المحاضرة الأولى لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى الهجرة النبوية 2 محرم 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نواصل حديثنا على ضوء ما سبق بالأمس من الحديث عن الهجرة النبوية، التي ارتبط بها التاريخ الإسلامي، كمحطة مهمة جدًّا واستثنائية ومصيرية في تاريخ الأمة، نتج عنها نتائج مهمة جدًّا، ومتغيرات كبيرة في واقع البشرية، وعنواننا الرئيسي في الحديث هو: أننا كمسلمين وكشعبٍ يمنيٍ مسلم، وكأمةٍ مسلمة، ومن واقع ما نعاني منه وما نواجهه من تحديات وأخطار وأزمات ومشاكل، نحتاج إلى العودة إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في موقعه في القدوة والقيادة، وإلى القرآن الكريم كمنهج، لاستلهام ما نحتاج إليه من دروس وعبر، وللاستنارة بنور الله -سبحانه وتعالى-، هذا الرجوع الذي يبنى عليه أن نستفيد منه الرؤية التي نسير عليها في هذه الحياة، ونبني عليها: مواقفنا، واتجاهاتنا، وتصرفاتنا، وأعمالنا، وسلوكنا…الخ. وكذلك الطاقة المعنوية التي نحتاج إليها في هذه الحياة ولمواجهة هذه التحديات، وكذلك لنكسب معية الله -سبحانه وتعالى-، في مرحلة الأمة فيها أحوج ما تكون إلى أن تكون مع الله، ويكون الله معها، هذا شيء.
عودتنا للرسول الأكرم عودة للأصالة ونبذ للزيف
الشيء الآخر: أننا كمسلمين عندما نستذكر، أو نعود إلى واقعنا من جانب، وإلى ما ينبغي أن نكون عليه من جانبٍ آخر، نجد أن الأصالة الحقيقية التي يمكننا أن نعود إليها بكل اطمئنانٍ وثقة، هي فيما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في حركته بالرسالة الإلهية، وفيما قدَّمه لنا القرآن الكريم؛ لأننا نعاني في واقعنا الداخلي كأمة من حالة الزيف، من حالة التضليل الرهيبة والهائلة، نتيجة لسيطرة الطاغوت، ونتيجة للتبعية التي عليها قطاعات واسعة من أبناء الأمة، وفئات واسعة من أبناء الأمة، أصبحت من واقع انتمائها للإسلام وللأمة في حالة تبعية واضحة ومكشوفة لأعداء الأمة، فهي تعمل لصالح الأعداء، ولكن في داخل واقع الأمة، وجزء كبير جدًّا مما نعانيه كأمةٍ مسلمة في هذا العصر هو من تلك القوى الظلامية والمنافقة، التي هي مرتبطة بالأعداء بشكل واضح، كما هو حال من يرتبطون اليوم من: حكومات، وجماعات، وكيانات، وأنظمة، وشخصيات… من كل فئات الأمة ومكوناتها مرتبطون بأمريكا بشكلٍ علنيٍ واضح، ويتحركون من هذا المنطلق: من منطلق ارتباطهم بأمريكا، فيما يخدم مصالح أمريكا، وأجندة أمريكا، ومؤامرات أمريكا، فيشتغلون في داخل الأمة على هذا الأساس.
من يثيرون الفتن اليوم في داخل الأمة من هم؟ من يلعبون أقذر وأسوء دور في تفكيك الأمة، وتفتيتها، وبعثرتها، وإغراقها في المشاكل والأزمات، ويعملون بأقصى ما يستطيعون إلى تسخير كل الإمكانات في داخل الأمة: الاقتصادية، والبشرية، والإعلامية، وتعبئة وحشد كل الطاقات في خدمة أمريكا، من هم؟ مكونات وكيانات بشكل حكومات وجماعات واتجاهات متعددة من داخل الأمة، ينتمون للإسلام، ويعملون لمصلحة أمريكا.
