المحاضرة الرمضانية الثامنة عشر لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نستمر في الحديث في إطار غزوة بدر الكبرى، التي كانت من أهم الأحداث التاريخية المهمة في سيرة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وكانت كما أسماها الله -سبحانه وتعالى- وهي تسمية ملفتة ومهمةـ وتدل على الأهمية الكبرى لتلك الحادثة: (يوم الفرقان)، فهو اليوم الذي تأسس من خلاله عهدٌ جديد، وأتت به مرحلةٌ جديدة في واقع الأمة، في واقع البشرية بشكلٍ عام، والحديث عن غزوة بدر هو نافذةٌ مهمة للحديث عن الرسول -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- في دوره العظيم، وسعيه الحثيث لإنقاذ البشرية، وفي التزاماته العملية في إطار حركته بالرسالة الإلهية.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كان من أبرز اهتماماته وأكثر أعماله الجهاد في سبيل الله،: العمل للتصدي للطاغوت، السعي لإنقاذ الأمة، لإنقاذ البشرية، لإنقاذ المستضعفين من عباد الله من الاستعباد، ومن الاستغلال الذي تمارسه كيانات الطاغوت، وقوى الاستكبار، والطغاة، والمتسلطون، والظالمون، والجبابرة، وبذل جهوداً كبيرة في ذلك، وكان لذلك مساحة واسعة في أنشطته وأعماله واهتماماته، الله -سبحانه وتعالى- كلَّفه بذلك، وأتى إليه الأمر من الله -سبحانه وتعالى- يقول الله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: الآية73]، ويقول له الله -سبحانه وتعالى-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: الآية84]، يقول له الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: الآية65]، فهكذا تأتي إليه التوجيهات من الله -سبحانه وتعالى- وتحثه على نحوٍ واسع للتركيز على هذه المسألة بشكلٍ كبير في اهتماماته، فكانت في قلب اهتماماته، في مقدِّمة اهتماماته العملية وأنشطته الواسعة.
عندما نتأمل في سيرة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وعندما نتأمل في التوجيهات في القرآن الكريم التي خاطبه الله بها، والتي أتت أيضاً ضمن الالتزامات الإيمانية بشكلٍ عام، نجد الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع بما يترتب عليه في واقع الحياة، وبما يتعلق به ويرتبط به من إمكانيةٍ لإقامة الدين في واقع الحياة، من الالتزام الإيماني في واقع الحياة، وهذه المسألة هي من أهم المسائل التي تحتاج إلى وعيٍ واسعٍ لدينا؛ لأن هناك أنماطاً مختلفة تنشط في واقع الأمة الإسلامية بين أوساط الناس باسم الدين، وتحت عنوان الدين، والاهتمامات الدينية، والإرشاد الديني، والخطاب الديني، والتعليم الديني، تقدم لنا أشكالاً معينة عن هذا الدين، أنماطاً مختلفة من هذا الدين تفصله وفق مقاييسها، ورغباتها، ونظرتها الخاطئة والقاصرة، رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بعثه الله رحمةً للعالمين منقذاً مخلصاً، ولكي ينفِّذ هذه المهمة، ولكي يتمكن من إنقاذ البشرية، لم يكن بالإمكان أن يكتفي لتحقيق هذا الهدف الكبير بمجرد الموعظة والحديث والكلام الهادئ. لا، لم يكن ذلك ليكفي أبداً، كان لا بدَّ من اهتمامات عملية تصل إلى درجة الجهاد، والتضحية، والعناء، والصبر، والهجرة، وتكبد المشاق، كان هذا أمرٌ لا بدَّ منه.
موقع الجهاد في توجيهات وأنشطة الرسول الأعظم
ولذلك رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- اهتم على نحوٍ واسع في التحريض كما يأمره الله: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، فكانت الكثير من خطاباته، الكثير من إرشاده الديني، الكثير من نشاطه التوعوي يصب في إطار الاستنهاض للمؤمنين، الدفع بهم نحو الجهاد في سبيل الله، لم يكن يفعل كما يفعله البعض اليوم من الذين يقدِّمون أنفسهم: إما باسم علماء دين، أو باسم مرشدين في الإرشاد الديني، أو باسم خطباء في التعليم الديني، أو معلمين في التعليم الديني، ممن يشطبون هذه المسألة بالكامل، وكأنه لا أساس لها من الدين، ولا وجود لها في الإسلام بكله، وكأنها لا تحتل تلك المساحة الواسعة جدًّا في القرآن الكريم، وفي حركة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-.
رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كانت مساحة الاهتمام بأمر الجهاد، بأمر الحركة في سبيل الله لإنقاذ المستضعفين، لإنقاذ البشرية، للتصدي لقوى الطاغوت والشر والإجرام، كانت المساحة في اهتماماته أكبر مساحة، في الموعظة، في الاستنهاض، في الأعمال المتنوعة، الأعمال التي تأتي عادةً في التحضير والإعداد لعمليات عسكرية، أو لأعمال وأنشطة ذات أهمية كبيرة تصب في إطار الموقف من الأعداء، ثم كذلك الأعمال الجهادية والقتالية التي أدارها، والتي حركها، ما بين الغزوات، ما بين السرايا، الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في الإحصاء التاريخي في السير لأنشطته العسكرية بلغت في فترة وجيزة (في سني الهجرة النبوية) نحواً من ثمانين سرية وغزوة، بل كان في كثيرٍ من أنشطته واهتماماته يحث الناس ويحرضهم ويرغبهم على نحوٍ واسع، ويشتغل عملياً لإنجاز الكثير من المهام والأعمال هذه والتحضير لها والترتيب لها، لدرجة أنه -صلوات الله عليه وعلى آله- حتى وهو في الرمق الأخير من حياته على فراش الموت، وهو يتحضر للقاء الله -سبحانه وتعالى- والانتقال من هذه الحياة، وهو لا يزال يرتب لعملية عسكرية، ويتابع العمل على إنجازها، على التحرك فيها، وهو يقول: (أنفذوا بعث أسامة)، وقد أعد جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وهو يحثهم على سرعة الإنجاز للتحرك في هذه المهمة والانطلاقة فيها، وهو على فراش الموت، اهتمام مستمر حتى في تلك اللحظات الأخيرة من حياته -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-.
عندما نأتي للحديث عن الجهاد في سبيل الله وهو حديثٌ بالطبع لا يرغب الكثير في استماعه، والكثير من عامة الناس، وبالذات ممن تعودوا على أن يسمعوا نمطاً معيناً من الخطاب هادئاً ولا يتحدث عن المسؤولية، وعن الجوانب المهمة، وعن القضايا الحساسة؛ ينفرون من الحديث عن هذا الموضوع، ومن الاستماع لهذا الموضوع، وألفوا أن يسمعوا حديثاً حول مواضيع عادية وصغيرة وبسيطة، ولكن هذا لا يفيدهم شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوم القيامة، يوم السؤال، يوم الحساب، يوم الجزاء الذي سيحاسبنا الله فيه على المسائل المهمة أيضاً، على القضايا الكبيرة، على توجيهاته الكثيرة التي أتت في كتابه الكريم، على ما أتى من خلال نبيه -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- في توجيهاته، في إرشاداته، في تعليمه، في حركته العملية، وهو القدوة، وهو الأسوة، قبل أن يكون قدوتك ذلك العالم الجامد، وذلك المرشد الذي هو مفرط ومقصر وعاصٍ لله -سبحانه وتعالى- يتجاهل أموراً مهمة من دين الله لا نجاة إلا بها، ولا فوز إلا بها، ليكن قدوتك هو رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي تنجو باتباعه والاقتداء به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب: الآية21].
الجهاد حاجة إنسانية قائمة لدى كل البشرية
عندما نأتي للحديث عن هذه الفريضة المهمة، الحديث عنها واسع وكثير، ومهمٌ في الوقت نفسه، فهي قبل كل شيء حاجةٌ إنسانية، حاجةٌ إنسانية، لا ننظر إليها وكأنها عبئ في التزاماتنا الدينية والإيمانية، وكأنها تمثل حملاً ثقيلاً أتى به الإسلام، ومثَّل مشقةً كبيرةً علينا، وكنا لولا هذا التكليف الديني وهذه الفريضة الدينية وهذا الالتزام الإيماني كنا سنكون مرتاحين وسالمين من أعباء هذه الفريضة وهذا الحمل، هي حاجة إنسانية، الواقع البشري فيه التظالم، فيه التحديات، فيه الأخطار، فيه الطغاة، فيه الصراع كحالة قائمة في الواقع البشري، وما من أمةٍ من الأمم إلَّا وعندها اهتمامات عسكرية وسعي حثيث لتكون أمةً قويةً، ولتمتلك القدرات والخبرات العسكرية التي تتمكن من خلالها من الدفاع عن نفسها، كل البشر يعون هذا، يعون أن الواقع البشري فيه الصراع، وفيه الأطماع، وفيه التحديات، وفيه الأخطار، وأن أي أمة هي معرَّضة للخطر وللتحدي من هذه الأمة أو من تلك، من هذا العدو أو من ذلك الطرف، ولهذا يسعى البشر بمختلف أممهم، بمختلف مشاربهم، بمختلف أديانهم، بمختلف توجهاتهم، إلى أن يكونوا أقوياء، إلى أن يمتلكوا القدرات العسكرية، إلى أن يمتلكوا الإمكانات اللازمة للدفاع عن أنفسهم، لحماية أنفسهم من خطرٍ مؤكد لا بدَّ أن يأتي من هنا أو من هنا، فلماذا يريد البعض لنا نحن المسلمين أن نكون في الساحة البشرية الأمة التي لا تأخذ بعين الاعتبار هذا الخطر، هذا التحدي الذي هو أمر واقعي في الحياة؟.
