛ لأنها معركةٌ بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين النور والظلام، وبين الحرية والاستعباد.
فالإمام الحسين “عليه السلام” في حركته في أمَّة جده لإصلاحها وهدايتها وانقاذها من طغيان يزيد، كما أعلن ذلك “عليه السلام” في قوله: (ما خرجت أَشِراً ولا بطراً ولا متكبِّراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر)، إنما تحرَّك “عليه السلام” من موقعه كرمزٍ عظيمٍ من رموز الإسلام، من موقعه في القدوة والقيادة والهداية، وهو وريث جدِّه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” في حمل راية الإسلام، وهداية الأمة، فموقفه هو تعبيرٌ عن الحق، وترجمةٌ بالقول وبالفعل لمبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه، وهو ارساءٌ وترسيخٌ وتثبيتٌ وتعبيرٌ عمليٌ وفكريٌ للموقف الإسلامي نفسه تجاه الطغيان والانحراف اليزيدي في كل عصرٍ وزمن، في مقابل حالة الخنوع والاستسلام والجمود والتنصل عن المسؤولية التي لا علاقة لها بالإسلام.
إنَّ الإمام الحسين “عليه السلام” حينما طُلِبت منه البيعة ليزيد، قال “عليه السلام” في رده: (إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد فاسقٌ فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلنٌ بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله)، بهذه الكلمات المهمة أعلن الإمام الحسين “عليه السلام” وحدد موقفه الحاسم تجاه الطغيان والانحراف والتسلط الأموي ممثلاً بيزيد، بما يمثِّله يزيد على أمة رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” من خطورةٍ في دينها العظيم، حينما يتمكن بما هو عليه من فسقٍ وفجورٍ وإجرامٍ وطغيانٍ واستهتار، فيما يمثِّله من خطورةٍ على الإسلام ومقدساته، فيما هو فيه من احتقارٍ للأمة، حينما يتمكن من التحكم بها من موقع القرار والسلطة، فالتهديد يصل إلى الدرجة التي قال عنها الإمام الحسين “عليه السلام”: (وعلى الإسلام السَّلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد)، يعني طمس معالم الإسلام، يعني مصادرة كل مكتسباته للأمة: من حريةٍ وكرامةٍ وعزةٍ، ومن زكاءٍ وسموٍ إنساني، وأخلاقيٍ وقيم، يعني الاستعباد للأمة والإذلال لها، يعني الظلم والفساد، وأن تكون الأمة بكل ما تملكه رهينةً وغنيمةً للطغاة والطغيان، وأسيرةً تحت وطأة الإجرام.
ولذلك فالإمام الحسين “عليه السلام” من واقعه الإيماني العظيم، وهو سيِّد شباب أهل الجنة، ومن موقعه في القدوة والقيادة والهداية، وهو الامتداد الأصيل والوارث الحقيقي لرسول الله “صلى الله وسلم عليه وعلى آله” في حمل راية الإسلام، وهداية الأمة، هذا الدور وهذا الموقع الذي يوضِّحه لنا قول رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”: (حُسينٌ مِنِّي، وأَنَا مِنْ حُسَين، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيِنًا، حُسَينٌ سِبطٌ مِن الأَسبَاطِ)، وبما يمتلكه “عليه السلام” في هذا الموقع- بحكم اقترانه بالقرآن الكريم ونوره المبارك- من بصيرةٍ، ووعيٍ، وحكمةٍ، وإدراكٍ، وتقييمٍ صحيح، وبما يحمله من زكاءٍ وطهارةٍ وقيمٍ وأخلاق، وباستشعاره العالي للمسؤولية، في هذا كله، وبهذا كله ما كان ليسكت، وما كان ليساوم، ولا ليتنصل عن المسؤولية، بل اتخذ قراره الحاسم وموقفه النهائي في التصدي لذلك الطغيان والانحراف، مهما كان حجم التضحية ومستوى المأساة، فهي تضحيةٌ ستصنع الانتصار، وتحقق النتيجة المرجوَّة؛ لأنها في سبيل الله تعالى القائل في كتابه الكريم: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 51-52].
