المحاضرة الثانية لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة عاشوراء – 6 محرم 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
موقع المسؤولية في الإسلام
نستمر في حديثنا عن جانب المسؤولية، في موقعها المهم ضمن المعالم الرئيسية، والمبادئ الأساسية في دين الله -سبحانه وتعالى- التي هي بارزة وحاضرة بشكل كبير جدًّا في القرآن الكريم، وفي حركة الرسول -صلى الله وسلم عليه وعلى آله- في مسيرته الرسالية، وحركته بالرسالة الإلهية، وإقامته للدين الإسلامي، وكذلك هذا الجانب المهم جدًّا من تلك المعالم، وأهميته الكبرى المتصلة بواقع الأمة في صلاحه إن أقيمت كما ينبغي، أو فساده ودخول سلبيات كبيرة جدًّا في هذا الواقع إن عُطِّلت هذه المسألة، وإن هُمِّشت هذه المسؤولية.
وعندما نتحدث عن المسؤولية نعني بها في جوانبها بكلها: المسؤولية في إحقاق الحق وإقامة العدل، المسؤولية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المسؤولية في الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- ومواجهة أعداء الله وأعداء الأمة، أعداء البشرية بكل ما يمثِّلونه من خطورة على الأمة…الخ.
هذه المسؤولية- كما قلنا– حاضرة في النص القرآني، وموقعها في الدين الإسلامي موقعٌ أساسيٌ، فتجاهلها من البعض لا يجديهم شيئًا، ولا ينفعهم بشيء أبدًا، من يحاول أن يتهرب من هذه المسألة بكلها، ويحاول أن يشطبها من اهتماماته الدينية والتزاماته الدينية، هو يدخل نفسه هو في مشكلة كبيرة جدًّا، عندما نرى الوعيد بالعذاب والعقاب لمن يفعل هكذا، لمن يعمل على شطب جانب المسؤولية، ويتحوَّل إلى اتجاهٍ آخر يتعامل مع الإسلام من جهة واحدة فقط: الجهة التربوية والأخلاقية، أو الجهة الروحية في طقوس عبادية فصلها عن جانب المسؤولية، والجوانب العملية، والالتزامات المهمة.
المسؤولية معيار لصدق الانتماء الإيماني
إنَّ الموقع الذي تحتله المسؤولية- كما قلنا– في مجالاتها المتعددة: في إقامة العدل، وإحقاق الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- والمصداقية في الولاء، وعدم الانحراف في الولاء، هذه المسألة موقعها في الدين الإسلامي لدرجة أنَّ الله جعلها معيارًا لمصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، لهذا المستوى من الأهمية.
ولذلك، عندما نتجه إلى النصوص القرآنية، والآيات المباركة، وما يقوله الله فيها؛ ندرك خطورة التفريط في هذا الجانب، ومساوئه، وما يترتب عليه، الله -سبحانه وتعالى- أكَّد في القرآن الكريم في آيات كثيرة على هذه النقطة: على أنَّ النهوض بهذه المسؤولية، أو التفريط فيها إنَّما يعتبر شاهدًا ومجليًا وموضحًا وكاشفًا لحقيقة مصداقية الإنسان، فالذي يحدد مصداقيتك مع الله -سبحانه وتعالى- هو ما أنت عليه في مدى تحملك لهذه المسؤولية، والتزامك بها، وتفاعلك معها.
نجد أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ}[آل عمران: من الآية179]. في حالة الانتماء للإيمان، المجتمع الإسلامي بمعظمه ينتمي إلى الإيمان، والكل يأتي ليقول عن نفسه: [أنَّه من المؤمنين، وأنَّه مؤمن بالله واليوم الآخر، وما أمر الله بالإيمان به]، والبعض حتى قد يأتي مدعيًا اختصاصه بذلك، وأنَّه المؤمن حقًا، الله -سبحانه وتعالى- جعل في سنته وطريقته مع عباده أن يجلِّي واقعهم، ويبين حقيقتهم في ما هم عليه من خلال هذه السنة الإلهية، وهي سنَّة الاختبار الكاشف، الذي يجلِّي حقيقة ما كل إنسان عليه، وما ينتمي إليه، وما هو في واقعه وداخله.
هناك كثير من الأعمال يمكن لكثير من الناس أن يقوم بها، لا تحتاج إلى إيمان كبير، لا تحتاج إلى قيم راسخة، لا تحتاج إلى دافع كبير حتى يتمكن الإنسان من القيام بها، وبالذات عندما يكون الواقع العام في مجتمعٍ معين، كالمجتمع الإسلامي، يتعود الإنسان فيه منذ نشأته، منذ طفولته المبكرة على أشياء عبادية معينة، وتتحول إلى روتين اعتيادي في حياته، ولا تمثِّل- حينها- أي مشكلة عليه، بل قد يدخل في مشكلة فيما لو أخلَّ بها، مثلًا: في مجتمعنا الإسلامي كم نسبة المصلين؟ نسبة عالية جدًّا، هذا أمر جيد، والصلاة خير العمل، والمطلوب الاهتمام بها، ولكن الخطأ إذا فُصِلت عن جانب المسؤولية، أو إذا أصبحت عملًا روتينيًا اعتياديًا لا يحاول الإنسان أن ينتفع منه، أن يتأثر به، أن ينشد من خلاله إلى الله -سبحانه وتعالى-.