هل تقبل الصين، هل تقبل الهند، هل تقبل اليابان، هل تقبل أمريكا، هل تقبل أوروبا، هل تقبل أي دولة أو أمة من الأمم أن تكون أمةً لا تمتلك أي قدرات عسكرية، ولا أي اهتمامات عسكرية، ولا أي قدرات لتكون أمةً قوية، ليس فقط عسكرية، قدرات متنوعة تساعدها لتكون أمةً قوية تواجه الخطر، تواجه العدو، أياً كان هذا العدو، هذه مسألة طبيعية في واقع الحياة، وضمن الاهتمامات البشرية عبر التاريخ بكله، يوم كانت القدرات العسكرية تتمثل بالسيف والرمح والسهم والقوس والوسائل الأولية تلك، وتدريبات على نمط معين من القتال بتلك الوسائل، كانت هذه مسألة قائمة في الواقع البشري عبر التاريخ بكله، واليوم تطورت المسألة إلى حدٍ كبير جدًّا، واتجهت تلك الأمم وتلك الشعوب إلى أن تمتلك قدرات متطورة، وتقنيات حربية وعسكرية متطورة، ويستمر التسابق في ذلك، والواقع الإسلامي، واقع المسلمين هو الأضعف في ظل اهتمامات بقية البشر، بقية الأمم، الآخرون هم أكثر اهتماماً منا نحن المسلمين، أكثر اهتماماً أن يعدوا ما يستطيعون من قوة، أن يسعوا لامتلاك القدرات الكبيرة والمتطورة، والتقنيات العسكرية الهائلة والمتطورة، والجيوش المنظمة والمدربة، بل على مستوى ساحتنا الإسلامية والعربية إسرائيل هي الأكثر اهتماماً على المستوى العسكري، اليهود يحرصون على أن يهتموا اهتماماً كبيراً جدًّا، لدرجة أنهم يحرصون على أن يكون هذا الاهتمام شاملاً، ليس فقط على مستوى الجيش العسكري، إنما على المستوى العام لديهم، لدرجة أن لديهم تمارين ولديهم مناورات شاملة، حتى للأطفال والنساء في التعامل مع الظروف العسكرية، مع الخطر العسكري، مع التهديد العسكري، أما الاهتمام الأمريكي والاهتمام الأوروبي، واهتمام تلك الدول التي ترسل إلينا المنظمات التي تقول لنا- دائماً وأبداً- أن نكون أمةً وديعة تترك العنف، ولا تقتني السلاح، ولا تتجه إلى أن يكون لديها أي قدرات عسكرية، ولا تلتفت إلى أن تكون أمةً قوية، ويحاولون أن ينتزعوا منا القوة، حتى قوة النفس، حتى قوة المشاعر، وأن يعملوا على تدجيننا حتى نكون أناساً وديعين نعيش حالة الضعف حتى على المستوى النفسي، أولئك هم الذين يتسابقون دائماً لتطوير قدراتهم العسكرية وإمكاناتهم العسكرية، ليس فقط القدرات للحماية والدفاع، وإنما القدرات التي تمكِّنهم من استعمار بقية البلدان، والسيطرة على بقية الأمم، في ظل هذا الواقع البشري الذي فيه أشرار، فيه أطماع، فيه صراع، فيه تحديات، فيه أخطار مؤكَّدة، فيه تنافس، فيه سعي حثيث من أطراف كثيرة لبسط نفوذها والسيطرة على الآخرين، والاستعباد لهم، والظلم لهم، والاستغلال لهم، بالاستناد إلى قدراتها العسكرية؛ يعتبر الجهاد في سبيل الله وسيلةً ضروريةً وحاجةً إنسانية، نحتاج إلى ذلك لحماية أنفسنا.