سيطرة الطاغوت، والتبعية لمكونات واسعة من داخل الأمة لأعداء الأمة، تبعيتهم لأعداء الأمة مثَّل مشكلة كبيرة جدًّا في واقع الأمة، ولعب لعبةً كبيرة في تقديم عملية تزييف كبيرة لصنع اتجاهات تحسب على الإسلام، وما هي من الإسلام، وتحسب على أنها هي ما يعبِّر عن الدين الإسلامي، وهي انحراف- بكل ما تعنيه الكلمة- عن حقيقة ما عليه الدين الإسلامي، فالأصالة في امتداد الإسلام تتحقق من خلال عودتنا إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في حركته بالإسلام، مع القرآن الكريم كمنهج، هذا يفيدنا.
وإذًا، كان حديثنا بالأمس ركَّز على أن من المعالم البارزة والرئيسية والجلية والواضحة والكبيرة في القرآن، في عناوين الإسلام ومبادئه الرئيسية، في حركة الرسول، وفي ما ترجمه بالفعل وبالقول على أرض الواقع: التحرر من الطاغوت، والاستقلال والانفصال عن أي حالة تبعية خارج الساحة الإسلامية لأعداء الأمة، هذا كان معلمًا واضحًا في حركة الرسول، وعلى أساسه كانت هجرته، لم يبقَ في مكة ليتأقلم مع وضعية هي وضعية سيطرة للطاغوت، ويبني واقعه على أساس من المصالح المشتركة مع الطاغوت، والتأقلم بالتنازل عن مبادئ وقيم وتشريعات إلهية، والإبقاء على بعضٍ، وإزاحة البعض الآخر الذي ينزعج منه الطاغوت، ثم الدخول في عملية تأقلم مع الطاغوت. لم يفعل ذلك أبدًا، واتجه في مسيرته بالإسلام اتجاهًا واضحًا، حتى مكَّنه الله من تحطيم كل كيانات الطاغوت، وساد الإسلام في الجزيرة العربية بكلها.
أيضًا كان من المعالم البارزة والرئيسية: أنَّ الإسلام دين نور ووعي وبصيرة، وعندما نعود إلى أعظم ما في الإسلام هو القرآن، ويعتبر مصدرًا رئيسيًا للإسلام، والقرآن الكريم هو نور الله لعباده، سمَّاه بصائر، وسمَّاه نورًا، {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: من الآية104]، ومن أعظم ما في القرآن الكريم أنه يصنع لدى الإنسان وعيًا عاليًا جدًّا تجاه مفاهيم الإسلام الصحيحة والسليمة، وأيضًا تجاه الواقع من حوله، وتجاه التشخيص للناس، لفئاتهم، يشرح لنا شرحًا واضحًا وواسعًا جدًّا عن المنافقين، عن الذين في قلوبهم مرض، عن أصحاب الادعاءات الكاذبة، الذين يحاولون أن يستغلوا الأمة، تصنيف دقيق وواضح، وتشخيص بصفات وعلامات وسمات تشخِّص لنا كل فئة من الفئات، سواءً من الفئات المحسوبة على المسلمين والإسلام، أو الفئات الأخرى، من خارج الأمة الإسلامية، ثم يحدد لنا الموقف الصحيح من كل فئة من تلك الفئات، يقدِّم وعيًا عاليًا يحمي الأمة من الاستغلال، ومن الخداع، ومن التضليل، يحمي الأمة من أن تتحول إلى أداة لصالح أي طاغية، أو مجرم، أو منافق، أو عميل، أو خائن… والأمة أحوج ما تكون إلى الوعي في كل شيء، وإلى البصيرة في كل شيء، وحاجة مُلِحَّة، وحاجة ماسَّة جدًّا، الاستفادة من القرآن الكريم في ذلك مسألة ضرورية جدًّا، وإلَّا فالبديل هو الضلال، وهو العمى، وهو أن يكون لدى الإنسان قابلية لأن يخدعه أي مخادع، ويضلَّه أي مضل، يهودي، وإلَّا منافق، ويضلك بكل بساطة.