في الجو الاعتيادي والروتيني الذي ينشأ عليه المجتمع المسلم منذ الطفولة، والإنسان يعتاد- مثلًا– أن يذهب إلى المسجد، أن يصلي… حالة عامة لدى الكثير من الناس، لا يتطلب الأمر أن يحتاج الإنسان إلى اندفاع إيماني كبير، انشداد عظيم إلى الله في: المحبة لله، والخوف من الله، والرغبة فيما عند الله، والإيمان باليوم الآخر، والتَّربية على قيم وعلى أخلاق معينة، حتى يستطيع الإنسان أن يذهب إلى المسجد للصلاة، أو أن يصلي. |لا|، يعني: مستوى التعود فقط يكفي في أن تصلي، ما بالك والمسألة عادية، بالذات إذا كانت الأجواء أجواء طبيعية، ليس هناك ما يمثِّل مشكلة في سبيل أدائك للصلاة، لن تدفع في مقابل ذلك شيئًا من أمنك، ولا استقرارك، ولا أي شيء آخر. وهكذا البعض من الأعمال الروتينية الاعتيادية التي يؤديها الإنسان بمقتضى التعود، وبمقتضى أنَّه استمر عليها كروتين لفترة طويلة في حياته، وألفها في واقعه الاجتماعي، يمكن أن يؤديها بشكل طبيعي، وأداؤها في مثل هذا الظرف أمر اعتيادي- كما قلنا- لا يحتاج إلى مستوى عالٍ من الإيمان، ثم تجد كثيرًا من الأعمال التي أداؤها أمر اعتيادي، ليس فيه مشقة بالغة، ولا خطورة، ولا يحتاج إلى دفع ثمن، يعني: لا يحتاج القيام بها إلى مخزون إيماني، إلى دافع إيماني كبير، ولا يحتاج- أيضًا– إلى كلفة.
لكن عندما تأتي إلى بعضٍ من الأعمال التي: إما أنَّ الإنسان سيدفع لها- مثلًا– من ماله، أو يعرِّض فيها حياته للخطر، أو يواجه فيها صعوبات ومشاق وتحديات، الكثير من الناس يُحجِمون عن أداء مثل هذه الأعمال، ولا يتوفر لديهم الاندفاع الكبير للقيام بها؛ لأن الدافع هذا هو دافع إيماني، يحتاج إلى أن تكون محبتك لله -سبحانه وتعالى- على مستوى يفوق أي محبة لأي شيء آخر؛ حتى لا يمثِّل أي شيء آخر مما تحبه عائقًا بينك وبين أداء ذلك العمل، وتحمل تلك المسؤولية، أحيانًا الخوف، يمكن أن يؤثِّر عليك الخوف في ثباتك على موقف معين، أو اندفاعك لموقفٍ معين، يحتاج هذا إلى أن يكون خوفك من الله -سبحانه وتعالى- أكبر من خوفك من أي شيءٍ آخر؛ حتى تتفوق على عقدة الخوف في نفسك من تلك الأشياء الأخرى، التي قد تؤثر عليك وتحول بينك وبين ذلك العمل، أو تحمل تلك المسؤولية، الرغبة والأمل والطمع كذلك، أحيانًا يحتاج الأمر إذا كنت في سبيل موقفٍ معين ستضحي بمصلحة معينة، هذا أمر يؤثر على الكثير من الناس، يحتاج إلى أن يكون أملك في الله، ورجاؤك فيما عند الله يفوق أطماعك الأخرى، واتجاهاتك وميولك الأخرى إلى مصلحة هنا أو مصلحة هناك؛ لأنك في واقعك الإيماني منشد إلى مصلحة أكبر وأعظم وأبقى عند الله -سبحانه وتعالى- حتى انشدادك إلى الله في الحالة الإيمانية والنفسية والوجدانية، في تعظيمك لله -سبحانه وتعالى- وإجلالك لله، وتكبيرك لله -سبحانه وتعالى- يجعلك منشدًا إلى الله فوق كل شيء.