ما ذا لو لم نمتلك القدرات العسكرية؟
لأننا إن لم نمتلك قدرات عسكرية، ولم نكن أصحاب اهتمامات عسكرية، لم يكن لدينا تركيز على أن نكون أمةً قوية؛ سيسحقنا الآخرون، يستذلنا الآخرون، يستعبدنا الآخرون، يطمع بنا الآخرون، إذا لم نمتلك قوةً تردع الآخرين عنا، تجعلهم ينظرون إلينا إلى أن لدينا المنعة والقدرة والقوة، وأننا أمة في حالةٍ من الجهوزية للدفاع عن أنفسنا، ودفع الخطر عن أنفسنا، يطمع بنا الآخرون، ويرون فينا فريسةً سهلة، وهذا ما حذَّر منه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)، تتداعى الأمم الأخرى من أصقاع الأرض، الكل يطمعون بكم، الكل يركِّزون عليكم، الكل يرون فيكم فريسةً سهلة، يرون فيكم مغنماً كبيراً في أرضكم، في ثرواتكم، في مقدراتكم، حتى فيكم كثروةٍ بشرية، فيأتي إليكم الآخرون من شتى أقطار الأرض وهم يطمعون بكم، وكأنهم يتقدمون على وجبة من الطعام (كما تتداعى الأكلة على قصعتها)، وكأنكم قصعة دسمة ومائدة مغرية، يتنافسون عليكم، ويتزاحمون عليكم، أليس هذا هو الذي يحصل؟ ألا يتزاحم علينا الآخرون اليوم، ألا يتزاحم الأمريكي، البريطاني، الفرنسي، الروسي، الصيني… كل الأمم الأخرى يرون فيكم مغنماً، وإن كان الأبرز في هذا التداعي هم الأمريكيون والأوروبيون أكثر من غيرهم، يتداعون عليكم، تعالوا هناك أمة سهلة، ثرواتها هائلة، وهي في واقعها في حالة من الضعف والشتات، لا تمتلك المنعة لتواجه، بل ستجدون من داخلها من يعينكم، فيتداعون، (قالوا: أمِن قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله)، هل طمعهم إلى هذه الدرجة بنا، وتساهلهم لنا، وتداعيهم علينا بسبب القلة؟ (قال: أنتم يومئذٍ كثير)، وفعلاً نحن اليوم كمسلمين أكثر من مليار مسلم، بينما إسرائيل هناك ستة ملايين أو أقل أو أكثر بقليل، (أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل).
عندما تكون الأمة بلا منعة، بلا قدرة، بلا قوة، بلا جهوزية، تكون غثاءً كغثاء السيل، كذلك الذي يحمله السيل من حطام هذا الأرض من حطام النبات، ومما يجرفه من النبات المهترئ والأشجار، (كغثاء السيل، ينزع الوهن من قلوب أعدائكم ويلقى في قلوبكم، قيل: وما الوهن يا رسول الله، قال: حب الدنيا وكراهيتكم الموت)، أمة مرعوبة، أمة خائفة، أمة بمجرد أن تذكر على مسامع البعض منها هذه المسائل المهمة؛ يتهربون حتى من سماع الكلام، لهذه الدرجة من الذعر، والوهن، والتهرب من المسؤولية، والتنصل عن المسؤولية، يتهرب البعض حتى من سماع الكلام حول هذه المواضيع.