المعلم الثالث:
الإسلام دين زكاء وطهارة ومكارم أخلاق
من المعالم التي وصلنا إليها: أن الإسلام دين زكاء، وطهارة، ومكارم أخلاق، وسمو للنفوس، وهذا جانبٌ مهمٌ ورئيسيٌ في الإسلام في أصالته، الأصالة التي تقدِّم لنا الفوارق ما بين الزيف وما بين الحقيقة، ما بين الاتجاه الصحيح الذي يربطنا برسول الله وبالقرآن، وما بين الاتجاه الزائف الذي يربط الأمة بتبعية إلى أعدائها، ويوَّلِّف شكلًا مزيفًا يحسب على الإسلام، ويربط الأمة بأعدائها، ويُدجِّن الأمة لإعدائها، ويُسَخِّر الأمة لأعدائها.
فمن أهم الجوانب الرئيسية في الإسلام هو هذا الجانب: الزكاء، مسألة التزكية للنفوس، حتى تستقيم في هذه الحياة وتصلح، الإنسان لا يمكن صلاحه إلَّا بالتزكية، وإلَّا فالإنسان يتأثر سلبًا، وتتدنس نفسيته، ثم يتصف بمساوئ الأخلاق، وتصبح نفسيته المدنسة ميَّالةً نحو كل ما هو سيء، وبالتالي لديها قابلية للارتباط بكل جهات الطاغوت، بكل جهات الشر، والانسجام معهم، يصبح مرتاحًا جدًّا للارتباط بالصهاينة، باليهود الصهاينة، بالأعداء بكل أشكالهم وفئاتهم، بالمنافقين، أو بأولياء المنافقين من أعداء الأمة؛ لأنه يُحِس بالانسجام النفسي معهم، نفسية مدنَّسة، نفسية خبيثة، نفسية سيئة.
الإنسان يحتاج إلى زكاء النفس، ولا يمكن له الاستقامة على منهج الله إلَّا بتزكية النفس، وإلَّا إذا خبُثت النفس وفسدت النفس، اتجه الإنسان اتجاهًا سيئًا في واقعه العملي، في سلوكه، في تصرفاته، ثم في الأخير في ولاءاته وفي مواقفه، ولا يرى نفسه- في الأخير- منشدًّا بشكلٍ صحيح، بشكلٍ قوي، بشكلٍ فعَّال لمنهج الله -سبحانه وتعالى-، بل يرى نفسه قد ابتعد كثيرًا عن ذلك المنهج الإلهي، ولذلك كان من المهام الرئيسية للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وللقرآن كذلك: التزكية للنفس البشرية، وهي مهمة رئيسية للأنبياء بكلهم، وللرسل بكلهم، ولكتب الله بكلها، ومساحة كبيرة من جهد الأنبياء، ومساحة كبيرة من كتب الله -سبحانه وتعالى- اتجهت إلى النفس البشرية بهدف تزكيتها، على مستوى ما يقدم، على مستوى التعبئة الروحية والإيمانية، وعلى مستوى الجانب التربوي، وعلى مستوى الكثير من التشريعات فيما أمرنا الله به، وكذلك فيما نهانا عنه، انصب ذلك- في كثيرٍ منه- نحو تزكية هذه النفس البشرية، فيما يسمو بها، فيما يعزز فيها عناصر الخير.
