المحاضرة الرمضانية الثامنة لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} [الإسراء: 22-39] صدق الله العظيم.
شملت الآيات المباركة عدداً من التوجيهات الإلهية المهمة جدًّا، وابتدأت بأساسٍ مهم تبنى عليه كل التوجيهات والتعليمات في الدين الإسلامي.
التوحيد عنوان كل الرسالات الإلهية
يقول الله -سبحانه وتعالى-: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً}، التوحيد لله -سبحانه وتعالى- هو الأساس والركن الكبير الذي يقوم عليه الدين الإسلامي بكله في كل تفاصيله وتشريعاته وتوجيهاته، وهو أيضاً الركن والأساس في كل رسالات الله إلى أنبيائه على مرِّ التاريخ، والله -سبحانه وتعالى- في كل توجيهاته مع أنبيائه، وفي أساس رسالاتهم ودعوتهم للبشرية كان العنوان الأول والعنوان الرئيسي هو التوحيد لله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه الأساس الذي إن آمن به الإنسان والتزم به الإنسان؛ تستقيم عليه حياته في شتى المجالات، على أساسٍ من توجيهات الله وهدي الله وتعليمات الله -سبحانه وتعالى- كما أنَّ الإخلال به يترتب عليه الانحراف، ويتبعه الانحراف في كل مجالات وشؤون الحياة، ويتجه الإنسان في حياته على نحوٍ منحرف، حتى يصل إلى سخط الله -والعياذ بالله-.
{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ}، الحقيقة الكبرى في هذا الكون وفي هذا الوجود أنه لا إله إلا الله، لا إله بالفعل إلهاً حقيقياً، له الكمال المطلق، تأله إليه البشرية، تأله إليه المخلوقات، هو رب السماوات والأرض، هو رب الكون، رب العالمين، وهو المدبر لشؤون السماوات والأرض، وهو الذي يربي هذه المخلوقات ويدير شؤونها، لا إله إلا الله -سبحانه وتعالى- فإذا عمل الإنسان واتجه في حياته إلى أن يؤله شيئاً آخر غير الله -سبحانه وتعالى- شيئاً آخر من الجمادات، كالأصنام الحجرية ونحوها، أو من الحيوانات الأخرى، أو من الكائنات الأخرى… فهو يرتكب أكبر خطأٍ ويتنكر لأكبر حقيقة، وهو يمارس عمليةً منحرفةً، وزيغاً كبيراً وضلالاً كبيراً، ونكراناً وجحوداً لأعظم حقيقة، ويظلم نفسه بهذا، ويخالف الحق والعدل، عندما تؤلِّه غير الله -سبحانه وتعالى- ويفعل هذا الكثير من البشر، الأغلبية من البشر اتخذوا آلهةً أخرى، ولجئوا إليها كآلهة، وهي ليست- في واقع الحالة- آلهة، في كثيرٍ من الحالات- على مرِّ التاريخ- اتجه الكثير من الناس، من الأمم والأقوام إلى عبادة أصنام حجرية، واعتبروها آلهةً شريكةً مع الله -سبحانه وتعالى- أشركوا بها مع الله، وهي كما هي حجر لا تضر ولا تنفع، يأتون إلى منحوتات من الصخر، أو منحوتات من جمادات أخرى، أو من الأشجار، يصنعونها، أو يشترونها ممن صنعها، ثم يجعلون منها آلهةً ينشدون منها، ويطلبون منها النصر، والخير، والنفع، ودفع الضر… وما إلى ذلك، ويعتقدونها آلهة، عندما اتخذوها آلهة هي لا تتحول- بالفعل- إلى آلهة، هي لا تتحول- بالفعل- إلى مصدر لجلب الخير ودفع الضر، أو توفير النصر، أو الرعاية لهذا الإنسان. |لا| يبقى ذلك الصنم الحجري على حاله، لا يعطيهم شيئاً، لا عبادتهم له ولا اتخاذهم له آلهة يحوله- بالفعل- إلى مصدر رعاية لهم، ومصدر نصر لهم، ومصدر خير لهم، ومصدر لدفع الشر والضر عنهم. |لا|.