وقربان هذه التضحية إلى الله تعالى هو سيِّد شباب أهل الجنة، وأهل بيته، والصفوة الأخيار من الأمة، الذين نالوا شرف الشهادة معه في ملحمة عاشوراء، في ميدان كربلاء؛ لأنها القضية العادلة التي لا ترقى إلى مستوى عدالتها بعدها قضية، والموقف الحق الذي لا يشوبه مثقال ذرةٍ من الباطل، والمظلومية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية، فكان أن تحقق بها من النتائج الكبرى- ويتحقق في مستقبل الأمة على امتداده- ما يليق بمستواها العظيم كملحمةٍ تاريخية مبدئيةٍ إيمانية عظيمة التأثير، وممتدة التأثير، وهذه بعضٌ من نتائجها:
أولاً: هزَّت الضمائر الميتة في نفوس الكثير من أبناء الأمة، وأحيتها بعد الموات، وأيقظت الكثير من سبات غفلتهم.
ثانياً: سرَّعت من تقويض سلطة يزيد وآل أبو سفيان، وكانت سبباً لعقوبته العاجلة، وهلاكه وهو في ريعان شبابه وفي بداية سلطته، وأنهت أحلامه وآماله المشؤومة في التمتع بالسلطة ومحاربة الإسلام لأمدٍ طويل.
ثالثاً: صنعت الوعي، ورسمت الموقف الحق، وحددت المسار الصحيح لكل أجيال الأمة.
رابعاً: حفظت لنا الإسلام بأصالته ومنهجه الحق، وكشفت وفضحت الزيف والضلال.
خامساً: قدَّمت النموذج والقدوة بالفعل في الثبات على الحق، والصمود في مواجهة الطغيان، والتفاني والاستبسال في سبيل الله تعالى، ومن أقسى الظروف وفي أصعب الأحوال، وفي قوة العزم والإرادة، وفي الصدق والصبر والوفاء، وهي بذلك محطةٌ تعبويةٌ عظيمة، تمنح الأمة الطاقة المعنوية الهائلة، والقوة الإيمانية لمواجهة التحديات مهما كبُرت، والأخطار مهما عظُمت، وتحمّل التضحيات مهما بلغت.
إننا كشعبٍ يمني يعتز بهويته الإيمانية، ويرتبط من خلاله في علاقته بسبط رسول الله، سيِّد الشهداء الإمام الحسين “عليه السلام”، قد حسمنا خيارنا وقرارنا في التمسك بالإسلام في أصالته، ومبادئه، وقيمه، وأخلاقه العظيمة، الإسلام الذي يحررنا من كل طاغيةٍ وطاغوت، والإيمان الذي يمنحنا الله به العزة، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، ومهما سعت قوى الطاغوت والاستكبار بقيادة أمريكا وإسرائيل، وبعملائها المنافقين، كالنظامين السعودي والإماراتي لإخضاعنا وإذلالنا والسيطرة علينا، فإننا- وبعون الله وبتوفيقه- سنتمسك بالإسلام في موقفه الذي أعلنه الإمام الحسين “عليه السلام” يوم العاشر من شهر محرم قائلاً: (أَلَا وَإِنَّ الدَّعِي بن الدَّعِي قَد رَكَزَ بَينَ اثنَتِين: بَينَ السِّلَّةِ، وَبَينَ الذِّلَّة، وَهَيهَات مِنَّا الذِّلَّة، يَأبَى اللُه لَنَا ذَلِكَ، وَرَسُولُه، وَالمُؤمِنُون)، وحينما قال: (لَا وَاللهِ لَا أُعطِيهِم بِيَدِي إِعطَاءَ الذَّلِيل، وَلَا أُقِرُّ إِقرَارَ العَبِيد).