خصائص النفس البشرية
النفس البشرية هي قابلة لأن تتربى على مساوئ الأخلاق، أو على مكارم الأخلاق، لأن تنمو فيها عناصر الخير، أو تنمو فيها عناصر الشر، لأن تنمو فيها بذرات التقوى، أو تنمو فيها بذرات الفجور، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7-8]، ثم يقول -جلَّ شأنه-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9-10]، فالنفس البشرية أُلهِمَت التقوى وأُلهِمَت الفجور، ولديها القابلية للتقوى، ولديها القابلية للفجور، ولديها القابلية للتربية على الخير، وحبّ الخير، وعناصر الخير، والسمو، والعشق لمكارم الأخلاق… ولديها كذلك القابلية لأن تتنامى فيها كل عناصر الشر والسوء ومساوئ الأخلاق، فيمكن للإنسان أن يتربى على الصدق، وعلى الطهارة، وعلى العفة، وعلى إرادة الخير، وعلى الشجاعة، وعلى الكرم، وعلى السماحة، وعلى الإيثار، وعلى الإحسان وعلى الكثير من القيم ومن مكارم الأخلاق والقيم الفاضلة، وأن تصبح تلك القيم والأخلاق بالنسبة له أمورًا يحبها، ويعشقها، ويرغب فيها، ويندفع فيها؛ وبالتالي يلتزم بها كمسار أساسي في حياته، إن خرج- أحيانًا- في حالة من الخطأ أو الزلل كان سريع العودة؛ لأن الجذور باقية.
يمكن للإنسان أيضًا أن يتربى على الكذب، وعلى الفجور، وعلى العصيان، وعلى الدناءة، وعلى الانحطاط، وعلى التنصل من الوعي والضمير، وعلى قلة الحياء… وعلى كل عناصر السوء، ويمكن أن يتنامى في ذلك، ويكبر في ذلك، حتى يصل إلى درجة أن يتحول إلى شيطان، عندما يصبح مصدر شر في هذه الحياة، عندما يصل إلى الإفلاس من كل عناصر الخير في نفسه، وتسيطر عليه كليًا عناصر السوء والشر، وبذرات الفجور تكبر وتتجذر حتى تسيطر على كل مشاعره وإحساسه ووجدانه، يصبح إنسانًا عديم الخير، عديم الرحمة، عديم الفضل، منعدمًا في مكارم الأخلاق، ويتجه للعب دور سلبي في هذه الحياة.
ولهذا يتحدث القرآن الكريم عن الاختلال في الولاء، فيجعل مرده اختلالًا في زكاء النفوس، عندما يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 51-52]، هذه حالة غير صحية، غير سليمة أبدًا، اختلال في زكاء الإنسان، الإنسان الذي يفعل ذلك عنده اختلال كبير في واقعه النفسي، في مشاعره، في وجدانه، في العناصر الداخلية، في مكارم الأخلاق، عنده إما جُبن، أو بخل، أو شك، أو أي آفة من الآفات الخطيرة جدًّا التي تفتك بالإنسان فيما يحمله ابتداءً من عناصر الخير، وتؤثِّر حتى على فطرته، تبعده حتى عن مقتضى الفطرة؛ لأن الحالة السليمة للإنسان أن يبقى بمقتضى الفطرة متجهًا الاتجاه الإيجابي، وأن تنمو فيه عناصر الخير.
فإذًا، جانب التزكية للنفس، والتربية الإيمانية، والتربية الصالحة للنفس على مكارم الأخلاق؛ حتى تتجذر جذور مكارم الأخلاق في نفس الإنسان، يصبح إنسانًا تربَّى على العفة، والعفة بمثل ما هي سلوك، هي قبل ذلك وجدان ومشاعر وإحساس في الداخل، في العمق النفسي، في عمق المشاعر والوجدان، هي عقيدة، وهي وجدان وإحساس، ثم هي سلوك كذلك.