البعض أيضاً اتخذوا آلهةً أخرى، وجعلوا آلهةً أخرى، إما من الملائكة، وهذا حال بعض الأقوام عبدوا الملائكة، وعبدوا بعضاً من الملائكة، وجعلوا منهم آلهة، والحال نفسه كذلك لا يجعل منهم في الواقع آلهة، الملائكة بأنفسهم عبيدٌ لله -سبحانه وتعالى- يعبِّدون أنفسهم تعبيداً تاماً لله -سبحانه وتعالى- وهم أرقى المخلوقات في عبوديتها لله -جلَّ شأنه- ولا يتعامل معهم الملائكة على أساس أنهم جعلوا منهم آلهة، بل يمقتونهم ويكرهونهم، ويتبرؤون منهم، ويتبرؤون من شركهم بهم.
البعض جعلوا آلهةً من الأنبياء، كما هو حال من جعلوا من نبي الله عيسى -عليه السلام- إلهاً ورباً، وهو كذلك يعبِّد نفسه لله، ويعتبر نفسه عبداً لله، ويؤكِّد على ذلك، وكانت أول عبارة نطق بها: الدعوة إلى عبادة الله، والتأكيد على أنه عبدٌ لله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: من الآية30]، وكان كل اهتمامه في حركته بالرسالة الإلهية: الدعوة إلى العبادة لله -سبحانه وتعالى- وتعبيد الناس لله -جلَّ شأنه- البعض جعلوا من بعض الكواكب والنجوم آلهة، والبعض جعلوا من الشمس آلهة، البعض جعلوا من كائنات وجمادات أخرى، أو حيوانات أخرى آلهة، والضلال في واقع البشر في هذا الجانب ضلال كبير جدًّا.
تأليه الأصنام البشرية.. الانحراف وأشكاله
البعض جعلوا أيضاً من الأصنام البشرية: من الطغاة والجبارين والظالمين والمتكبرين آلهة، والانحراف في هذا الجانب له شكلان:
الأول: الانحراف العقائدي: مثلما شرحنا فيمن اعتقدوا في شيءٍ من الجماد، أو شيءٍ من الكائنات الأخرى أنها آلهةً وشريكةً لله -سبحانه وتعالى- في الألوهية والربوبية، وهذا انحراف عقائدي، وشرك عقائدي.
وهناك انحراف في الواقع العملي: الانحراف في الواقع العملي عندما تطيع الآخرين في معصية الله -سبحانه وتعالى- وتؤثر طاعتهم على طاعة الله -جلَّ شأنه- فحالة الانحراف هذه في أن تجعل مع الله إلهاً آخر هي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، وتمثل أكبر خطورة على الإنسان؛ لأن الإنسان سيبني مسار حياته بكله (على جُرُفٍ هار) على خطرٍ كبير، على غير أساس، ولهذا يقول الله -جلَّ شأنه-: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً}.
مبدأ التوحيد مبدأٌ عظيم لصالح الإنسان نفسه؛ لأن معناه أنك تثق بالله -جلَّ شأنه- وتعتمد عليه، وهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو، الذي له الكمال المطلق، الذي هو على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، الذي هو ربك، ورب العالمين، ورب السماوات والأرض، ورب الناس، والملك لهذا العالم، والمتحكم والمدبر لشؤون هذا العالم، فأنت عندما تؤلهه هو وهو الإله الحق، وتلتجئ إليه وتعبده هو -سبحانه وتعالى- ولا تتخذ معه آلهةً أخرى، وتعتمد عليه، وتثق به، وتلتجئ إليه، ترجوه هو للخير ولدفع الشر والضر، تعتمد عليه، تسير في هذه الحياة على أساس توجيهاته وتعليماته الحكيمة التي هي من منطلق رحمته، وبحكمته، وبعلمه، وهو المحيط بكل شيءٍ علماً؛ فأنت تعتمد على مصدر القوة، مصدر الخير، الذي يملك لك النفع، ويملك دفع الضر عنك، ويملك لك الخير، والذي يقدر على ما لا يقدر عليه غيره؛ وبالتالي أنت تعتمد على من ينفعك، وعلى من يدفع عنك الشر والضر، وعلى من يجلب لك الخير، وعلى من يهديك، ويعلِّمك، ويرشدك، ويوجِّهك في مواجهة متاعب هذه الحياة وتحدياتها وصعوباتها إلى ما هو الخير لك، يأتيك الخير منه في تدبيره، وفي خلقه، وفي تشريعه، وفي هدايته، وفي توجيهه، وإلى من حياتك بيده، ورزقك بيده، وموتك بيده، ومصيرك إليه، فأنت تتجه على أساسٍ صحيح.