فالأعمال التي قد تحتاج: إما إلى كلفة مالية، أو تضحية بمصالح معينة: (مادية، أو منصب، أو أي شيء من هذا القبيل)، أو مواجهة تحديات وأخطار: إما على النفس، وإما على المال، وإما على المنزل، وإما على أي شيء مما هو غالٍ لدى هذا الإنسان، وعزيز على هذا الإنسان. هنا المحك، هنا يتبين واقع الإنسان، هنا تتجلى حقيقة ما عليه من قيم وأخلاق، هل يمتلك فعلًا الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- الذي يستطيع من خلاله، وبهداية الله، وبمعونة الله، وبتوفيق الله… أن يتغلب على تلك المؤثرات عليه، إذا كان- مثلًا– سيضحي بمصلحة من هذه الدنيا: مال، أو جاه، أو منصب… في سبيل ثباته على موقف الحق، في سبيل نهوضه بمسؤولية معينة، هل يمتلك من الإيمان ما يجعله يتغلب على هذا العامل المؤثر، وهو: خوف فوات تلك المصلحة، إذا كان سيتعرض للخطر في مقابل ثباته على هذا الموقف، هل خوفه من الله ومحبته لله ستدفعه إلى أن يثبت لو حصل ما حصل، مع احتمال تعرض حياته، أو ممتلكاته، أو شيءٍ مهم لديه للخطر، هل سيثبت؟
الغربلة.. سنة إلهية عبر الزمن
تتجلى حقيقة الإنسان أولًا في انتمائه الإيماني، ثم يتجلى واقع الإنسان لأكثر من ذلك، أكثر من مجرد الانتماء، أهم ميدان تتجلى فيه حقائق الناس وخباياهم وخفاياهم، ويخرج ما في أعماق نفوسهم إلى واقعهم العملي: فيما يقولون، وفيما يفعلون، أهم ميدان يجلِّي الناس، يكشف الناس، يوضح الناس، يبين الناس… هو ميدان الصراع، فمثلًا: في واقع الإيمان والقيم الإيمانية، وما عليه المؤمنون، تتجلى تلك القيم- التي هي في الأساس جذورها في أنفسهم: معتقدات، ومبادئ، ومعانٍ، ووجدانٍ إيماني: محبة لله، وخوف من الله، وتعظيم لله، ونفوس زاكية وصالحة… تتجلى تلك القيم- في الممارسات، في السلوكيات، في الأعمال، في المواقف، وما عليه الخبيثون: الإنسان الذي هو خبيث، ولو كان ينتمي للإيمان، ولو كان يقدِّم نفسه حتى متدينًا، يتجلى ويتضح وينكشف ذلك الخبث في واقعه العملي، في سلوكياته، في مواقفه، في أقواله، في أفعاله، في تصرفاته؛ فيتضح حقيقة ما هو عليه.
في ظل ظروف اعتيادية ليس فيها أمور حساسة، ولا مشاكل، ولا أخطار، ولا تحديات، ولا انفعالات، ما يثير حالة الانفعال لدى الناس، قد يظهر الكثير من الناس: [ما شاء الله العظيم من أهل الخير، وأطيابًا ومؤمنين]، ولكن عندما تأتي مثل هذه العواصف من الأحداث المزلزلة: فيها مخاوف، فيها أخطار، فيها انفعالات، فيها… عوامل تحرك هذا الركود والجمود في واقع الناس؛ فيخرج ما في نفوس الناس، وما في قلوبهم، وما في أعماق أنفسهم، ليتجلى في واقعهم العملي والسلوكي: في الأقوال، والتصرفات، والمواقف، والولاءات، والعداوات… تظهر كل الأمور، ولهذا نجد في هذه الآية المباركة: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ}، آية مهمة، هذه الآية المباركة في سورة آل عمران، وهي تأتي في إطار الحديث عن هزيمة أُحد، ما ترتب عليها من: تضحيات، ومأساة، واهتزاز كبير داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، المجتمع المسلم تسببت هزيمة أحد في إحداث اهتزاز كبير، وغربلة كبيرة لواقعه الداخلي، البعض ممن كانوا في الماضي يظهرون كمؤمنين، صالحين، صادقين، ثابتين، جادين، أوفياء، لو أن المسألة مجرد كلام- مثلًا– البعض يمكن أن يطلّع لك قائمة طويلة من المبادئ التي يزعم على أنه عليها، فيقول مثلًا: [أنا من الأوفياء، وأنا من الصادقين، وأنا من الثابتين، وأنا من الكذا، وأنا وأنا…]، يعبِّر عن نفسه بقائمة طويلة عريضة يزعم أنَّه على تلك المبادئ والقيم، لكن عندما تعصف الأحداث تكشف حقيقة الناس، تغربلهم، هذه سنَّة إلهية، وما كان الله ليترك المؤمنين في كل عصر، في كل زمن، في كل جيل، إلَّا وتمضي عليهم هذه السنة، هذه سنَّة إلهية مع كل الأجيال؛ ولهذا أتى التعبير القرآني على هذا النحو: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} ما يمكن أن يترككم على ما أنتم عليه: واقع يمكن أن يدخل فيه الخبيث مع الطيب، يمكن أن يقدِّم الجميع أنفسهم على أنهم: طيبون، وصالحون، وأبرار، وأخيار، وملائكة، ومن أهل الخير… لابد؛ لأن الله لا يقبل الغش أبدًا، لا يقبل الخداع، لا يمكن للإنسان أن يخادع الله -سبحانه وتعالى-.