يأتي إلى جانب الصدق، إلى جانب الخير، إلى جانب الحق، إلى جانب كل الأشياء الإيجابية، كل العناصر الإيجابية المعروفة بالفطرة، ويعترف كل البشر بأنها صحيحة، وأنها تمثِّل السمو في واقع الحياة، مثلًا: من الأشياء التي تشهد أن أصل الفطرة البشرية تُقِرُّ بمكارم الأخلاق، وتعتبرها هي التي تمثِّل السمو للإنسان، أن الكل يعترف بها، يعترف الناس أن العفة قيمة أخلاقية راقية، وأن الفجور دناءة وانحطاط وخسة ونقص، وكذلك- مثلًا- ينظرون إلى الصدق مثلًا، أن الصدق يمثِّل قيمة من القيم الأخلاقية الراقية، بينما الكذب يمثِّل حالة من الانحطاط والخسة والدناءة والنقص، يقرُّون- مثلًا- بأنَّ العدل خير وسمو وشرف وفضل، وأن الظلم- كذلك- يمثِّل حالة من الانحطاط، وحالة من السوء، وحالة من الشر.
فعندما نأتي إلى العناوين كعناوين: الخير، العدل، الحق، الصدق، العفة، الحياء… الفضائل بشكل عام، المجتمع البشري يعترف بالفضيلة كفضيلة، ويعترف- أيضًا– بالرذيلة باعتبارها رذيلة، تمثِّل انحطاطًا بالإنسان، وسوءًا في واقع الإنسان، ولكن يتجه الكثير من الناس باتجاه آخر، ثم يبررون ويخادعون ويضللون ويزيفون، ويعملون أشياء كثيرة في المقابل.
فالإسلام يعطي أهمية كبيرة للتزكية، والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من مهامه الرئيسية العمل على التزكية، يقول الله -جلَّ شأنه-: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: الآية151]، فهو يقول: {وَيُزَكِّيكُمْ}، أيضًا نجد في القرآن الكريم تركيزًا كبيرًا جدًّا على التزكية، فمثلًا: كثيرٌ من الجوانب الإيمانية هي تساعد الإنسان على زكاء النفس: الإيمان بالله -جلَّ شأنه- كما في القرآن الكريم، الإيمان بألوهيته، وربوبيته، وملكه، ورقابته، وجزائه، وأسمائه الحسنى، وأنَّه العزيز والمنتقم، وعالم الغيب والشهادة، والشاهد على العباد… إلخ. الإيمان بالمعاد، والحساب والجزاء، والجنَّة والنَّار، كل ذلك يساعد الإنسان على تزكية نفسه، وعلى الاستقامة في هذه الحياة، يمثِّل حافزًا كبيرًا جدًّا، وباعثًا مهمًا للتزكية.
عندما نجد كثير من التشريعات، يأمرنا الله بأشياء هي في نفسها التزام بما فيه زكاءٌ للنفس، أو بما يحمي النفس البشرية ويحفظها من مؤثرات سلبية أخرى تدنِّسها وتؤثِّر على زكائها، كذلك فيما نهى الله عنه، أشياء كثيرة نهى عنها باعتبار تأثيرها السلبي على زكاء النفوس، وهكذا لنلحظ أنَّ من العناصر الرئيسية والمهمة جدًّا هو هذا الجانب، وأنَّ الإسلام أعطاه اهتمامًا كبيرًا ومساحة كبيرة، سواءً في الجانب الروحي، في الجانب التربوي، في الجانب التشريعي، أهمية كبيرة جدًّا، وبقدر ما تبقى الأمة مهتمة بهذا الجانب، بقدر ما تجد نفسها منسجمة مع الحق، ومبتعدة بنفسها عن طريق الباطل، عن التبعية للأعداء؛ لأن أولئك الأعداء الذين يرتبط بهم البعض هم في واقعهم منبع للفساد، منبع للشر، منبع للرذائل.