أما عندما تجعل معه آلهةً أخرى، وتلتجئ إلى غيره، وتعتمد على غيره؛ فأنت عطلت على نفسك هذا الخير الكبير، ولم تعتمد على المصدر الحقيقي للقوة، وللخير، وللسعادة، وللفلاح، ولدفع الشر، ولجلب الخير، معناه: أنك المتضرر، {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} تكون مسيرتك في هذه الحياة غير معتمدة على المصدر الحقيقي للخير والقوة؛ فتكون مسيرةً قائمةً على الضعف، على العجز، على الخذلان، تفصل نفسك أنت عن الرعاية الإلهية الشاملة، وتتجه إلى من لا يمنحك هذه الرعاية لا في جانب التدبير، ولا في جانب الخلق، ولا في جانب الهداية، ولا في جانب التشريع، وتعيش (مَذْمُوماً) تستحق الذم؛ لأنك اتجهت اتجاهاً خاطئاً ومنحرفاً في أكبر عملية انحراف، في أسوء حالٍ من الجحود والنكران للحق والتنكر للنعمة، وللمنعم العظيم، وللرب الكريم، وأنت في حالةٍ من العصيان، وفي حالةٍ من الخذلان التي تستحق معها الذم والعقاب، (مَّخْذُولاً) فقدت هذه الرعاية الإلهية.
التوحيد قاعدة كل التوجيهات وثمرته عملية
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، تبنى على هذا الأساس المهم وهذا الركن العظيم الذي هو: التوحيد لله -سبحانه وتعالى- تبنى عليه كل التوجيهات والتعليمات؛ لأن الإنسان بعد أن يتوجه في حياته على أساس توحيد الله -سبحانه وتعالى- فثمرة التوحيد وثمرة مبدأ التوحيد وعقيدة التوحيد هي ثمرة عملية، وهذه مسألة من أهم المسائل على الإطلاق التي نحتاج إلى ترسيخها لدينا كمسلمين، في أنفسنا كمسلمين: أن الثمرة للتوحيد هي ثمرةٌ عملية، تعود إلى الواقع العملي، وإلا سنخسر مثلما يخسر الآخرون الذين اتخذوا آلهةً أخرى غير الله -سبحانه وتعالى- وإن بقي لنا من الانتماء للإسلام فوائد ومكاسب تكون محدودة بجانب ما إذا رسخنا هذا المبدأ، وانطلقنا على أساسه عملياً في مسيرة حياتنا، تأتي مجموعة من التعليمات والتوجيهات الإلهية المهمة جدًّا، والتي أتى التوجيه بها من الله -سبحانه وتعالى- تحت هذا العنوان: {وَقَضَى رَبُّكَ}، وتشمل مسائل متعددة سنأتي على ذكرها كما سمعناها في الآيات المباركة: (وَقَضَى رَبُّكَ) يعني: هذا التعبير أن هذه التوجيهات الإلهية التي وردت بعد هذا الأمر من الله -سبحانه وتعالى- هي إلزامية لا مجال فيها للنقاش، ولا تساهل تجاه الإخلال بها، أي شيءٍ من هذه التوجيهات التي ستأتي، به جملة توجيهات تتجه إلى جوانب ومجالات الحياة: على المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى الاقتصادي، وعلى مستويات متعددة، وفي مجالات متنوعة، هذه التوجيهات بمجموعها هي إلزامية، إذا أخلَّ الإنسان بشيءٍ منها؛ يهدم إيمانه، ويعاقب، ولا مجال للتساهل فيها.
