المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 16 رمضان 1443هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
لا يزال الحديث على ضوء قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: من الآية2].
تحدثنا بالأمس كيف أنَّ الإسلام دينٌ جامع، يبني الأمة، ويجمعها، ويَنظِم حركتها، ويؤسس حالة التعاون بين أبنائها، حالة التعاون التي لابدَّ منها في واقع المجتمع البشري؛ لتستقيم بها شؤون حياة البشر، فالإسلام كما حتى في الجانب الروحي والشعائر الدينية، نظَّم حالة الأداء الجماعي لها، كصلاة الجماعة، كفريضة الحج وشعائر الحج والعمرة… وغير ذلك من الشعائر التي يجمع الأمة عليها في زمنٍ واحد، كصيام شهر رمضان، وأداءٍ واحد، وأداءٍ تعاونيٍ، يساعد الجميع في أداء مسؤوليتهم، وبذلك تتظافر الجهود، تتكامل المواهب والقدرات، فيتبارك الجهد والعطاء والأثر، وتكون النتيجة نتيجةً مهمةً، وعظيمةً، وكبيرة.
كذلك في المسؤوليات، المسؤوليات الدينية، والالتزامات الدينية الجماعية، كالجهاد في سبيل الله، كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالإنفاق في سبيل الله، مسؤوليات تعتمد بشكلٍ كبير على التعاون، على الأداء الجماعي، على التحرك من الجميع كأمةٍ واحدة، وهذا له أهميته الكبيرة في أثره العظيم على مستوى النفوس، على مستوى الواقع العام للمجتمع، عندما يصبح واقعاً يسوده التعاون، والألفة، والاجتماع على الخير، على البر، على التقوى، على ما فيه المصلحة الحقيقية للمجتمع، على ما يسهم في تزكية النفوس، وتقويم الأعمال، وتصحيح السلوك لدى المجتمع، فيكون لذلك الأثر المبارك في نفس الإنسان على المستوى الشخصي، نفس المجتمع على المستوى المجتمعي، ثم كذلك في واقع الحياة، ثم أكثر من ذلك: في المستقبل الأبدي العظيم في الآخرة.
في القرآن الكريم يأتي الحديث عن البر، عندما قال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وأمَّا الحديث عن التقوى، فهو كذلك في مساحة واسعة من القرآن الكريم، في البر الذي يعني: أن يجمع الإنسان الخير، وأن يتسع فيه، وأن يتجاوز ذاته في عطائه، في اهتماماته العملية، في أعماله، وأن يتجه على نحوٍ متكامل، لا ينحصر في اهتماماته واتجاهاته على جوانب معينة، منبعها مزاج النفس، أهواء النفس، رغبات النفس، بل يتجه على نحوٍ واسع وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ساعياً نحو التكامل، نحو أن يجمع الخير، وأن يجمع الفعل الحسن، وأن يجمع كل ما فيه الإحسان والنفع والخير، فأن يتكامل في ذلك، وأن يتجه فيه على النحو الذي أراده الله “سبحانه وتعالى”، فيما وجَّه به، وأمر به، وأرشد إليه.
يقول الله “سبحانه وتعالى” في آيةٍ مهمةٍ في القرآن الكريم تتحدث لنا عن البر، وتقدم لنا التعريف المهم وفق عناوين جامعة، تدل على ما وراءها: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: من الآية177]، قبل أن يقدِّم العناوين المعبِّرة عن البر، ابتدأ لمعالجة مشكلة تطرأ لدى الكثير من الناس، وهي: أنهم يسعون إلى أن يحددوا هم لأنفسهم وفق رغباتهم، ووفق مزاجهم الشخصي، اهتماماتهم فيما يتعلق بجانب البر، والخير، والإحسان، والعمل الصالح، وأن يحددوا لأنفسهم الأولوية في ذلك، في نطاقٍ محدد، في اهتمامات بسيطة، على حسب المزاج الشخصي، وعلى حسب هوى النفس، وهذه سلبية خطيرة لدى الإنسان، فقد يتجه الإنسان في اهتمامه بهذه الأمور على نحوٍ شكلي، يقتصر على بعض الأمور، ويترك الأهم، ويترك ما لابدَّ منه في أن تكون من الأبرار، وفي أن تكون ممن يعملون البر، ممن يقدِّمون البر، ممن لديهم اهتمامات بالبر على المستوى الشخصي، ثم أيضاً على مستوى التعاون على ذلك، وهذا قد يجعل البعض لا يتفاعلون مع كثيرٍ من البر، من أهم موارد البر، من أهم مجالات البر، التي قد تكون كثيرٌ منها في حدود الواجب، واللازم، والذي لابدَّ منه في أن تتحقق لك هذه المواصفات المهمة والعظيمة؛ لكي تكون من أولياء الله، من الأبرار، من ذوي البر، فقد لا يتفاعلون مع الكثير من الأمور، وقد يتجهون- كما قلنا- وفق اهتمامات بسيطة فصلوها هم تفصيلاً وفق مزاجهم الشخصي، وليس على أساس إرشاد الله، هدي الله، تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، ما يدلنا عليه، ما يرغِّبنا فيه.