فالحالة حالة خطيرة علينا، ونحن سنظلم أنفسنا كمسلمين، وسنجعل من أنفسنا أدنى حتى من بقية الأمم والشعوب الموجودة على هذه الأرض، سنكون في هذه الدنيا الأضعف، الأذل، الأكثر قهراً واستعباداً، الساحة التي يطمع بها الآخرون ويتزاحم عليها الآخرون، ويتنافس عليها الآخرون؛ إن لم نركز على هذه الفريضة المهمة، إن الله يقول: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: من الآية251]، {لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}، {لَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}: عندما نتجاهل سنن الله في عباده، ونأتي لنحاول أن نبني حياتنا على أساسٍ من الأفكار الخاطئة، التي قد يجرنا إليها البعض من الجبناء، والبعض من الأغبياء، والبعض من الناس غير الواقعيين، والبعض من الذين يعملون أصلاً لصالح الأعداء، ويريدون لنا أن نكون أمةً مدجَّنة لا تمتلك القوة للدفاع عن نفسها، ولا لحماية نفسها، ولا لدفع الخطر عن نفسها، من الذين لا يلتفتون لا إلى القرآن ولا إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في موقع القدوة، فالمسألة هي حاجة إنسانية لا بديل لها، لا بديل لها، ليس هناك وسيلة تجعل منا أمةً ضعيفةً، ولكن في نفس الوقت لا خطورة عليها من أي طرفٍ في هذه الأرض، لا وسيلة أخرى، الله يقول -جلَّ شأنه-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 243-244]، (قَاتِلُواْ): لا تتصرفوا على هذا النحو: (خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) ألوف لديهم إمكانية أن يكونوا قوة لحماية أنفسهم، ويشكِّلوا قوةً للدفاع عن أنفسهم، فكانت الوسيلة التي اعتمدوها: التنصل عن المسؤولية والهروب، وفي النتيجة ما الذي وقعوا فيه؟ لقَّنهم الله درساً مهماً: أماتهم، وهم خرجوا من ديارهم حذر الموت. فهي حاجةٌ إنسانية، وهي مسألة واقعية، والواقع البشري قائمٌ على أساسها.
الجهاد أعظم وأهم الفرائض الدينية
ثم هي فريضة إيمانية إلزامية، كما الصيام قال عنه الله -سبحانه وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: من الآية183]، كما الصلاة فريضة من الفرائض الدينية… كما بقية الفرائض، هذه فريضة من أهم الفرائض الدينية، ولهذا يؤكِّد عليها الله في القرآن الكريم بكل العبارات الإلزامية، بكل الصيغ التي تجعل منها فريضةً تمثِّل جزءاً من الدين نفسه، جزءاً من الالتزامات الدينية والإيمانية، جزءاً من الواجبات، جزءاً من العمل الصالح، في كثيرٍ من العبارات، وفي كثيرٍ من التوجيهات، وفي كثيرٍ من الصيغ التي قدَّمت لنا في القرآن الكريم، وعن طريق الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- هذه الفريضة، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: من الآية216]، (كُتِبَ)، ما معنى (كُتِبَ)؟ يعني: فُرِضَ، هذه فريضة، مثلما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، هذه فريضة مكتوبة إلزامية، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، وهذه الكراهية ما هو سببها؟ سوء الفهم، النظرة الخاطئة، ولهذا قال الله -جلَّ شأنه-: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فهي فريضة من فرائض الله التي لا بدَّ منها في أن تكون مؤمناً، لا يمكن أن تحصل على هذه الصفة بمصداقية فتكون من المؤمنين الصادقين وأنت مخلٌ بهذه الفريضة، وأنت لا تقبل بهذه الفريضة، وأنت تتنصل عن هذه الفريضة بغير عذر، ولهذا يؤكِّد الله هذا في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة، عندما قال -جلَّ شأنه-: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: الآية111]، {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، إذا أنت تريد أن تكون من المؤمنين؛ فلا بدَّ لكي تكون من المؤمنين أن تكون على هذا النحو: أن تبيع من الله -سبحانه وتعالى- أن تدخل في هذه الصفقة ما بينك وبين الله -سبحانه وتعالى-.
عندما نجد في الآيات المباركة الحديث عن هذه الصفة كصفة تعبِّر عن المصداقية: عن مصداقية الانتماء الإيماني، وقد رد الله على الأعراب يوم قالوا: (آمَنَّا)، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: من الآية14]، ما الذي كان يدل على مصداقية أن تقول: (آمَنَّا)؟ قال الله -جلَّ شأنه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات: الآية15]، (هُمُ الصَّادِقُونَ)، فلكي تكون من المؤمنين، ولكي تثبت مصداقية انتمائك الإيماني، لا بدَّ من هذه الفريضة، هي جانبٌ أساسيٌ في التزاماتك الدينية والإيمانية، إذا شطبتها، وتنصلت عنها، وتهربت منها؛ فهذا يدل على أنك لا تعيش حالة الإيمان، أن الإيمان لم يصل بعد إلى قلبك، ما الذي يدفعك إلى أن تتنكر لهذه الفريضة التي وردت بها أوامر الله وتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-؟
ثم هي فريضة ذات أهمية كبيرة جدًّا أولاً في مرتكزاتها الإيمانية؛ لأنها هي التي من خلالها تتوفر العناصر الإيمانية اللازمة بما لا يتوفر في غيرها، متطلباتها الإيمانية ذات أهمية كبيرة جدًّا، هذه الفريضة لكي نقوم بها نحتاج إلى أن ننمي في أنفسنا حالة الخشية من الله، والخوف من الله، والمحبة لله، والرغبة فيما عند الله -سبحانه وتعالى-؛ حتى تكون هذه الحالة الإيمانية النفسية التي موطنها القلب ومحلها النفس، حتى تكون حالةً راقية تتفوق على كل الحالات المؤثرة سلباً.