{وَقَضَى رَبُّكَ} أمر الله -سبحانه وتعالى- أمراً ملزماً ومؤكَّداً ومحتوماً من موقع ربوبيته، هو ربنا -جلَّ شأنه- ليس فضولياً يريد أن يتدخل في شؤوننا فنقول له: [وأنت ما الذي يعنيك فينا حتى تأتي وتقول: أفعلوا ولا تفعلوا، ويلزمنا بالزامات معينة]. |لا| هو -جلَّ شأنه- ربنا المالك لنا، والمربي لنا، والخالق لنا، ومن موقع ربوبيته -جلَّ شأنه- وله الأمر والنهي فينا، ويملك من هذا الحق ما لا يملكه غيره، من هو الذي يملك حق الأمر والنهي فينا كما يملكه الله -سبحانه وتعالى-؟ هل غيره خلقنا؟ هل غيره رزقنا؟ هل غيره ربانا؟ هل غيره أنشأنا؟ هل غيره تولى رعايتنا ونمانا في هذه الحياة؟ الله -سبحانه وتعالى- هو الذي له حق الأمر والنهي.
ما هي العبودية ولمن تعبّد نفسك؟
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وهذا- كما قلنا- هو الأساس الذي تبنى عليه كل التعليمات وكل التفاصيل، وتضبط على أساسه مسيرة الحياة في كل تفاصيلها، {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} العبادة: هي العمل بمقتضى العبودية، هي التعبير العملي عن العبودية، هي ما على العبد أن يفعله تجاه ربه، وهذه المسألة من أهم المسائل؛ لأنها العنوان الشامل الذي يدخل تحته الدين بكله {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، كان كل الأنبياء والرسل ينادون أقوامهم ويدعونهم إلى هذه الدعوة: (أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)، الإنسان لن يكون إلا عبداً، الإنسان هو في حقيقته وفي جوهره عبد يشعر بالافتقار إلى غيره، يشعر أنه بحاجة إلى من يرعاه، إلى من يوجهه، إلى من يغيثه، إلى من يرزقه، إلى من ينصره، إلى من يعينه في حلِّ كثيرٍ من مشاكل هذه الحياة، إلى إلى… أشياء كثيرة. فلن يكون إلا عبداً، ولكن لمن يعبِّد نفسه، هل لربه؟ وهو الله -سبحانه وتعالى- الذي هو الربَّ الحقيقي لهذا الإنسان، أن يتوجه بالعبودية إلى عبدٍ آخر من العبيد مثله، قد يكون ذلك العبد طاغية، أو مجرماً، أو ضالاً منحرفاً، أو جماداً… أو أي شيءٍ آخر. الانحراف في العبودية غالباً ما يكون انحرافاً في الواقع العملي، ومن أسوء شيءٍ في واقع الإنسان أنه إن لم يعبد الله -سبحانه وتعالى- ويتحرك في حياته وفي مشوار حياته على هذا الأساس، فإن منتهى أمره أن يعبد مَنْ؟ أن يعبد عدوه الشيطان الرجيم، ولهذا يأتي في القرآن الكريم في نداء الله لعباده يوم القيامة، للبشرية، لبني آدم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس: الآية60]؛ لأن كل حالات الانحراف في العبادة منتهاها هو العبادة للشيطان، إما أن تعبد الله، وإما أن تعبد الشيطان، والحالات التي تؤثر على الإنسان في المجال العملي هي عندما يؤثر طاعة غير الله على طاعة الله، يعني: يطيع غير الله في معصية الله، يتوجه في هذه الحياة بدافع الخوف من غير الله أكثر؛ فيطيع ذلك الغير في ما هو معصية لله -سبحانه وتعالى- أو بدافع الرغبة؛ فيؤثر غير الله، ويعصي الله -سبحانه وتعالى- طاعةً لذلك الغير، وهذه الحالة خطيرة جدًّا، وهي حالة واسعة في حياة الناس بطبيعة ارتباطاتهم، بدءاً من هوى النفس، يمكن للإنسان أن يعبد هواه، أن يتخذ من هواه إلهاً، الله -جلَّ شأنه- يقول: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: من الآية43]، ويقول في آية أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: من الآية23]، هوى النفس عندما تتجه إلى هوى نفسك وتجعل منه الأساس الذي تعتمد عليه عملياً، وتؤثره حتى فوق أمر الله ونهيه، تترك أمر الله وتعطله؛ من أجل هوى نفسك، تخالف ما نهاك الله عنه، تخالف فيما نهاك الله عنه وتقترفه من أجل هوى نفسك، وتسير في الحياة على هذا الأساس، فأنت هنا اتخذت هواك إلهاً، ارتباطاتك في علاقاتك بالآخرين من الناس أو غيرهم، عندما يكون سقفها الطاعة المطلقة حتى في معصية الله؛ فأنت تعبدهم، أنت تعبد من تؤثر طاعته فوق الله، فوق طاعة الله -سبحانه وتعالى-.