فالله “سبحانه وتعالى” يعالج لدينا هذه المشكلة، والتي هي حالة قائمة لدى الكثير من الناس، تراهم يظهرون بمظهر المتدين، الصالح، العابد، ولكن عندما تأتي إلى اهتماماته، تجدها منحصرةً مثلاً في الجانب العبادي، على ما يقولون في التعبير العامي [من بيتك إلى مسجدك، وما لك حاجة]، تقتصر اهتماماته على مثلاً الحضور للصلاة في المسجد، والمسبحة في يده، ويعود إلى منزله، ذهاباً وإياباً للفرائض، ثم هو ذلك الذي يتنصل عن كل الالتزامات، وعن العطاء في مقام العطاء الذي أمر الله به، عن الاهتمام بالمسؤوليات الإيمانية والدينية، لا يتفاعل مهما كان حجم المستجدات والأحداث، مهما كانت الظروف والمتغيرات، مهما كانت الوقائع، والمحن، والظروف، التي تستوجب من كل إنسان، بل وتُحَرِّك ضمير كل إنسانٍ لا يزال ضميره حياً، فيتفاعل، ويتأثر، ويبادر؛ لأنه يجد نفسه حتى على مستوى مشاعره مندفعاً لفعل الخير، للتفاعل، لتقديم ما ينبغي أن يقدِّم، للإسهام بما ينبغي أن يسهم فيه.
فهذه الحالة التي يركِّز الإنسان فيها على جوانب شكلية في دين الله، في اهتماماته العملية، يقتصر عليها، يتجه اهتمامه نحوها، هي الحالة التي يوجِّه الله “سبحانه وتعالى” بالحذر منها، وأنها ليست عنواناً للبر كما هو، في حقيقته، في مفهومه الواسع، مفهومه الكامل، مفهومه الصحيح، بل هي حالة اجتزاء فُصِّلَت وفق هوى النفس.
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: من الآية177]، فيتجه كل اهتمامكم نحو القبلة، نحو الصلاة، بتلك الشكلية، بتلك الطريقة التي تجعل من الموضوع قد أخذ كل الاهتمام، تجعل منه الموضوع الرئيسي، الذي ينحصر نحوه الاهتمام، لا في هذا ولا في غيره، لا في هذا ولا في غيره، هذا نموذج يقدمه القرآن، عادةً ما يقدم نموذجاً معيناً، وهو- في نفس الوقت- يفيدنا تجاه غيره من بقية الأمور والمسائل، التي هي على نفس النسق، على نفس الطريقة، على نفس الاتجاه، الذي ليس اتجاهاً صحيحاً يرضي الله “سبحانه وتعالى”.
فالأسلوب المتحايل، أحياناً يكون بطريقة التحايل، البعض يتصور أنه قد أحكم الخطة حتى ما بينه وبين الله، سيرضي الله ذلك الشيء المعين، الذي قد اقتصر على الاهتمام به، وسيجعله على حساب بقية الأشياء، فيبرر عدم اهتمامه ببقية الأشياء، باهتمامه بذلك الشيء، مع أنَّ الدين لا يتعارض فيما بينه، يمكنك أن تعتني بصلاتك، وأن تقيمها، وأن تهتم بها، وأن تهتم بالمسجد، ولكن لا يعني ذلك أن تتنصَّل عن بقية التزاماتك واهتماماتك العملية الأخرى، أو أن تجعل شيئاً على حساب شيءٍ آخر، وبديلاً عن شيءٍ آخر، وكأن الدين يتناقض فيما بينه، وكأن الالتزامات الإيمانية متناقضة فيما بينها، تؤدي هذا، فتجعل أداءه مبرراً لترك ذلك، هذا غير مقبول في دين الله “سبحانه وتعالى”.
فالأسلوب المتحايل والقاصر في تحديد البر، في تحديد أولوياته، مثلاً: البعض قد يركِّز على أن يعتمر في شهر رمضان في كل موسم، ويجمع ماله كله لذلك، ويترك- في نفس الوقت- التزامات ذات أهمية كبيرة جدًّا، كثيرٌ منها تدخل ضمن الالتزامات الأساسية الإيمانية، فالإنسان يركز في مستوى الأولويات على الالتزامات الإيمانية الأهم، وما لحقه بعد ذلك فجيد، فطيب، فخيرٌ وبر، وما لم يصل إليه من بقية الأمور، بعضهم يركِّز على مستحبات، على مندوبات، على مسنونات، ويترك ما هو أهم، وأقدم، وألزم، وأعظم، وأكبر، تحدث عنه القرآن كثيراً، أمر الله به كثيراً، فيتجاهله؛ لأنه يرى في الذي قد اتجه باهتمامه إليه بديلاً عن ذلك بكله، وبديلاً مريحاً، أعجبه، ناسبه، وفق رغبته الشخصية، هذه خطيرة على الإنسان.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ}، بعد أن يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، فالعنوان الأول للبر هو الإيمان، هو الإيمان؛ لأنه المبدأ والأساس الذي يمثل المنطلق والدافع، الذي تنطلق في واقع الحياة فيما تعمل، وفيما تقدِّم، وفيما تفعل، وفيما تؤتي، على أساسه، انطلاقةً إيمانية، الدافع فيها دافعٌ إيمانيٌ؛ لأن البعض مثلاً قد يندفع بدوافع أخرى، فَيُقَدِّم ما يقدم تحت عنوان البر والإحسان والخير، لكن يقدمه مثلاً بدافع الرياء، أو بدافعٍ ماديٍ، بدافع السمعة، أو بدافع المكاسب المادية، أو بدافع ليغطي على أشياء سلبية أخرى، أو ليحقق مطالب أو أهداف سياسية، أو مكاسب شخصية أخرى.