لو نأتي اليوم إلى الصهيونية العالمية، إلى أمريكا، حتى طريقة غزوها للشعوب، وسعيها للسيطرة عليهم، مساحة كبيرة من أنشطتها وأساليب استهدافها للشعوب عن طريق مساوئ الأخلاق، عن طريق الرذائل، عن طريق المفاسد، تجعل من هذا الأسلوب بنفسه وسيلة للسيطرة على الشعوب نفسها، تُوجِد بيئة تساعد على الفساد، وتستغل تلك البيئة بما أوجدت فيها من وسائل وعناصر، وتعمل لذلك بكل الأساليب، فإذا أفسدت بيئةً معينة، أو شعبًا معينًا، أو مجتمعا معينًا، أو بلدًا معينًا، فهي تضمن سيطرتها عليه، وأنَّه قد فَقَدَ كل حالات المَنَعَة النفسية عن سيطرة الآخرين.
أهمية العزة الإيمانية في الإسلام
مثلًا، من القيم المهمة والعظيمة: العزة، العزة بمفهومها الإيماني لا تبقى مع الدناءة، مع الانحطاط، مع مساوئ الأخلاق. لا، تحتاج العزة إلى مكارم الأخلاق، وإلَّا الإنسان إذا أصبح منحطًا، سيئًا، فاسدًا، يمكن له أن يقبل بالهوان، يمكن له أن يقبل بسيطرة الأعداء، يمكن له أن يقبل بأي شيء، فهذا الجانب يمثِّل جانبًا رئيسيًا جدًّا في الإسلام، ومهمًا، مع ما سبق من وعي؛ لأن الإنسان لا يكفيه مسألة وعي وفهم، كثير من الناس يمكن أن يكون واعيًا، أو فاهمًا، أو عارفًا كمجرد معرفة ذهنية، لكن إذا لم يكن مع هذه المعرفة زكاء نفس؛ فيمكن أن يفعل الغلط وهو يعرف أنه غلط، يمكن أن يتجه في صف الباطل وهو يدرك أنه يتجه في صف الباطل، البعض يصل إلى درجة أن يبيع نفسه وموقفه وينظم إلى صف الباطل، بكل ما يفعله أولئك الذين ينظم إلى صفهم، ما هم عليه من أهداف سيئة، وما يرتكبونه من جرائم فظيعة، ولا يتحرج، لم يعد فيه حياء أصلاً، ولا يتحرج أبدًا في أن يكون في صفهم، لماذا؟ نفسيته خبثت وتدنست، وانعدمت فيه مكارم الأخلاق، ومات ضميره، لم يعد عنده ضمير حيّ، مات ضميره، وجدانه الإنساني وإحساسه الفطري المنجذب نحو الخير والنافر من الشر خلاص انتهى، تدنس وتدنس وتدنس حتى انتهى وتغلَّب عليه، انطمس، فاتجه بكل جرأة، ثم تجرَّأ- في الأخير- إلى أن يصل إلى مستوى سيء، فلا يكفي وعي، أو معرفة ذهنية ومعرفة عادية إذا لم يترافق معها زكاء للنفوس.
المعلم الرابع:
الإسلام دين العدل والقسط
أيضًا من العناصر المهمة والرئيسية في الإسلام: أنَّه دين عدل، دين عدل، من المحاور الرئيسية فيه: العمل على إقامة العدل في واقع الحياة، ومحاربة الظلم والطغيان والإجرام، وهذا عنصر رئيسي في الإسلام، ونجد في القرآن الكريم تأكيدًا كبيرًا جدًّا، لدرجة أنه جعل هذه المسألة رئيسية في رسالات الله بكلها، من أولها إلى خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، الله -جلَّ شأنه- يؤكِّد هذا في القرآن الكريم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: من الآية25]، فالقسط يعتبر في دين الإسلام مسؤولية رئيسية على الناس، على كل منتمٍ لهذا الإسلام أن يدرك أنَّ من مسؤولياته، من التزاماته الدينية أن يكون ساعيًا لإقامة العدل في هذه الحياة، وضدًا للظلم والطغيان، هذه مسألة مهمة جدًّا، وغابت في الساحة، غابت إلى حد كبير، وأصبح الكثير من المنتمين للإسلام يعتبر نفسه غير معنيٍ نهائيًا بهذا الأمر، يحصل ظلم، وهذا الزمن فيه مظالم كبيرة جدًّا، عندما ننظر إلى ظلم تحالف العدوان لشعبنا اليمني، ظلم إسرائيل للشعب الفلسطيني، ظلم هنا وهناك، الساحة الإسلامية ممتلئة بالظلم.