الضابط لعلاقتنا بغير الله سبحانه
فلهذا نحن معنيون أن نعي في واقعنا العام كمسلمين، البشرية- بشكلٍ عام- مأمورةٌ بذلك أن تكون في علاقاتها بغير الله -سبحانه وتعالى- علاقة مضبوطة تحت سقف العبودية لله -سبحانه وتعالى- الآخرون عبيد، الآخرون بكلهم إنما هم عبيد مثلنا لله -سبحانه وتعالى- ولذلك تكون علاقتك بالعبد الآخر من عباد الله -سبحانه وتعالى- علاقة العبد مع العبد، لا تطع أحداً في معصية الله أياً كان: باسم زعيم، قائد، رئيس، ملك، أمير، عالم… بأي صفةٍ من الصفات، بأي عنوانٍ من العناوين، لا يمتلك أحدٌ الحق أن تجعل طاعته فوق طاعة الله، أن تجعل أمره فوق أمر الله، أن تجعل نهيه فوق نهي الله -سبحانه وتعالى- الذي له الحق المطلق في الأمر والنهي فينا هو الله -سبحانه وتعالى- والعبادة له: أن نجعل أمره فوق كل أمر، ونهيه فوق كل نهي، وطاعته فوق كل طاعة، وألَّا ننحرف عن هذا لأجل أي أحدٍ: لا لهوى أنفسنا، ولا لأي شخصٍ كان تحت أي مسمى أو عنوان، وفي أي مستوى من مستويات النفوذ والزعامة في هذه الحياة، لا يخضعنا أحد بما يصرفنا عن نهج الله تحت عنوان يقدِّمه لنا، عنوان منظم مشرَّع مفلسف: عقيدة، شريعة، قانون، نظام، دستور… أي عنوان كان وفيه مخالفة لمنهج الله -سبحانه وتعالى- لا نقبل به بديلاً عن أمر الله، عن هدي الله، عن نهج الله -سبحانه وتعالى- نجعل كل الأشياء الأخرى تحت هذا السقف: تحت سقف العبودية لله، تحت سقف طاعة الله، تحت سقف أمر الله ونهيه، وهذه مسألة مهمة.