حتى البعض مثلاً ممن يتاجرون في المحرمات، يأتي أحياناً ليقدم شيئاً من الأموال، ويظهر نفسه أمام محيطه المجتمعي وكأنه كريم، كأنه معطاء؛ ليكتسب عاطفتهم، وليكتسب مودتهم ومحبتهم، وليوفر له- وقت الحاجة- التعاطف الاجتماعي، عندما يواجه مشكلةً معينة، نتيجةً لاتجاهه في الإتجار بالمحرمات وما شاكل، يواجه مشكلةً من هنا، ومشكلةً من هناك، فإذا به يحظى بالتعاطف المجتمعي؛ لأنه كان- في ظاهر الحال- محسناً إليهم، كريماً، يقدِّم لهم البر، يحسن إليهم، فيحظى بالتعاطف، هو أراد ذلك منذ البداية، وهم يتجهون- فعلاً- بتعاطف معه.
والبعض في إطار المكاسب السياسية، والبعض في إطار الأهداف التي هي أهداف شيطانية، كمثل عمل المنظمات، لديها أهداف شيطانية من وراء ما تقدم، لا تقدم على أساس فعل خيرٍ، وبرٍ، وقربةٍ إلى الله، بدافعٍ خيِّر، بدافعٍ إيماني.
ولذلك فالقرآن الكريم في مسألة البر يرسم لنا في العنوان الأول، ما يكون هو المنطلق لفعل البر، لعمل البر، فيمثل الدافع النظيف، الدافع السليم، البر لابدَّ أن يكون له- في بادئ الأمر وفي واقع الحال- داخل النفس منطلقاً سليماً، منطلقاً صالحاً، منطلقاً يمثل براً، إذا كان ما وراء ما يقدمه الإنسان دوافع سيئة، دوافع غير مشروعة، لا ترضي الله “سبحانه وتعالى”، دوافع سلبية، دوافع معينة غير إيمانية، ولا بارة، ولا صالحة، فلنيته، لمقصده، لدوافعه، تأثيرٌ سيئ تجاه ما يقدِّم، فالبر يجب أن يكون بدايةً في نفسك، في مشاعرك، في دوافعك، في اتجاهك وأنت ترسم لنفسك أهدافاً معينة، ما الذي تريده من وراء ما تقدم، من وراء ما تعمل، من وراء ما تساهم به؟
الإنسان إذا كان يساهم، ويقدِّم، ويتعاون في البر، ولكن ليس من منطلقٍ إيماني، سيرتب على ذلك استحقاقات، مطالب، أهداف، ثم تمثل هي- بحد ذاتها- مشكلةً في أسلوبه فيما بعد؛ لأنه يرى فيها وسيلةً لأهداف شخصية، لمصالح شخصية، يريد في مقابلها المقابل من الناس، المقابل من الناس، وقد يكون المقابل الذي يريده من الناس سيئاً، أو سلبياً، تأثيراته سيئة، أو استغلالياً، على حساب ما هو حق، ما هو خير، لمصلحة شخصية فحسب؛ فلذلك فالإنسان في اتجاهاته العملية، يجب أن يكون منطلقه منطلقاً إيمانياً، أن يكون مبدؤه وتكون دوافعه إيمانية، ينطلق من منطلقٍ إيماني، بدوافع إيمانية.
الإيمان بنفسه يجب أن يكون دائرةً مكتملة، الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” بما له من أثرٍ في نفسك، في رجائك نحو الله “سبحانه وتعالى”، ترجو الله، ما تبتغيه من وراء ما تعمل، وما تريده، وما ترجوه، وما تأمله، ترجوه من الله “سبحانه وتعالى”، تأمله من الله، وجهتك فيما تعمل: الله، ورضوانه “سبحانه وتعالى”.