ونحن نقول: أنَّ هذا الواقع الذي تعيشه الأمة في المنطقة العربية وفي بلدان كثيرة يشهد على فجوة كبيرة عن أشياء مهمة وأساسية في الإسلام، يشهد على مستوى وحجم الانحراف الذي حصل في واقع الأمة عن أساسيات هذا الإسلام؛ لأن المسلمين وصلوا إلى حالة واقعهم فيها هو أسوء واقع في العالم، الظلم في ساحتهم أكثر من أي ساحة عالمية أخرى، بيئة مفتوحة أمام الفساد، بيئة مفتوحة أمام الضلال، بيئة يتلعَّب فيها أعداء الأمة بكل بساطة، بيئة يتحرك فيها الكثير من أبناء الأمة، من المنتسبين للأمة وإلى دينها في خدمة أعدائها بكل وضوح، علانية، ويفاخرون بذلك، وبيئة فيها كل أشكال وأنواع المفاسد، وفيها سهولة في عملية الاستقطاب من كل فئات الضلال، كل فترة وأنت تسمع بفئة ضالة جديدة تستقطب من داخل الساحة العربية، كل فترة وأتى عنوان وأخذ له ما أخذ، هذه الحالة غير صحية، غير سليمة، غير طبيعية، حالة خطيرة جدًّا في واقع الأمة هي تستدعي أن يلتفت الناس بجدية إلى معرفة مستوى الخلل، وما ينبغي على الأمة، وما عليها من مسؤولية في معالجة هذا الخلل، وفي أن تتجه الاتجاه الصحيح الذي يصلح واقعها؛ لأنه لا إمكانية أبدًا للتغيير نحو الأفضل إلَّا بذلك: بالاتجاه الجاد بدءًا بتغيير ما بالأنفس، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد: من الآية11].
عندما نأتي إلى هذه العناوين الرئيسية: التحرر من الطاغوت، والطاغوت هو المسيطر على معظم أبناء الأمة، أنه يجب أن نكون مستقلين، وسليمين عن أي تبعية لأي قوى أخرى من خارج ساحتنا الإسلامية، ونجد أكثر أبناء الأمة في حالة من التبعية لأمريكا وإسرائيل والغرب، ونأتي إلى عنوان: النور والوعي والبصيرة، ومعظم أبناء الأمة يعانون بشكل كبير جدًّا من أزمة- بكل ما تعنيه الكلمة- ونقص حاد جدًّا يصل عند البعض إلى انعدام الوعي نهائيًا، البعض ما عنده حالة ولا مستوى واحد بالمائة من الوعي، إفلاس رهيب جدًّا، وقابلية للتضليل والخداع والتأثر بأي شيء يصل، البعض عنده حواسه هذه (سمعه وبصره) كالصحن اللاقط، يستقبل كل بث، ويتأثر بكل ما يصل إليه.
مسؤولية الأمة الإسلامية
ثم نأتي إلى مسؤوليتنا كأمة مسلمة للعمل على إقامة العدل، وقد صرنا بعيدين عن إقامة العدل في واقع أنفسنا، دعك عن إقامة العدل في بقية العالم، في بقية البشرية، فساحتنا هي الساحة المليئة بالظلم والعدوان، والجرائم فيها بشكل بشع جدًّا، ويأتيك من ينتسب للإسلام يرتكب أبشع الجرائم: القتل الجماعي للأطفال والنساء، وإهلاك الحرث والنسل، وفي بلده المآذن التي يتردد فيها الأذان، ومع ذلك يفعل كل ذلك ولا يبالي بكل جرأة، خراب كبير وانحراف رهيب جدًّا.