ولهذا عندما نأتي- مثلًا– إلى واقعنا في هذا الزمن، نحن في هذا الجيل وهذا العصر، عندما نشاهد هذه الأحداث التي تعصف بنا، وتنزل بساحتنا، وتأتي إلى واقعنا، وهي أحداث تعنينا نحن، متى نتصور أنَّ الاختبار الإلهي سيأتي؟ أم أنه سيأتينا هذا الاختبار الإلهي يوم القيامة؟! مثلًا: البعض من الناس لم يسمح لنفسه بأن يتفهم حتى هذه المسألة: أننا نعيش اختبارًا إلهيًا، يختبرنا الله -سبحانه وتعالى- ماذا سنكون عليه، ما هي مواقفنا، كيف هي ولاءاتنا، كيف هي قيمنا وأخلاقنا؟ وبماذا يختبرنا؟ يختبرنا بالأحداث، بالمشاكل، بالتحديات، بالأخطار، عندما يأتي إلى واقعنا مثل هذه المشاكل، وهذه الأخطار، وهذه التحديات، يختبرنا فيما إذا كنا سننهض بالمسؤولية، ويتجلى في نهوضنا بالمسؤولية كل تلك القيم، كل تلك الأخلاق، كل تلك المبادئ، أم أننا سنفشل، ولن ننهض بالمسؤولية، ويتجلى في واقعنا الشيء الآخر: الذي هو الخبث.
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، لابدَّ من الأحداث التي تغربل الناس، وتكشف واقعهم، وتجلي حقيقة ما في أنفسهم؛ فيظهر الخبيث، ويظهر الطيب، أين سيكون الطيب، وأين سيكون الخبيث بحسب التوصيف القرآني؟ هل الطيب هو الذي يستجيب لله -سبحانه وتعالى- وينهض بهذه المسؤولية، يضحي، يعاني، يصبر، يثبت، يعمل بمقتضى إيمانه، بمقتضى تلك القيم، مقتضى تلك التوجيهات الإلهية في القرآن الكريم: التوجيهات الإلهية بالجهاد، والتضحية، والعطاء، والصبر، والثبات… وكل تلك التوجيهات الإلهية؛ أم هو الخبيث الذي يفعل هكذا، مَن مِن الطرفين؟ المتنصل عن المسؤولية، المتهرب من تلك التوجيهات الإلهية، أم الناهض بها، من منهما الخبيث، ومن منهما الطيب؟ المسألة واضحة في القرآن الكريم كل الوضوح.
ونجد في بقية النصوص القرآنية- مثلًا: في سورة آل عمران- أنَّه في الظروف الحسَّاسة والخطرة والاستثنائية يأتي الاختبار بشكل أكبر وأعمق، مثلًا: في الظروف المطمئنة يمكن للبعض من الناس أن- لا بأس- يتماشى معها، ويتظاهر بأنه في صف الحق، وأنه ضد الباطل، وضد الإجرام والطغيان والعدوان والظالمين والمجرمين، لكن عندما تكون هناك اهتزازات أكبر، البعض |لا|، كالغربال الذي كلما اهتز نقى أكثر وأكثر، وتساقطت منه الكثير من الشوائب، تتساقط منه أكثر وأكثر، فمثلًا في هزيمة أحد: البعض من الناس كان ما قبل هزيمة أحد في الصف الإسلامي يظهر وكأنه من الثابتين والصالحين والمؤمنين والمقتنعين بهذا الحق، بهذه المبادئ، بهذه القيم، بهذه المواقف التي رسمها الله، والتي ينبغي أن نكون عليها، وأن نتمسك بها كمؤمنين؛ لأن هذا معنى أن تكون مؤمنًا بتلك: المبادئ، القيم، الأخلاق، التوجيهات الإلهية، المواقف التي رسمها الله -سبحانه وتعالى- مقتنعًا بها، وملتزمًا بها، فعندما تأتي لتقول: [أنا مؤمن، أنا أتَّبع هذا القرآن، أنا أؤمن بهذه التوجيهات والتعليمات، أنا أؤمن بهذه المواقف، ولائي هو هذا الولاء، اتجاهي هو هذا الاتجاه]، يأتي الاختبار الإلهي، تأتي- أحيانًا- مواقف صعبة: إما تراجعات، أو انكسارات، أو مواقف تحقق فيها للعدو بعض التقدمات، يحصل شهداء، يحدث أن يكون هناك جرحى، أن يكون هناك تراجعٌ ما… فيهتز البعض اهتزازًا كبيرًا.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}[آل عمران: من الآية140]، في كثير من الأحيان يكون العدو قد خسر هو كذلك، وقد تكبَّد الكثير من الخسائر والهزائم، وينسى البعض من الناس هذه المسألة، لا يرون إلَّا حالة الضرر، أو الألم، أو وقوع شهداء أو جرحى في صف المؤمنين؛ فيجعلون من المسألة مشكلة، ويهوِّلون من خلالها، ويرجفون، ويثبطون، ويخذلون، ويصوِّرون المسألة أنَّها: مسألة خطيرة، وأنَّه لا يمكن للناس الثبات، وأنَّ الموقف خطأ، وانظروا كيف كانت النتيجة…الخ. الله يقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، يحصل في الواقع البشري أن يحدث- أحيانًا- تراجع، أحيانًا ضرر، أحيانًا شهداء، أحيانًا جرحى، يحدث لاعتبارات كثيرة تعود إلى الواقع البشري.