عندما تتنصل عن هذه المسؤولية فهناك عائق، هناك مشكلة تعيشها أنت، هذه المشكلة قد تكون نقصاً في محبتك لله -سبحانه وتعالى- أنت تحب أشياء أخرى أكثر من محبتك لله، وهذا أقعدك عن القيام بهذه المسؤولية، أو أنت تخاف من الآخرين بأكثر من خوفك من الله إن قصرت، وإن عصيت، وإن أهملت، وإن تنصلت عن واجباتك التي أمرك بها، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: الآية24]، حالة غير إيمانية: عندما تكون علاقتك وارتباطاتك الأخرى تفوق علاقتك بالله، تفوق محبتك لله -سبحانه وتعالى- وتؤثر عليك في مدى الاستجابة لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- عندما تكون حالة الخوف من الآخرين هي التي أقعدتك، أثَّرت عليك، دفعت بك إلى التنصل عن المسؤولية، الله يقول: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [التوبة: من الآية13]، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: من الآية175]، وهكذا نجد أنَّ الموقع لهذه الفريضة في سلم الالتزامات الإيمانية، وفي الواقع الإيماني، هو موقعٌ مهم، موقعٌ مهم، لا بدَّ فيه من تنمية الحالة الإيمانية حتى تكون حالة واقعية، حالة صحيحة، حالة مؤكَّدة، حالة موجودة بالفعل فيما يؤهلك للنهوض بهذه المسؤولية، وأداء هذا الواجب، وأداء هذه الفريضة.
الجهاد أكبر اختبار لمصداقية الإيمان
ولهذا تبقى أيضاً محكاً للاختبار، محكاً للاختبار: الكثير من الناس قد يقدِّم نفسه مؤمناً ومن أعظم المؤمنين، ولكن فيما إذا كانت الالتزامات الإيمانية والدينية محدودة وبسيطة، ولا تلامس أشياء مهمة بالنسبة له، ولهذا حين قال الله -سبحانه وتعالى-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: من الآية16]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ) يعني: لا يمكن، لا يمكن أن تتركوا من هذا الاختبار، الذي هو أهم اختبار يكشف مدى إيمانكم، مصداقيتكم في الانتماء الإيماني، لا بدَّ من هذا الاختبار: الاختبار في الموقف، في مواقفكم، في ولاءاتكم، في اتجاهاتكم العملية في إطار الموقف العملي، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}.
ونحن في واقعنا الإسلامي يجب أن نمتلك هذا الوعي، أن نمتلك هذه النظرة القرآنية، ماذا يريد البعض بعد القرآن ليعرف الحقيقة، ليعرف الواقع، ليعرف عندما يأتي البعض ليتخاطب معه باسم الدين، باسم الإيمان، باسم التعليم الديني، باسم الإرشاد الديني، ثم يراهم بعيدين كل البعد حتى عن مجرد الحديث عن هذه الفريضة وعن هذه المسؤولية، ليعرف أن الله قد فضحهم، هذا تقييم إلهي، الله هو الذي يبين، الله هو الذي يميز ويقدِّم المواصفات التي توضح وتبين وتكشف {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: من الآية179]، فبماذا يميز الخبيث من الطيب؟ بماذا يكشف لنا الخبيث من الطيب في واقع الانتماء الإيماني؟ من خلال هذه الفريضة، من خلال هذا الواجب العظيم المهم، من خلال الاختبار في الموقف، ما هو موقفك؟ أين هو ولاؤك؟ ما مدى اهتمامك بهذه الفريضة العظيمة والمهمة؟ والبعض يبقى أصم وأبكم، لا يعي، لا يفهم، لا يدرك، لا يستفيد حتى من آيات الله التي هي فرقان، تفرق لك، لا تبقى تعيش حالة الالتباس، لا تبقى إمَّعة، لا تبقى خاضعاً للتأثير من هذا أو ذاك ممن يأتي تحت أي عنوانٍ ليثبطك، أو يقعدك، أو يدفع بك نحو التخاذل، هذه الفريضة العظيمة هي ذات فوائد كبيرة، ومكاسب عظيمة.