أيضاً الإنسان بنفسه في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية في هذه الحياة لا يفترض لنفسه الحق في الطاعة فوق طاعة الله، أو في الذوبان في أمره ونهيه حتى فيما يخالف توجيهات الله -سبحانه وتعالى- من يفعل ذلك ويسعى لذلك ويطلب ذلك ويفترض من الآخرين ذلك فهو طاغوت متكبر، سواءً باسم ملك، أو أمير، أو رئيس، أو وزير، أو مسؤول، أو عسكري، أو أمني، أو قائد، أو زعيم، أو عالم ديني… أياً كان بأي صفةٍ كان، من يفترض لنفسه الطاعة المطلقة والانقياد له فيما فيه معصيةٌ لله -سبحانه وتعالى- ويفرض ذلك على الناس؛ فهو طاغوتٌ متكبرٌ، يجب أن يكفر الناس بأمره ذلك ونهيه ذلك؛ لأنه لا يملك هذا الحق في عباد الله (الأمر المطلق، النهي المطلق، الطاعة المطلقة) إلَّا الله -سبحانه وتعالى- أما الآخرون فحتى من هم في طريق الحق، حتى الأنبياء، وحتى الرسل، وحتى أولياء الله -سبحانه وتعالى- سقف الطاعة لهم هو في إطار طاعة الله -سبحانه وتعالى- في إطار الإتباع للحق، في إطار منهج الله -جلَّ شأنه- ولهذا يقول الله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: الآية80]، حتى النبي- وهو النبي- لا يفترض من الناس أن يطيعوه خارج طاعة الله، فيما هو معصيةٌ لله -سبحانه وتعالى- لا يفكرون بذلك، هم أعبد الناس لله، أولياء الله بكلهم لا أحد يفترض لنفسه الطاعة في معصية الله، وفي مخالفة ما يأمر به الله -سبحانه وتعالى- وفي التجاوز لمناهي الله وحدوده. أبداً، فالذي يفترض لنفسه ذلك هو طاغوت متكبر في أي مستوى، في أي موقع من مواقع المسؤولية، تحت أي عنوان، لا يمتلك أحدٌ هذه الصلاحية في عباد الله.
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وحينها الإنسان إذا سار على هذا الأساس سينتظم مسار حياته، وطريقته في الحياة، منهجيته في الحياة، كلها تعتمد هذا الأساس الكبير، والإنسان حينها يذعن لأكبر حق، وأعظم حق، وهو حق الله ربنا -سبحانه وتعالى- حق الله ربنا العظيم، المالك، المنعم، الإنسان يتنكر عندما يعبِّد نفسه لغير الله -جلَّ شأنه- يتنكر لله، لولي نعمته العظيم الذي خلقه وفطره، وأنعم عليه بكل النعم، فحق الله فوق كل حق أولاً، وقبل كل الحقوق.
العلاقة بالوالدين.. الإحسان هو العنوان
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} بعد حق الله -سبحانه وتعالى- يأتي الإحسان إلى الوالدين {وَبِالْوَالِدَيْنِ}، الوالدين: الأب والأم، والقرآن الكريم في كثيرٍ من توجيهاته، وفي كثيرٍ من سوره وآياته يركِّز على هذا الحق، ويؤكد على هذا التوجيه المهم: الإحسان إلى الوالدين، ينظِّم القرآن الكريم في أوامر الله وتوجيهاته العلاقة في واقعنا البشري ما بيننا كبشر، وأول مستوى في تنظيم هذه العلاقة يبدأ من علاقة الإنسان بالوالدين: بأبيه وأمه، والله -سبحانه وتعالى- يضبط هذه العلاقة بكلها- بكل تفاصيلها- من خلال هذا العنوان: الإحسان، الإحسان هو العنوان الذي يضبط علاقتك بوالديك في كل تفاصيلها: في المعاملة، في السلوك تجاههما… كل الممارسات في العلاقة معهما يجب أن يضبطها هذا العنوان: الإحسان، أن تكون قائمةً على الإحسان، والإحسان يبدأ من المشاعر، أن تحمل تجاههما المشاعر الطيبة، المشاعر الإيجابية، العرفان بحقهما عليك، بعظيم حقهما عليك، بجميلهما إليك، وهما من تعبا عليك، وهما من قاما بتربيتك، وهما من أنت منهما، أنت فرعٌ منهما، أنت جزءٌ منهما، خلقك الله منهما، تبدأ بحمل هذه المشاعر الإيجابية التي فيها عرفانٌ بهذا الحق، واحساسٌ بما تربطك بهما من علاقة، وأنك جزءٌ منهما، واعترافٌ بما سلف من حنانهما إليك، من حبهما لك، من شفقتهما عليك، من ألمهما عليكم، العاطفة التي امتلكتها الأم والعاطفة التي امتلكها الأب تجاه ابنهما أو تجاه ابنتهما هي عاطفة كبيرة، لا يتخيلها الإنسان إلا عندما يصير هو أباً، أو تصير البنت أماً؛ حينها يدرك كم كان الأب وكم كانت الأم تحمل من عاطفة جيَّاشة، من حنان، من شفقة، من رأفة، كم عانت الأم بدءاً من مرحلة الحمل، بل عندما تعلق من مرحلة الوحام إلى أن يصير الأبن أو البنت كبيراً، كم عانت على المستوى النفسي، وعلى مستوى الجهد والمشقة التي احتاج الطفل إليها واحتاج الابن أو البنت إليها في ظل رعايتهما.