{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين(142َ)}[آل عمران: 140-142]، الآية المباركة تقول: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، يتبين في الواقع العملي، وبالفعل، ومن خلال الأحداث نفسها يتبين من هم المؤمنون الصادقون الأوفياء، تبينهم ماذا؟ تبينهم الأحداث من خلال ثباتهم، من خلال استمراريتهم، من خلال وفائهم، من خلال صبرهم، من خلال تضحيتهم، من خلال عطائهم؛ لم يتراجعوا، لم ينكسروا، لم يهنوا، لم يضعفوا، لم يستكينوا، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية146].
التمحيص الإلهي للمؤمنين
{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، عملية التمحيص: عملية تنقية من الشوائب، حتى في واقع المؤمنين من خلال ما يعانونه في نهوضهم بالمسؤولية، يدفعهم ذلك إلى أن يصلحوا وضعهم أكثر، يهذبوا أنفسهم أكثر، يتداركوا أخطاءهم أكثر، يتجهوا في صبرهم والتجائهم إلى الله -سبحانه وتعالى- وإقبالهم إلى الله، ومعاناتهم في سبيل الله، إلى أن يصلحوا، ويتخلصوا من كثير من الشوائب، والمؤمن– كما في الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كسبيكة الذهب كلما أوقدت عليها النار ازدادت خلاصًا ونقاءً، في معنى الحديث ومضمونه، المؤمن كذلك: الشدائد، المحن، الآلام، الأوجاع، النكبات والمآسي والأحزان تنقيه أكثر، تدفعه إلى الالتجاء إلى الله أكثر، تدفعه إلى أن يتدارك واقعه، أن يحاسب نفسه، أن يقيم عمله، أن يصلح في نفسه وفي عمله وفي سلوكه، وأن يتدارك في واقعه وقصوره أكثر وأكثر. فعملية التمحيص تجعل للأحداث أثرًا إيجابيًا في نفسية الإنسان المؤمن، وفي واقعه وأدائه العملي، حتى في تقييم أدائه في نفس نهوضه بالمسؤولية، أدائه الجهادي، أدائه في العمل في أي مجال من مجالات المسؤولية.
ثم يقول الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ}، يشتوا الجنة، المصلون يشتوا الجنة، والصائمون قالوا: [نصوم لندخل الجنة]، يمكن ندخل الجنة بتلك الأعمال المحدودة البسيطة، التي نعملها بكل بساطة في هذه الحياة، بل يمكن أن التعود عليها؛ حتى تصبح أعمالًا اعتيادية جدًّا، لا يعبِّر أداؤنا لها عن دافع إيماني، يمكن هذا أن لا يعبِّر عن دافع إيماني، ولا يعني ذلك أن يتركها الإنسان؛ لأنه لم يصل إلى أن يعبِّر بدافع إيماني. |لا|، مطلوب من الإنسان الاستمرار عليها، ولابدَّ منها، وهي أركان للإسلام يقوم عليها، الخطأ هو في فصلها عن الجوانب الأخرى، الخطأ هو في تجزئة وتقطيع أوصال هذا الدين، وأن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر بالبعض الآخر: إما كفرًا عمليًا بالرفض لذلك الجانب العملي وتعطيله، وإما جحودًا بالتنكر له وإنكاره.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}، الجنة لابدَّ فيها من الجهاد والصبر؛ لأن هذا يدلل على مصداقية الإنسان في إيمانه بتلك المبادئ الإيمانية، أنت تقول: [أنا مؤمن]، طيب هل المسألة مجرد كلمة تقولها؟ |لا|، ائتِ إلى أوصاف المؤمنين في القرآن الكريم، ائتِ إلى المبادئ التي تقدم على أساس أنك تؤمن بها، تلك المبادئ، تلك القيم، تلك التشريعات، تلك التوجيهات، تلك الأوامر، تلك النواهي… ما مدى التزامك بها، إيمانك بها قناعة والتزام، أين هو الالتزام؟ الالتزام يجليه بالفعل، عندما تواجه خطرًا، أو تحديات، أو تؤثر تلك القيم والمبادئ على اعتبارات ومصالح هي رغبات للنفس وهوى للنفس، {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
وليعلم المؤمنين.. وليعلم الذين نافقوا
يقول الله -سبحانه وتعالى- أيضًا وهو يؤكِّد على هذه المسألة: مسألة أنَّ الأحداث، أنَّ مدى النهوض بالمسؤولية، أنَّ التحرك في سبيل الله هو الذي يجلِّي واقع الإنسان، أنَّ موقف الإنسان في مواجهة التحديات والأخطار، وعواصف الأحداث وزلازلها، هو الذي يبين حقيقة هذا الإنسان، ومصداقية هذا الإنسان، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ): جيش المؤمنين وجيش الأعداء، {فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}[آل عمران: 166-167]، لاحظ، ينتج عن هذا الاختبار الإلهي فيما أصاب المؤمنين، فيما قدَّموه من تضحيات وشهداء وجرحى، فيما أحدثه ذلك من: اهتزاز وإرباك في الساحة، وتأثير في الواقع، يكون به التوضيح والكشف والتجلي لحقيقة المنتمين إلى الصف الإسلامي، إلى الإيمان، للانتماء الإيماني، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}، الله هو يعلمهم ابتداءً، ولكن مطلوب أن يتجلى ذلك في واقعهم العملي، لا أن يبقى حالة مخبيه في نفوس الناس، يتجلى في الواقع العملي، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}، والمؤمنون بماذا اتَّضحوا؟ بثباتهم، بصبرهم، بروحيتهم المعطاءة، وهم إنما ازدادوا إقبالًا إلى الله، واحتسابًا فيما قد قدَّموه من تضحيات عند الله -سبحانه وتعالى- أولسنا نرى هذه الحالة في بعض أسر الشهداء، فيما يظهرون عليه من: روحية العطاء والتضحية، والاحتساب عند الله -سبحانه وتعالى- لتضحياتهم؟. {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}، (نَافَقُواْ) ينكشفون، يفتضحون، ولا يكشفهم شيءٌ أبدًا مثلما هو الجهاد في سبيل الله والولاءات، أكبر عامل يجلِّي الناس هو هذا الجانب: الجهاد والولاء.