خوفك من التقصير، خوفك من المعاصي فيما عليها من عقوبة، هو جانبٌ أساسيٌ من إيمانك بالله “سبحانه وتعالى”، فأنت تخشى الله إن فرَّطت، إن عصيت، إن قصَّرت، إن ارتكبت الحرام، فيمثل هذا دافعاً في فعل ما يقيك من عذاب الله، وفي تجنب ما يسبب لك سخط الله “سبحانه وتعالى”، فله أثره ابتداءً في أن تبادر لفعل البر، وأن يكون ما تفعله من البر، وما تقدِّمه من البر، بنيةٍ صالحة، بدافعٍ نظيف، بدافعٍ سليم، بدافعٍ عظيم، بدافعٍ خيِّر، الخير في نفسك، البر في نفسك، فكان عطاؤك وفعلك امتداداً له، ونتاجاً له، وثمرةً عنه.
الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” الذي يرسِّخ فينا المحبة لله، فننطلق فيما نعمل، وفيما نقدِّم، وفيما نعطي، فيما نسهم فيه، وفيما نفعله على المستوى الشخصي، وعلى المستوى التعاوني، نفعله، ونقدِّمه، ونؤتيه، نعطيه برغبة، برغبة المحب، والعظيم حبه لله، الشديد حبه لله “سبحانه وتعالى”.
عندما يكون الإنسان عظيم المحبة لله، قوي المحبة لله، شديد المحبة لله؛ سيتوفر لديه الدافع الكبير، الذي يجعله يقدِّم ما يقدِّم برغبة، وليس عن طريق القسر للنفس، وبصعوبة، وبتضجر، وكأنه يزهق روحه ويخرجها من بدنه.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[البقرة: من الآية177]، اليوم الآخر فيما يتعلق بإيمانك بالحساب، والجزاء، ووعد الله ووعيده “سبحانه وتعالى”، له أهميةٌ كبيرةٌ جدًّا كدافعٍ مهم، دافعٍ قوي.
ما الذي يعالج حالة البرودة، والتكاسل، والتثاقل لدى البعض، وعدم التفاعل لدى البعض في فعل البر، في تقديم البر، في الإسهام في البر، في التعاون على البر والتقوى، عندما يأتي الحث لهم، عندما يُعرَض عليهم شيءٌ من البر والتقوى، فلا يتفاعلون، تجدهم يتكاسلون، يتهرَّبون؟! هو ضعف الإيمان، ضعف الإيمان بالله، وضعف الإيمان باليوم الآخر، ضعف الإيمان بوعد الله ووعيده، ضعف الإيمان بالجزاء، وإلَّا فالجزاء فيما نقدِّم، هو بالشكل الذي يرغِّبنا جدًّا؛ لأنك تقدِّم ما تقدِّم ولا تعتبره مغرماً، ولا خسارةً، ولا نقصاً، أنت تدرك أنك تقدِّم لنفسك لتحظى بما هو أفضل، بما هو أعظم، بما هو أكثر، بما هو أدوم، بما هو أبقى، بما هو أحسن، فلا يمثِّل بالنسبة لك لا نقصاً ولا خسارة.
فما الذي يجعل الإنسان لو كان فعلاً يؤمن بذلك، يثق بوعد الله له في أنه سيخلف له ما أنفق، لو كان يؤمن بقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}[الحديد: من الآية11]، لو كان يؤمن بقول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، لو كان يؤمن بالآيات الأخرى الكثيرة والكثيرة جدًّا، التي تضمَّنت وعداً قاطعاً مؤكَّداً من الله “سبحانه وتعالى”، الذي لا يخلف وعده، ولا أوفى منه بعهده، لو كان يؤمن أليس سيبادر؟ سيستجيب؟ لأن الذي جعله يتكاسل، هو: اعتبار ما يقدِّمه نقصاً عليه وخسارةً، هذا هو ما في ذات نفسه، في أعماق نفسه، فيؤثِّر عليه، ويثبِّطه، ويؤخِّره عن العطاء وعن البر.
فالإيمان بالجزاء، وأنك أيضاً ستعاقب عندما تفرِّط بالتزاماتك الإيمانية فيما عليك أن تقدِّم، ستعاقب، وستخسر الخسارة الحقيقية، أليس ذلك سيمثل دافعاً، ودافعاً نظيفاً في نفس الوقت، نظيفاً، دافعاً إيمانياً صالحاً؟
{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بالملائكة وفق ما ذكره الله عنهم في كتابه الكريم، وفق أدوارهم ومسؤولياتهم ومهامهم التي ذكرها الله في القرآن الكريم، وهي واسعة، فيما له صلة بشؤون الإنسان: بحفظ الإنسان، برصد أعمال الإنسان، بالوقوف مع المؤمنين في تثبيت المؤمنين، في رفع معنويات المؤمنين، فيما له علاقة بالجوانب الأخرى، وفق ما ذكره الله في القرآن الكريم في ولايتهم ما بينهم وبين المؤمنين: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}[فصلت: من الآية31]، في رفقتهم مع عباد الله المؤمنين، وأثرهم الطيِّب المعنوي المساند للإنسان المؤمن، وهو يتجه وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، وينهض بمسؤولياته والتزاماته الإيمانية ابتغاء مرضاة الله، له أهمية، له أهمية في مجالات ذات أهمية كبيرة: تساعد الإنسان على الثبات، تساعد الإنسان على الاطمئنان، تساعد الإنسان على الشعور بأنه ليس وحده في ميدان العمل.