الجهاد في ميزان القربة والأجر
ولهذا عندما نأتي إلى موقعها من الفضل والأجر، الإيمان والعمل الصالح: هو قربة إلى الله -سبحانه وتعالى- نحظى من خلاله بالأجر بالفضل، نرجو به رحمة الله، نرجو به الجنة، نرجو به المغفرة، نرجو به الفضل عند الله، والأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى- هذا ما نتربى عليه كمؤمنين كمسلمين، هذا ما نتثقف به، هذا ما نكسبه من التعليم الديني، والخطاب الديني، والإرشاد الديني، أن نكون من أهل الرجاء، أن نرى في العمل الصالح قربةً نكسب بها الخير عند الله، الفضل عند الله، الأجر من الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن الله غنيٌ عنا، وعن أعمالنا، نحن من نستفيد من العمل، ولهذا يقول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية: من الآية15]، يقول الله -سبحانه وتعالى- أيضاً: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: الآية6].
في موقع القربة والفضل والأجر نجد أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يقدِّم إلينا هذا العمل وهذه الفريضة باعتبارها من أعظم الأعمال قربةً عند الله -سبحانه وتعالى- وهي العبارة التي أتى بها في القرآن الكريم لتقدِّم لنا صورة تقريبية عن عظيم فضل هذا العمل، وكبير أجره عند الله -سبحانه وتعالى- عندما قال -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: الآية10]، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ)، الحديث في الأجر، والحديث عن الفضل، والحديث عن المكاسب التي يمكن أن نحصل عليها من خلال هذا العمل، لم يعد حديثاً فقط عن أجر، وإنما عن تجارة، يعني: فَكِّر لو يقال لك: [عندما تنجز عملاً معيناً سنعطيك عليه أجراً بمقدار كذا كذا]، أما هذا العمل فالله يقول لنا: ( تِجَارَةٍ)، وأيُّ تجارة! أعظم تجارة بأكبر مكاسب يمكن أن تتحقق للإنسان في حياته في هذه الدنيا، يعني: ليس هناك أي تجارةٍ على الإطلاق يمكن أن يتحقق من خلالها مكسب للإنسان، وتتحقق للإنسان من خلالها ما يتحقق له من هذه التجارة التي دلَّ عليها مَنْ؟ الله الغني الحميد، ذو الفضل العظيم، الله -سبحانه وتعالى- قد يمثِّل العرض من غنيٍ وتاجرٍ كبير يعرض عليك أنت، وبالذات إذا كنت فقيراً، ونحن كبشر فقراء إلى الله، فقراء إلى رحمته، لا نمتلك إلَّا ما أعطانا، وأنعم به علينا، وتفضل به علينا، قد يمثِّل العرض عليك من تاجرٍ كبير، وثريٍ مشهور بالثروة، قد يمثِّل عرضاً مغرياً، وتتفاعل معه، وتنشد إليه، عندما يقول: [هل أدلك على عمل تكسب من خلاله أرباحاً كبيرة، أو أعطيك أنا من خلاله مكاسب كبيرة] وقد تتفاعل إذا كانت المسألة أكبر من هذا: دولة مثلاً ذات إمكانيات كبيرة، وقدرات وثروة هائلة، أما الذي يقدِّم هذا العرض فإنه الله -سبحانه وتعالى-.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أول مكاسبها: النجاة من عذاب الله، تكسب هذا المكسب العظيم، وأنت أحوج ما تحتاج إليه، كلٌ منا بحاجة إلى أن يسعى لما يدفع عن نفسه عذاب الله -سبحانه وتعالى- العذاب في الدنيا، والعذاب في الآخرة، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: الآية11]، (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ): فيه الخير لكم، وما وراء الخير إلَّا الشر، إذا لم نقبل ما بهذا الخير، فليس البديل عنه إلَّا الشر، وفعلاً الذين يعطِّلون هذه الفريضة من الأمم والشعوب أو من الأقوام ما الذي ستكون النتيجة؟ أن يكون في حالة من الضعف، أول ما يواجهون تحدياً أو خطراً كبيراً يكونون لقمةً سائغة، وفريسةً سهلة، يسحقون، ويضطهدون، ويظلمون، ويقهرون، بلا منعة، بلا قوة.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 11-12]، أوليس هذا مكسباً كبيراً؟ كلٌ منا أثقلته الذنوب، كلٌ منا أثقلته ذنوبه في الماضي: إما التقصير فيما قصر فيه، وهذه من الذنوب السائدة والمنتشرة بشكلٍ كبير، والتي يتهاون بها الكثير من الناس، الذنوب التي هي بشكل تقصير في واجبات ومسؤوليات وأعمال مهمة نحن ملزمون بها في ديننا، أو الانتهاك لمحارم الله، والتجاوز لحدود الله، وهي قضية خطيرة، كم لها من تأثير على الإنسان في نفسيته، في علاقته بالله، فيما يحظى به من رحمة الله، وكم تشكِّل من خطورةٍ كبيرةٍ عليه في الآخرة، ما الذي يمكن أن يوصل الإنسان إلى جهنم إلا الذنوب، هنا يقول: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:12-13]، الحديث عن هذه الفريضة، وعن هذا الأمر العظيم في ميزان القربة والأجر والفضل هو حديثٌ واسع، كم في القرآن الكريم من آيات، من ترغيب كبير، الذي يقدَّم كعرضٍ عليك هو الجنة بكلها، الجنة التي عرضها السماوات والأرض، الحياة الدائمة والأبدية، إغراءات كبيرة لا يمتلكها أي أحدٍ في الدنيا، الكثير من الناس يهلكون أنفسهم في خدمة الباطل، في صف الطاغوت، من أجل الحصول على أشياء تافهة، أموال قليلة، أو مكاسب محدودة. أما هنا فمكاسب عظيمة جدًّا مع الله -سبحانه وتعالى-.