الإحسان بالوالدين قيمة إنسانية وممارسة عبادية
فتبدأ حالة الإحسان هذه بالمشاعر الإيجابية والطيبة التي فيها عرفانٌ بهذا الحق، ثم في الممارسة، في التعامل، في السلوك، في الكلام، ويكون العنوان هذا الذي هو الإحسان هو الضابط لكل تلك التصرفات الممارسات، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}، نحن مجتمعنا المسلم- ومهم جدًّا أن يفهم هذا الجميع في التعامل مع الوالدين- يعتبر هذا التوجيه الإلهي من أهم التوجيهات، وتعتبر هذه قيمة إنسانية عظيمة ومهمة جدًّا، قيمة إنسانية، وخلق نبيل ورفيع ومن مكارم الأخلاق، يعني إضافة إلى أنه أمر يدخل ضمن عبادة الله -سبحانه وتعالى- والالتزام بتوجيهاته وأمره، هو في نفس الوقت قيمة إنسانية، الإنسان الحقيقي الذي يمتلك مشاعره الإنسانية من الطبيعي أن تكون علاقته بوالديه علاقة احترام، واحسان، وتقدير، ومحبة، هذا شيء فطري، شيء فطري، يعني: ليست مسألة صعبة كيف يفعل الإنسان حتى يكون هكذا تجاه والديه، الإنسان في فطرته كما في الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: (جبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)، فالإنسان بفطرته يحب من يحسن إليه، وإحسان الوالدين إحسانٌ عظيم، إنما الإنسان يعتاد على هذا الإحسان؛ حتى يصبح شيئاً طبيعياً وروتيناً لدى الكثير من الناس فلا يقدره، ولا يدرك قيمته، ولكن إذا التفت الإنسان وتذكر. لا، إذا تذكر الإنسان كم تعبت والدتك عليك، كم بكت، كم أشفقت، كم تألمت، كم منحتك من حنان، كم تولت رعايتك حتى في ظروف صعبة جدًّا أنت لا تنفعها بشيء فيها وأنت طفلٌ صغير، كم تعبت عليك في تنظيفك، في رعايتك، في تغذيتك، في الاهتمام بك… أشياء كثيرة جدًّا، الوالد كذلك كم حمل الهم والرحمة والشفقة والاهتمام، وأحاطك برعايته…إلخ.
الكلام يطول حول هذا الموضوع، ولكن هذه قيمة إنسانية وأخلاقية وأمر عبادي، يعني: ضمن عبادتنا لله -سبحانه وتعالى- ضمن التزاماتنا الدينية والإيمانية، عاق والديه هو مرتكب لجريمة كبيرة جدًّا، من يظلمهما ومن يسئ إليهما يرتكب جريمة كبيرة جدًّا، تحبط أعماله الصالحة، وقضية خطيرة عليه.