{وَالْكِتَابِ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بكل كتب الله، الإيمان بامتداد هدى الله، الإيمان بأنَّ الله لم يهمل عباده، وأنَّ مسيرة الهداية الإلهية امتدت منذ آدم “عليه السلام”، وتستمر في الواقع البشري وفق سنَّة الله في هداية عباده بكتبه وأنبيائه.
الإيمان بكل كتب الله، وليس ببعضٍ منها، كما يفعله اليهود، مع أنهم حتى البعض الذي يزعمون أنهم آمنوا به، هم حرَّفوه، وكفروا بالكثير منه، وأضاعوا الكثير منه، وانقلبوا على ما بقي منه، كما هو حال النصارى أيضاً في الانقلاب على التعليمات الإلهية، وفيما تورَّطوا فيه من التحريف والضياع.
إيمان الإنسان بكتب الله بكلها، والقرآن العظيم، الذي هو خلاصتها، والمهيمن عليها، والمصدِّق لها، وإيمانك به يجب أن يكون أيضاً إيماناً بها بكلها، ثم هو ما يعبِّر عنها، وهو خلاصتها، وأنت عندما ترجع إلى القرآن الكريم، أنت تصل إلى الهداية الإلهية التي أتت بها كتب الله، وختم الله بها القرآن الكريم الأوسع، والأشمل، والمصدِّق، والمهيمن، كما ذكره عنه في القرآن الكريم.
عندما تعود إلى القرآن، أليس سيدفع بك إلى العمل، إلى البر؟ يعطيك أولاً ما يفيدك في تصحيح نواياك ودوافعك، ثم يرشدك على مستوى الأداء العملي على النحو الصحيح، يهديك للعمل، يرغِّبك فيه، ينبِّهك على أهميته لك، على فوائده لك، نتائجه لك… إلى غير ذلك، ما ينتج وما يترتب على تفريطك، على عدم اهتمامك، على تقصيرك، على تهرُّبك مما فيه الخير لك، وهكذا يمثل سنداً عظيماً، ونوراً مرشداً، يقدِّم لك البصيرة الكافية، والدافع العظيم في نفس الوقت.
{وَالنَّبِيِّينَ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بأنبياء الله بكلهم، بكل أنبياء الله، الإيمان الإجمالي، والإيمان بمن ذكر الله لنا أسماءهم في القرآن الكريم، والإيمان الإجمالي بكل أنبياء الله ورسله، وهو إيمانٌ بوحدة المسيرة الإيمانية والدينية، أنها ممتدة، تصلك بأنبياء الله كلهم، تصلك بالله تعالى عن طريق كل أنبيائه، طريقٌ واحدٌ ممتد، وأنَّ هداية الله استمرت في واقع البشرية، أتت في مختلف الأزمان والعصور، وأنَّ الله لم يقصِّر في عباده فيما يتعلق بذلك، فامتدت هدايته لهم.
إيمانك بالأنبياء، تأثرك بما ذكره الله عنهم، إيمانك بخاتم الأنبياء وسيِّد الرسل محمد “صلوات الله عليه وعلى آله”، له أهميته الكبيرة في الدافع، وأيضاً فيما يقدِّم لك من إرشاد، وتعليمات، وتوجيهات، وبصيرة كافية عن البر، ومجالاته، وأهميته، ونتائجه، وما تستفيده من ذلك في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجماعي: الأمة، المجتمع الذي يستجيب على أساس ذلك.
فيمثل هذا الجانب: الإيمان، المبدأ الذي يمثل المنطلق، والدافع، ويرسم الأهداف، ويهيِّئ البيئة والظروف الصالحة للعمل، ولأداء العمل على نحوٍ سليم، على نحوٍ صحيح، فيتكامل البر من مبدئه ودوافعه، إلى مجاله، إلى طريقة أدائه، تكاملاً رائعاً، تكاملاً متلائماً، يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وتتجسد فيه القيم والأخلاق والمبادئ العظيمة، الفطرية الدينية، والإيمانية، والإنسانية.
ثم يقول تعالى بعد ذلك، بعد أن يحدد العنوان الأول، الذي يقوم عليه البر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}[البقرة: من الآية177]، {وَآتَى الْمَالَ}، جانب العطاء هو على مستوى العمل من أبرز العناوين التي توصف بالبر، ويعبَّر عنها بالبر، العطاء بالمال، المال الذي يبخل به الكثير، المال الذي يدخل الكثير في الحرام من أجل الحصول عليه بأي وسيلة، بأي طريقة، حتى لو كانت طريقةً محرَّمة، أو من مصدرٍ محرَّم، فيتحملون الآثام.