ولهذا مما يقرِّب لنا المسألة هذه في موقع هذه الفريضة بين سائر الأعمال، ما روي عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال: (لنومةٌ في سبيل الله أفضل من عبادة ستين سنة بين أهلك، تقوم ليلك لا تفتر، وتصوم نهارك لا تفطر) هذا هو موقع العمل في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، أنَّ النومة فيه- دعك من العمل المباشر- لها هذا الفضل: أفضل من عبادة ستين في أهلك، وهذه عبادة تكون بشكلٍ مكثف (تقوم ليلك لا تفتر): الليل تحييه بالعبادة، (وتصوم نهارك لا تفطر) ولستين سنة، النومة في سبيل الله تكون أفضل من هذا بكله في ميزان الأجر والفضل والقربة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
لكي تحظى بطاقة معنوية ورعاية إلهية
هذا العمل العظيم، وهذا الأجر الكبير نحصل عليه من خلال الجهاد في سبيل الله، الذي نحن بحاجة إليه لكي نكون أمةً قوية، المسألة التي نحن بحاجة إليها نظِّمت في الواقع الإيماني؛ لأن الدين والإسلام والإيمان هو تنظيم لحياة الإنسان، وإعادة ترتيب للأداء في هذه الحياة، وللعمل في هذه الحياة، وتصحيح للدوافع، للنوايا، للتوجهات، للمواقف، للأعمال، ونظم لمسيرة حياة الإنسان، والأشياء التي لا بدَّ منها في الحياة تأتي في الواقع الديني ضمن الالتزامات الدينية، ومضبوطةً بضوابطها، وهذا هو الفارق، كل الناس في الدنيا سيسعون بمختلف أممهم وشعوبهم إلى أن يكون لهم قدرات وقوة لحماية أنفسهم، فطرة فطرهم الله عليها، في الواقع الديني والإيماني تأتي هذه المسألة ضمن ترتيب، ضمن ضوابط، ضمن مبادئ، وبشكلٍ عظيمٍ جدًّا، يتوفر فيها من عناصر القوة ما لا يتوفر لدى الآخرين، معك إضافات مهمة في الجهاد في سبيل الله تساعدك على أن تمتلك أقوى طاقة معنوية، وأن تحظى برعاية من الله، وأن تحظى بنصر من الله، وتأييد من الله -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: من الآية7]، ثم أن تضبط لك أعمالك وتصرفاتك بضوابط أخلاقية وإيمانية، وتشريعات إلهية، تقف فيها عند حدودها، وتلتزم بها في الممارسة، في التصرف، في العمل، في الموقف، لا تستخدم هذه القوة هذه القدرة في الظلم، في الطغيان، لا تتجاوز بها الضوابط الشرعية والأخلاقية والإنسانية، وتحظى بدافع معنوي كبير جدًّا، وفي نفس الوقت تحظى برعاية ونصر وتأييد من الله -سبحانه وتعالى- تعيش حالة الاطمئنان والشعور بمعيته: أنك مع الله والله معك، وفي نهاية المطاف أمرٌ أنت تحتاجه كإنسان، كأمة، كشعب، كبلد، تحتاج إليه، وإلَّا كنت عرضةً للظلم والقهر والإذلال والاستعباد.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