إذا كان لدينا وعي بأن من مسؤولياتنا كمسلمين أن نعمل على إقامة العدل، هذا يحتاج إلى تحرك جاد، إلى مسؤوليات عملية، إلى وحدة كلمة، وإلى تحرك بجدية في الواقع لإقامة العدل، ولا يمكن أن نقيم العدل إلَّا وأن نحارب الظلم، هناك في الساحة فئات ظالمة، مكونات ظالمة، من داخل الأمة ومن خارج الأمة، إذا أردنا أن نقيم العدل لابدَّ أن نقف بوجه أولئك الطغاة، الظالمين، المتسلطين، المجرمين، هناك كيانات كبيرة (دول، حكومات) متسلطة، ظالمة، ولا يمكن أن ندفع ظلمها إلَّا بموقف، بتحرك، بتحمل مسؤولية، بجدية.
فالإسلام دين عدل وقسط ولا يقبل أبدًا بأن يعبِّر عنه أولئك الطغاة، الظالمون، الجائرون، المفسدون، يأتيك طاغية مجرم من موقعه في السلطة، وهو يوالي أمريكا، ويتحرك في خدمة أمريكا، ويقدِّم نفسه واليًا باسم الإسلام، وحاكمًا باسم الإسلام، ويقدِّم نفسه كملك، أو أمير، أو بأي صفة من الصفات بأنه يمثِّل الإسلام، ويمثَّل الأمة الإسلامية، في الوقت الذي هو- حسب التوصيف القرآني- ظالم، وطاغية، ومجرم، ومنافق، وفاسق، وفاجر… إلى آخر التسميات القرآنية التي تنطبق عليه بما يفعل، بما يتصرف، بما هو فيه: في ولاءاته، في تبعيته لأعداء الأمة، في اتجاهاته، في سياساته، في كل ما هو عليه.
فالإسلام دين عدل، ودين قسط، والله هو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: من الآية135]، هذا أمر من الله -سبحانه وتعالى- لكل الذين يحسبون أنفسهم على هذا الإسلام أن يكونوا (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، وهذا يعني مسئولية مستمرة، يعني: ليست المسألة هبَّة في وقت معين، وانتهى الموضوع، (قَوَّامِينَ) حالة أنتم مستمرون عليها، مسيرة حياة، ومنهج حياة، ومسار مستمر؛ لأنه لا يمكن إقامة القسط إلَّا بهذا، أن تكون المسألة مسألة مسيرة مستمرة، عمل مستمر، نشاط مستمر، أما أن المسألة مسألة هبَّة وانتهى الموضوع، فهذا لا يمكن، {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ}، وفي آية أخرى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} [المائدة: من الآية8]، ومؤدَّى الآيتين واحد، في النهاية هي مسؤولية نتحرك بها في واقع هذه الحياة.
فأن يتصور البعض أنَّ بالإمكان أن يكون معبِّرًا عن الإسلام في أصالته، في امتداده الصحيح، في الاقتداء برسول الله والتمسك بالقرآن، ويكون إما في صف الطغاة، الظالمين، المجرمين، الذين يميتون العدل بتبعيتهم لأعداء الأمة، ويظلمون الأمة بما هم عليه، وبما هم فيه، وما يفعلونه، وما يمارسونه، أو أن يتغاضى، وأن يصمت، وأن يجمد، وأن يترك الساحة مفتوحةً أمامهم، ولا يسعى لإقامة العدل وإماتة الظلم، ويعتبر نفسه في الموقف الصحيح، أو الاتجاه الصحيح، هو مخطئ بكل ما تعنيه الكلمة، وهو بعيد عن المسار الصحيح للإسلام في معالمه المهمة والرئيسية.
نكتفي اليوم بهذا المقدار في حديثنا…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