الروحية الإيمانية تجعل الإنسان بعيداً عن ذلك، بعيداً عن حالة الجشع والطمع، الذي يجعل الإنسان يتورَّط في المحرمات، الروحية الإيمانية يتربى فيها الإنسان على العطاء، على البذل، على أن يقدِّم، وأن يبادر.
عبارة: {وَآتَى الْمَالَ}، تفيد أنه يؤتي المال، يبادر بايتائه، بتقديمه، لا يحتاج مثلاً إلى مراجعات ومساعي لإقناعه، وجهود مكثفه لإقناعه بأن يخرج، فإذا أخرج بعد ذلك أخرج شيئاً يسيراً، كما هي عادة البعض من الناس، يريد أن يأتي من يزوره، أن يأتي من يتحدث إليه، أن يحاول فيه، أن يبتكر مختلف الأساليب المؤثرة المقنعة؛ حتى يصل به إلى أن يتفاعل شيئاً ما.
البعض من الناس ضمائرهم ميتة، مشاعرهم متبلِّدة، إحساسهم الإنساني قد ضعف كثيراً، إن لم يكن قد انعدم، وإلَّا ففي واقع الحال ما يجعل الإنسان المؤمن، الحي الضمير، الذي ضميره حي، وإحساسه حي، يتفاعل تلقائياً بفطرته الإنسانية مع كثيرٍ من الأمور المؤلمة الإنسانية: عندما يرى الإنسان المحتاج، الفقير، المعاني، الذي لا يجد طعامه.
عندما يجد المريض الفقير المعاني الذي لا يجد ما يتداوى به، وهو يعاني من الآلام والأوجاع.
عندما يرى أسرةً من أهل الإسلام معانيةً، لا تمتلك قوتها الضروري، بائسةً… كثيرٌ من هذه الأمور كافية.
عندما يرى التحديات والأخطار التي تستوجب التصدي للأعداء، ودفع شرهم الكبير عن مجتمعه ونفسه وأمته، ودفع باطلهم، ومنكرهم، وفسادهم، وظلمهم، وإجرامهم، بكل ما يمثله ذلك من خطورة رهيبة على الناس في دينهم ودنياهم، فلا يتفاعل مع ذلك.
قد يتفاعل مع أشياء أخرى هناك: إمَّا مما تدخل في نطاق المنكر، والفساد، والشر، أو العبث، أو العبث، {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد: الآية6]، في الأشياء العبثية، لكن لا يتفاعل مع الأشياء الخيِّرة.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، يعني: حتى في الظروف الصعبة، وحتى مما يحب، وليس فقط ممن إذا أحرج في مجال العطاء، أصبح محرجاً، يجامل ويحاول في سياق مجاملته أن يخرج الشيء الرديء، الذي لم يعد راغباً به، أو لا يرى أنه أصبح بحاجةٍ إليه، لم يعد محتاجاً إليه، فيعتبر هذا شيئاً طارفاً، لا بأس سيخرجه مجاملةً.
الإنسان المؤمن بدافعه الإيماني القوي، برغبته في العطاء، بإدراكه لأهمية ذلك له في الدنيا والآخرة، هو يقدِّم الشيء مما يحب، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران: من الآية92]، وفي نفس الوقت حتى في الظروف الصعبة، وليس فقط من أولئك الذين سيحسنون، ويعطون، ويقدِّمون، إن كانوا فقط في حالة اليسر والسعة، بل وقد يكون لديهم سقف معين لحالة اليسر والسعة، إذا توفرت أموال يرى أنها قد أصبحت كثيرةً لا بأس، ومن العجيب أنَّ الكثير ممن يشحون بالإنفاق، هم من الميسورين، فيكونون هم من يكفرون نعم الله عليهم.
الإنسان المؤمن حتى في الظروف الصعبة لا يفقد روحيته الخيِّرة، دافعه الإيماني بالعطاء والبر، يتعاون على البر، ويقدِّم حتى في الظروف الصعبة، من حاله، بقدر حاله، وهذه مسألة مهمة جدًّا؛ لأن الذين يعانون من الظروف الصعبة هم فئة واسعة من أبناء المجتمع، عندما يتفعَّل مبدأ التعاون؛ يجتمع من هذا، ومن هذا، ومن هذا، ومن هذا… في نهاية المطاف يتبارك، ويبارك الله فيه، وتتوفر مثلاً مبالغ جيدة، يمكن أن يكون لها أثر، أثرٌ مهم في أعمال خيِّرة، في أعمال البر، سواءً فيما كان منها في الإنفاق في سبيل الله، أو الإنفاق للفقراء، أو لمصالح عامة، أو لخدمة الفقراء والمساكين… كل أعمال البر، التعاون هو يحل مشكلة ضيق ذات اليد والفقر، والشيء المحدود، التعاون يحله.