ولهذا يقول الله في أيةٍ أخرى في سورة التوبة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ}[التوبة: من الآية16]، يخاطب مَنْ؟ هل هو يخاطب قومًا في المريخ، أو في كوكب الزهرة، أو في عالم بعيد عن عالمنا هذا، هو يتخاطب معنا كمجتمع مسلم في كل زمن، وفي كل جيل، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ) بمعنى: أن الله يقول لنا: أنَّه لن يتركنا من اختبار معين محدد، ما هو هذا الاختبار يا الله الذي ستقول أنك لن تتركنا من دون أن تختبرنا به؟ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ}، يتبين من خلال الواقع، يختبركم الله بأحداث، بمواقف، بظروف في الواقع العملي، تحديات تتحملون فيها مسؤولية أن تجاهدوا، ويتحتم عليكم في مقابلها أن تجاهدوا، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ}، وماذا أيضًا؟ {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، ما هي الوليجة؟ الدخيلة في الولاء، لم يُدخِلوا في ولائهم طرفًا آخر، من هو الطرف الآخر؟ هو العدو: إما منافق، وإما كافر يتجهون بالولاء إليه، إما ظالم، إما فاسق، إما مجرم، إما طاغية يتجهون بالولاء إليه، ينحرفون ويصوِّبون ولاءهم نحوه، فالله -سبحانه وتعالى- قرر وأكَّد على هذا بآياته البيِّنات، الواضحات، الجليات، أنَّه لا يمكن أن يتركنا من هذا الاختبار في كل جيل، يختبرنا مَنْ مِنَّا سيجاهد، ومَنْ مِنَّا سيقعد؟ مَنْ مِنَّا سيكون وفيًا في تحمله للمسؤولية، ونهوضه بالمسؤولية، في ولائه، فلا ينحرف بولائه عن الله ورسوله، (وَلَا اْلمُؤْمِنِينَ)، ولا يوجهه نحو أعداء الله وأعداء الأمة من: المنافقين، والكافرين، والمجرمين، والطغاة. |لا|، يستقيم في هذا الاتجاه {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}.
النفاق.. تنصل عن المسؤولية وتجرد من القيم
هنا يقول: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}، كيف كان موقف الذين نافقوا؟ يوضحه الله في نفس السياق للآية المباركة: {وَقِيلَ لَهُمْ}، يعني: للذين نافقوا {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}، لا يليق بكم أن تقعدوا، هذا التحدي وهذا الخطر هو على أمتكم، على شعبكم، عليكم، على المجتمع الذي تنتمون إليه، هذا خطر على الجميع، لا يليق بكم تجاه هذا الخطر أن تقعدوا، وأن تجمدوا، وأن تتنصَّلوا عن المسؤولية؛ لأن من شأن المؤمنين أن يقاتلوا في سبيل الله كمسؤولية، وكفريضة دينية لها أهميتها الكبيرة في القرب من الله، وفي مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، وفي دفع الخطر عن الأمة، {أَوِ ادْفَعُواْ}، إذا لم تريدوا أن تقاتلوا في سبيل الله، فبالحد الأدنى دافعوا عن بلدكم، دافعوا عن شعبكم، دافعوا عن أمتكم، دافعوا عن مناطقكم، (أَوِ ادْفَعُواْ) ادفعوا هذا العدو الذي هو قادم ليحتل، وينتهك الأعراض، ويسيطر على كل شيء، فماذا فعل الذين نافقوا؛ هل استجابوا؟ |لا|، تميَّز نفاقهم بتنصلهم عن المسؤولية، وتهربهم منها، ولا مبالاتهم وكأنَّه لا خطر، وكأنَّه لا شر، وكأنَّ العدو الذي يهجم، والذي يهدف إلى الاجتياح والساعي للسيطرة، كأنه وليٌ حميم، وكأنَّه صديق وكأنَّه طرف سيقيم الحق والعدل والخير، وآتٍ بمصلحة للأمة.