التعامل الراقي والأدب المتميز
والحال أيضاً عندما يصل بالوالدين: إما بكلا الوالدين، أو أحدهما، أن يكبر عندك، وأن يطعن في السن، وأن يصل إلى مرحلة العجز، ويحتاج إلى الرعاية والمساعدة في مختلف شؤون حياته، قد يصل بالبعض أن يحتاج إلى مساعدة (الأب، أو الأم) حتى في التنظيف، حتى في الرعاية بهما، وشبيهة برعايتك في الطفولة، رعاية تحتاج إلى العناية بهما في التغذية، في التنظيف… في غير ذلك. حتى في مثل هذه الحالة يجب أن تعاملهما باحترام وتقدير، وبالقول الكريم: القول الذي فيه إكرامٌ لهما، تقديرٌ لهما، احترامٌ لهما، وليس فقط التعامل العادي، التخاطب العادي هذا لا يكفي، التخاطب مع الوالد، مع الوالدة، التعامل مع الوالد والوالدة ليس سقفه الإيماني المعاملة العادية أبداً، المعاملة كما تتعامل مع أي إنسان بشكل عادي، يجب أن تتميز هذه المعاملة وهذا التعامل أن يتميز بمزيدٍ من الاحترام والتقدير والتكريم والتواضع، وكما نجد في الآية: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أن تكون تجاههما رحيماً ومتواضعاً ومتذللاً، تذلل الرحمة والاحترام والتقدير، حتى في الحالات التي قد يغضب فيها الأب وينفعل، أو تنفعل فيها الأم، لا يواجه هذا الانفعال بانفعال مقابل، البعض من الأبناء مثلاً إذا انفعلت عليه والدته أو انفعل عليه والده، قد يقابل هذا الانفعال بالانفعال، ويسيء إليهما، وينهرهما بالكلام، يزجرهما بالكلام بالصوت المرتفع، أو بالجفاء والجلافة، والإساءة إليهما، والتجاهل لهما، [يتحيمس] على الأم والأب؛ فيعرض عنهما، ويتنكَّر لهما، ويتجهم بالعبوس إليهما، لا ينبغي ذلك، ينبغي الصبر، التحمل.
وفي الوقت نفسه تأتي تعليمات للأب والأم في القرآن الكريم كيف يكونان أيضاً هما تجاه أولادهما، يعني: ليس المطلوب أن يكون الأب، أو أن تكون الأم، أو أن يكون أحدهما تجاه الأولاد متجبراً وظالماً ومتعسفاً ومتجبراً، أو يعتقد أن الأولاد أصبحوا من ممتلكاته، وأن له الحق المطلق في التصرف كيفما يشاء ويريد فيهم. |لا| هم أمانة عندك، وهم عبيد لله -سبحانه وتعالى- وليسوا عبيداً لك، فالعلاقة منظَّمة في القرآن الكريم من الأب والأم تجاه الأولاد، وسيأتي الحديث- إن شاء الله- إذا وصلنا وأتيحت لنا الفرصة نتحدث- إن شاء الله- في قصة لقمان عن كيف يكون تعامل الوالدين تجاه أولادهما.
فالمعاملة مضبوطة بهذا الضابط حتى إلى درجة أن يقول: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} (أُفٍّ) كلمة استقذار وتضجر، لا يصدر حتى كلمة تضجر، ولا كلمة استقذار؛ إنما يكون القول والخطاب لهما- القول نفسه- قولاً كريماً، المعاملة كذلك معاملة باحترام وتقدير، فيدخل في هذا: التخاطب والكلام، ويدخل في هذا المعاملة، ويدخل في هذا أسلوب التعامل كذلك، والحالة التي يكون الإنسان معهما.
وإذا زلَّ الإنسان وهو صالح ومستقيم، وإنما في بعض الحالات قد يصدر منه زلل، ضبح زيادة ما تحمَّل، ممكن يعتذر ويرجع ويستغفر الله ويعتذر إليهما، ولهذا يقول الله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}، كذلك إذا كان الأب أو الأم لا تقدِّر بر ولدها وإحسانه إليهما، فيتعامل ما بينه وبين الله، يحسب حساب ما بينه وبين الله، والله هو العالم؛ لأن البعض أيضاً من الآباء والأمهات عندهم تشدد زيادة على الأبناء، يعني لا يكتفي بالبر والإحسان والتعامل الطيب، يفترض تعاملاً أكثر بكثير، أو مرهق، أو يضيِّق، أو يشدد، ويكون حساساً تجاه أبسط خطأ يغضب أشد الغضب، وينفعل أشد الانفعال، فالله هو العالم يعني بالإنسان وبمدى التزامه واستقامته وما في نفسه.
نكتفي بهذا المقدار، ونتحدث- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة على ضوء ما ورد في بقية الآيات المباركة.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