اليوم ونحن في العام الخامس للعدوان الأمريكي السعودي على بلدنا، الهادف إلى السيطرة علينا كشعبٍ يمني، واستعبادنا وإذلالنا، وبكل ما ارتكبه منذ أول غارةٍ جوية افتتح بها عدوانه، وبجرائمه اليومية الشنيعة، البشعة، الوحشية، الإجرامية، إننا ندرك جيداً ونعي طبيعة هذه المعركة التي قدَّمنا فيها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، والآلاف من الأسرى، والملايين من النازحين، ومع الحصار والحرب الاقتصادية الظالمة، في مظلوميةٍ يمكننا القول بأنها كربلاء العصر، وبصمودٍ واستبسالٍ حسيني تشهد له قوافل الشهداء في كل يوم منذ بداية العدوان، وتشهد له المواقف البطولية للمجاهدين المؤمنين، والأحرار الأبطال من الجيش واللجان الشعبية في كل ميادين البطولة والشرف في محاور القتال المختلفة في: الجبال، والوديان، والسهول، والصحاري، ويشهد له صبر الأسرى والجرحى، وتشهد له كلمات الاحتساب والصبر والصمود التي تستقبل بها أسر الشهداء شهداءها، إننا من كل ذلك نقول لكل الطغاة والمستكبرين: مهما حشدتم وقصفتهم وحاصرتم وارتكبتم من الجرائم، ومهما كان حجم التضحيات، فلن نخضع لكم، ولن نفرِّط بحريتنا وكرامتنا واستقلالنا، وسنقول لكم بالقول الذي تترجمه الأفعال والتضحيات: هَيهَات مِنَّا الذِّلَّة، وثقتنا بالله تعالى وبوعده الحق أن ثمرة توكلنا عليه، وتضحياتنا في سبيله، وصبرنا على المعاناة في ذلك: هي النصر، كما قال “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: الآية7].
حريتنا دينٌ ندين به، نابعٌ من توحيدنا لله تعالى، وعزتنا إيمان، وكرامتنا قيم، ولا يمكن التفريط بأيٍ من ذلك في مزاد المساومات السياسية، ومواقفنا تجاه القضايا الكبرى لأمتنا الإسلامية هي مواقف مبدئية، بدءاً من موقفنا المعادي للعدو الإسرائيلي الصهيوني، والمناصر للحق الفلسطيني مقدساتٍ وإنساناً وأرضاً، وفي موقفنا المناهض للهيمنة الأمريكية، وسياساتها العدائية والمستكبرة والاستعمارية، وفي موقفنا المتضامن مع كل المظلومين والأحرار أبناء أمتنا الإسلامية، في ايران الإسلام فيما تتعرض له من حصار وحملات دعائية ظالمة، وفي لبنان، وسوريا، والعراق، والبحرين، وادانتنا لما يتعرض له المسلمون في كشمير، وبورما، والصين وفي غيرها من المناطق والبلدان التي يتعرَّض فيها المسلمون للظلم والاضطهاد لمجرد انتمائهم للإسلام.
كما نؤكِّد أنَّ علاقتنا بأمتنا الإسلامية هي من منطلق الأخوة الإسلامية التي هي فريضةٌ واجبة، وهي بالنسبة لنا محط اعتزازٍ وافتخار، في مقابل مقتنا وإدانتنا لكل أشكال التطبيع والعلاقة مع العدو الإسرائيلي الصهيوني، التي يتورَّط فيها المنافقون من العرب، وإدانتنا لكل مساعي الفرقة والشقاق، وإثارة العداوة والبغضاء بين أبناء الأمة الإسلامية تحت عناوين عرقية ومذهبية ومناطقية.
أيُّها الإخوة والأخوات: أسأل الله تعالى أن يكتب أجركم على هذا الحضور الكبير، والمشاركة في هذه المناسبة الدينية المهمة تعبيراً عن المحبة لرسول الله وآله، وتأكيداً على الثبات على منهج الإسلام الأصيل.
شكر الله سعيكم، وبارك فيكم، وأصلح شأنكم…
السَّلام على الحسين سبط رسول الله، وابن عليٍّ أمير المؤمنين، وابن فاطمة الزهراء، وشقيق الحسن المجتبى، الصَّلاة والسَّلام على أصحاب الكساء، على رسول الله وآله.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