{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}، تهرب، يقدِّمون التبريرات للتهرب، للتنصل عن المسؤولية، وما أكثر من يفعل هذا نفسه، يتصرف على هذا النحو، يقدِّم تبريرات وعناوين وتعللات؛ حتى يتهرب من أداء هذه المسؤولية، {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}، هم قد ابتعدوا عن الإيمان، لدرجة أنَّهم باتوا أقرب إلى الكفر، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}[آل عمران: 167-168]، (قَعَدُواْ): لم ينهضوا، لم يتحركوا أبدًا، ولم يدفعهم لا وعي باستشعار الخطورة، ولا دافع إيماني بالاستجابة لتوجيهات الله وأوامره وآياته إلى أن يتحركوا ويقاتلوا. |لا|، قعدوا، في نفس الوقت- مع قعودهم- يثبِّطون، وينتقدون الآخرين، ويسخرون منهم، يقولون: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، أولئك الذين ذهبوا إلى المعركة، أولئك الذين استجابوا لله، أولئك الرجال الذين بوفائهم، وإيمانهم، وحريتهم، وعزتهم، وقيمهم الإيمانية، وأخلاقهم الكريمة، لم يرضوا لأنفسهم بالقعود، وتحركوا، واندفعوا، واستجابوا، وانطلقوا؛ فاستشهدوا، ونالوا كرامة الشهادة، يأتي أولئك- وقد قعدوا وتنصَّلوا عن المسؤولية- ليسخروا منهم، فيقولوا: (لَوْ أَطَاعُونَا): [كنا قلنا له اجلس في بيتك، لا حاجة لك في هذا، لا تدخل نفسك في هذه المشاكل، دعهم وشأنهم اترك هؤلاء]، تثبيط، تخذيل، ارجاف، تهويل، تضليل، خداع، تشويه… عبارات كثيرة، الهدف منها: تجميد الناس معهم، والكثير من أولئك المنافقين لا يكتفون بأنهم قد ارتكبوا معصيةً بقعودهم، ووزرًا بخنوعهم، وأساؤوا حتى إلى أنفسهم بتنصلهم عن المسؤولية، إنما يتجهون إلى الآخرين للتثبيط بكل الوسائل والعبارات، ويطلبون من الآخرين أن يقعدوا كما قعدوا، وأن يجمدوا كما جمدوا، وأن يتنصَّلوا عن المسؤولية كما تنصَّلوا، وأن يفرِّطوا فيها كما فرَّطوا، أن يتخاذلوا كما تخاذلوا، أن يتجردوا من قيمهم: (الإنسانية، والفطرية، والإيمانية، والدينية) كما تجردوا.
(لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) يعني: فاعتبروهم خاسرين، أنهم بتضحيتهم خسروا، {قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، فالتهديد يطالكم، وأنتم لن تسلموا أبدًا، ولستم عباقرة للدرجة التي ستسلمون من خطر الموت، وتخلدون في هذه الحياة، إنَّ العدو يشكِّل خطورةً عليكم من جانب؛ لأنه يمكن أن يطالكم بشره في أي لحظة، وأيضًا الموت الذي لابدَّ منه آتٍ، ولن تدفعوا عن أنفسكم هذا الموت الذي لابدَّ منه، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}[آل عمران: 169-170]، فلم يخسروا؛ لأن الله أعطاهم عندما استشهدوا في سبيله حياةً خيرًا من هذه الحياة، وسعيدةً بدلاً من هذه الحياة المليئة بالمنغصات.
مرضى القلوب وسنة الله في كشف واقعهم.
يقول الله -سبحانه وتعالى- أيضًا– وهو يوضح في كتابه الكريم أنَّ سنَّته في هذه الحياة أن يكشف واقع الناس من خلال مسألة الجهاد والولاء، بالتحديد هذه المسألة، يقول -جلَّ شأنه-: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}[محمد: الآية29](الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) من المنتسبين للإيمان والمدَّعين له، ولكن في قلوبهم مرض، وطبعًا هذا المرض غير المرض الجسمي، يعني: ليس مرض الشرايين ولا الصمامات… ولا من أيٍّ من هذه، هذا مرض من نوع آخر، إما شك في الحق، عدم ثقة بالله -سبحانه وتعالى- خبث متجذر بأيِّ شكل من الأشكال: بخل، حقد… أي مرض من تلك الآفات والمساوئ النفسية والأخلاقية، التي تؤثِّر على الإنسان في نفسيته وأخلاقه.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، حالة من الانحراف، حالة تخالف مقتضى الفطرة، المرض: هو الحالة التي تخالف مقتضى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، الإنسان مفطور على قيم ومبادئ عظيمة، والدين إنَّما يأتي متطابقًا مع الفطرة، ولكن الإنسان- أحيانًا- ينحرف عن فطرته هذه؛ فيؤثر حتى على فطرته، تتأثر فطرته، يتوجه نحو أشياء أخرى، ويتربى على أشياء أخرى، ويتعود على أشياء أخرى؛ حتى تنطبع بها نفسه، وتنمحي تلك القيم الفطرية، أو تضعف- إلى حدٍ كبير- مقابل تجذر وتعمق تلك الأشياء السلبية التي دخلت على نفسيته، وعلى مشاعره، وعلى وجدانه؛ فانشد إليها بأكثر من الأشياء الفطرية، وأحيانًا يصل البعض إلى أن تنتهي وتندثر بقايا تلك الأمور الفطرية التي أودعها الله في أعماق نفسه.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}[محمد: 29-31]، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) من خلال الأحداث والمواقف التي يتحتم عليكم في مقابلها أن تجاهدوا، فَمَنْ جاهد أثبت مصداقيته مع الله، مَنْ جاهد وصبر أثبت مصداقيته، وتجلى ما يحمله في واقعه: من إيمانٍ راسخ، من قيم عظيمة، من أخلاق عظيمة، من مبادئ راسخة عظيمة، من التزام عملي، وصدق في الاستجابة لله -سبحانه وتعالى- ومن لم يجاهد، وتنصَّل عن المسؤولية؛ يتضح أمام الله أنَّه يعاني من ذلك المرض الذي مَثَّلَ عائقًا أمامه، مرض في مبادئه، في انتمائه، في عمق نفسه، عنده أضغان، عنده خلل معنوي كبير مَثَّلَ عائقًا ما بينه وبين أن يستجيب لله -سبحانه وتعالى-.