فلذلك كانت المسألة هذه مسألة مهمة؛ لدرجة أنَّ الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم عندما كان البعض في عصر النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” يسخرون من المؤمنين الفقراء المنفقين، الذين يقدِّمون القليل، القليل بحسب ظروفهم، البعض كان يذهب وقد قدم ملء كفيه (المُد)، ملء كفيه من القمح، أو من التمر، يساهم به؛ لأنه فقير، هو بالنسبة لما يمتلكه شيءٌ كثير؛ لأنه لا يمتلك إلا الشيء القليل، فكانوا يسخرون منهم: [ماذا سيفيد الإسلام]، وقد أتى (بمُدٍ)، بملء كفيه من الذرة، أو من القمح، أو من التمر، أو نحو ذلك، فيسخرون منهم، فنزل قول الله “سبحانه وتعالى”: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة: الآية79]، فكان سخط الله عليهم كبيراً؛ لأنهم يحاولون أن يجرحوا كرامة أولئك المنفقين، وأن يحرجوهم عندما يلمزونهم، عندما يطعنون فيهم، عندما يتكلمون عليهم، عندما يسخرون منهم، [ماذا ستفيد بإسلامك أنت ستقدم هذا الشيء القليل].
حالة التعاون هي تجعل القليل يكثر، قليلٌ من هنا، وقليلٌ من هنا، وقليلٌ من هنا… فيجتمع الكثير في نهاية المطاف، فيكون له أهميته الكبيرة، أهميته الكبيرة في واقع الحال، سواءً ما كان يقدم في إطار الإنفاق في سبيل الله، أو للفقراء… أو في أي مجالٍ من مجالات البر.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}، في هذه الدائرة من مجالات البر:
{ذَوِي الْقُرْبَى}: ابتداءً من محيطك القريب، أن تحسن إليه، لا تترك قريبك الفقير، البائس، المعاني، من دون بر، من دون إحسان، من دون صلة، وصلة الرحم كذلك تأتي في إطار هذا العنوان أيضاً.
{وَالْيَتَامَى}: وهم من الفئة التي ينبغي أن يلتفت إليها الناس، أن يهتموا بها، أن يحسنوا إليها، من أهم مجالات البر: الإحسان إلى اليتامى، اليتامى كثر، بالذات في مراحل الحروب والأحداث الكبيرة،
{وَالْمَسَاكِينَ}: كذلك المساكين ذوي الفقر والحاجة الشديدة، المسكين حاجته حاجة شديدة، ظروفه ظروف صعبة جدًّا.
{وَابْنَ السَّبِيلِ}: المنقطع عن منطقته، والمحتاج إلى المساعدة.
{وَالسَّائِلِينَ}: كذلك من الفقراء الذين يسألون لظروفهم الصعبة.
{وَفِي الرِّقَابِ}: كذلك في مجال عتق الرقبة.
كل هذه المجالات في العطاء، مجالات ذات أهمية، والبر فيها من البر المقبول، المأمور به في كتاب الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن البعض من الناس مثلاً ينحصر اهتمامه في جانب معين، وقد يكون لمرة واحدة، في السنة حسنة، إذا أنفق مرة، يريدها أن تكون مرة العمر، لا يريد أن يكون مستمراً بحسب ظروفه، الله يقول: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، تفيد الاستمرارية، فالإنسان عندما يحمل الروح الخيِّرة، بره يتسع، إحسانه يتسع، عطاؤه واسهاماته هنا وهنا وهنا واسعة.
{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}، من البر إقامة الصلاة، الصلاة القيمة، التي لها أثرها الكبير، الذي يشدك نحو الله، تذكر الله بصلاتك، وتتذكره في صلاتك، وأذكار الصلاة، من تكبيرٍ، وتسبيحٍ، وتهليلٍ، وتحميدٍ، وقراءةٍ للقرآن، وطلبٍ للهداية في سورة الفاتحة، كلها تُرَسِّخ معانيها ومضمونها المهم في نفسك، فيزداد بذلك إيمانك، تزداد شعوراً بالقرب من الله “سبحانه وتعالى”، يزداد أثر ذلك في طهارة نفسك، في رغبتك في فعل الخير، في رغبتك في الإحسان، في أن تحمل الروح الخيِّرة المعطاءة، وأن تتعالج من حالة الشُح، والجشع، والبخل، والأنانية، والطمع الشديد.
{وَآتَى الزَّكَاةَ}، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، وأيضاً مع ذلك يؤتي زكاته، ليس من ذلك النوع الذي مثلاً قد لا يؤتي إلَّا زكاته، والبعض حتى لا يخرجها كاملةً، الكثير من الناس لا يخرج زكاته كاملة، يورِّط نفسه ويهلك نفسه في أن يبخل بشيءٍ منها، أو بنسبةٍ منها، أو بجزءٍ منها، وهي حالة خطيرة، إضافةً إلى اهتماماتك الواسعة والتزاماتك الأخرى، المتعلقة بالمال؛ لأن المال ترتبط به مسؤوليات، هو عطاءٌ من الله تقترن به مسؤولية، كل عطاءات الله لك في هذه الدنيا تقترن بها مسؤوليات، ما أعطاك الله، عليك فيه مسؤولية، هو في إطار مسؤولية أنت مكلفٌ بها.
فالله “سبحانه وتعالى” عندما يقول: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، بعد أن سبق قوله: {وَآتَى الْمَالَ}، فهي في هذا السياق: في سياق الالتزامات المتعددة المتنوعة، المتعلقة بمالك، فعليك المبادرة بإيتاء الزكاة، بإخراجها، لا تحتاج إلى ملاحقة وضغط، وإحراج، وإلحاح، وإزعاج، ومشاكل، والبعض حتى قد يحتاج إلى السجن، أو يحتاج إلى ضغوط كبيرة، ولوم، وتوبيخ، وعتاب… وغير ذلك، أن يبادر بإخراجها حسب توجيهات الله فيها.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}، أهل الوفاء في التزاماتهم المؤكدة، في مواقفهم، في علاقاتهم، في أعمالهم، في حربهم، في سلمهم، هم أهل الوفاء تجاه التزاماتهم، ليسوا بأهل غدر ولا خيانة.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، الصبر من أهم المواصفات لأهل البر والتقوى، ومن أهم ما لابدَّ منه في البر، وفي فعل البر، وفي العطاء البر، أن يكون الإنسان من الصابرين، الصبر في كل الأحوال، في الحالات الثلاثة، وما يتصل بها.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ}: في حالات البؤس، والظروف الصعبة، وظروف الفقر، وظروف الحاجة، وظروف المعاناة المعيشية، يصبرون في تلك الحال، فلا تؤثر عليهم لأن يسعوا للحصول على المال بأي طريقةٍ محرَّمة؛ من أجل السعة في معيشتهم، كما أنها لا تؤثر عليهم في التقصير في التزاماتهم الإيمانية وعطائهم بقدر حالهم، بقدر ظروفهم، بحسب أحوالهم.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}: الصابرين في حالات الضر، في حالات المرض، في حالات الحزن، في حالات الغم النفسي، والهم، تجاه الأضرار النفسية والبدنية، في حالات الجراحة في سبيل الله، في حالات الإعاقة في سبيل الله، هي حالات تحتاج إلى الصبر، وإلَّا قد يؤثر عدم الصبر على الإنسان فيها في إيمانه، في نفسيته، فيترك أثراً عليه، البعض قد يصل به إلى حد الإساءة إلى الله “سبحانه وتعالى”، عندما انعدم صبره تجاه ما يعانيه.
فالإنسان المؤمن يصبر في حالات الضراء، على المستوى النفسي، على المستوى البدني، ولا يؤثر عليه ذلك أيضاً في التزاماته بحسب ظروفه؛ لأن الله رحيم، يُقَدِّرُ أحوال الإنسان وظروفه، ويعلم بها.
{وَحِينَ الْبَأْسِ}: في مواطن الجهاد في سبيل الله، في مواطن القتال في سبيل الله، في مواطن المواجهة والتصدي لأعداء الله، هو ذلك الذي يصبر على المتاعب، على الآلام، على المخاطر، واستمراره نتاج صبره، استمراره، ومواصلته نتاجٌ لصبره في ذلك.
فنجد هذه الحالة من التكامل الذي يعبر عن البر، ويُعَبَّر عنه بالبر، من خلال هذا التكامل في هذه المواصفات الإيمانية، فيختمها الله بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، هؤلاء من يحملون هذه المواصفات، من يسيرون نحو هذا التكامل، هم الذين صدقوا، صدقوا في إيمانهم، صدقوا في فهمهم لدينهم، صدقوا في انتمائهم للبر، وللإيمان، وللتقوى، صدقوا في التزاماتهم وأدائها كما ينبغي، كما أمرهم الله “سبحانه وتعالى”، فالصدق عنوانهم.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، (أُولَئِكَ) أصحاب هذه المواصفات المتكاملة، الذين يسيرون نحو هذا التكامل، هم المتقون الذين يحققون التقوى في واقعهم.
فنجد كيف هي أهمية هذه المواصفات التي تقدِّم لنا وضوحاً عن البر، ومجالات البر، الذي نتعاون فيه، والتعاون فيه له ثمرة واسعة جدًّا، والتقوى عنوانٌ واسعٌ جدًّا، تشمل كل أمور الخير، التي يقوى بها المجتمع في سياق مواجهة أعداء الله، في النهوض بمسؤولياته الكبرى، يدخل فيها- كما أشرنا بالأمس- دائرة واسعة من التعاون فيما فيه الخير للأمة، فيما تقوى به الأمة، فيما يصلح به واقع الأمة، فالتعاون على البر والتقوى هو ضرورة، هو جزءٌ من التزاماتنا الإيمانية، هو حلٌ وهو حكمةٌ أيضاً تعالج الكثير من الإشكاليات التي يعاني منها مجتمعنا في واقعه الضعيف، الناتج عن التفرق، عن البعثرة، عن شتات الجهود.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، أن يوفِّقنا وإيَّاكم للتعاون على البر والتقوى، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