وفعلاً، تجد ما يدل على هذا المرض، طبيعة الأحداث طبيعة تجلِّي كل شيء، مثلًا: في ظل الصراع- نفسه- يحصل من جانب قوى الشر والطاغوت والإجرام جرائم وممارسات بشعة وفظيعة جدًّا، يندى لها جبين الإنسانية، نرى اليوم مثلًا، في العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي على بلدنا، ماذا يفعل أولئك بنا كشعبٍ يمنيٍ مسلم؟ أوليسوا يقتلون منا الآلاف المؤلفة من الأطفال والنساء بجرائم بشعة ووحشية للغاية، مشهد من تلك الجرائم وأنت ترى منزلًا مدمرًا، أو تجمعًا بشريًا في سوق، أو في مسجد، أو في مستشفى، أو في مدرسة، وترى كيف ألقوا قنابلهم المدمرة والفتاكة على ذلك التجمع، وقد مزقت الكثير من أولئك الأطفال والنساء والناس إلى أشلاء، وتفحَّمت جثامين أكثرهم، والبعض قد أصيبوا بجراحات كبيرة جدًّا، والبعض جراحات قاتلة، إنما البعض لا يصل حتى إلى المستشفى، أو ما إن يصل حتى ينال الشهادة، المشهد بنفسه مشهد مؤثر، يكفي أن تكون إنسانًا سليمًا طبيعيًا عاديًا؛ لتتأثر بذلك المشهد، مشهد مأساوي، مشهد يعبِّر عن مظلومية كبيرة جدًّا، الأطفال الذين لا يزالون يعانون من الجراحة، ودماؤهم تنسكب، وأجسادهم تتلوى من الألم، وهم يصرخون من الأوجاع، مشهد مؤلم جدًّا، يكفي أن تبقى فيك بقايا من إنسانيتك؛ لتتألم، ولتدرك بشاعة ما يفعله أولئك الطغاة المجرمون بمثل هذه الجرائم التي يرتكبونها كل يوم، هذا بنفسه كافٍ في أن يكون لك موقف، ولكن أمام هذا كله، وهو مشهد كبير ودامي ومؤلم جدًّا، ويتكرر يوميًا، وتكرر بكثير وكثير؛ حتى طال الآلاف، وشمل معظم المحافظات والمناطق، وشاهده الكثير، أو يمكن للكثير أن يشاهدوه، مع ذلك البعض لا يبالي، لا يكترث، لا تتحرك حتى فيه المشاعر الإنسانية، لا يأسى لذلك، ولا يتفاعل مع ذلك، نفسية كهذه، أمام مشاهد كهذه، متبلدة، وباردة، وجامدة، ومستهترة، ولا مبالية، هل هي مشاعر سليمة؟ |لا|، مرض، لم يعد إنسانًا طبيعيًا، لو بقيت له فطرته الطبيعية، ونفسيته السليمة، الله فطر الأنفس أن تتألم عندما تشاهد مآسٍ كتلك، مظلومية كتلك، يتألم لها البعض من أطراف الدنيا، وترى البعض ممن هم يتسمَّون بأنهم متدينين وإسلاميين، مثل: بعض المنتمين لحزب الإصلاح، والتكفيريين، يرتاحون لمثل تلك الجرائم، ويبررونها، ويجوزونها، ويشرعنونها باسم الدين نفسه، باسم الدين نفسه، بالافتراء على الله -سبحانه وتعالى- ولا يرون ضيرًا- كما قال أحدهم- في أن يقتل ولو أربعة وعشرون مليون يمني، ويبقى مليون واحد أو أقل أو أكثر، في مقابل أن يصلوا هم إلى السلطة، وأن يتحقق لهم في التنكيل بهذا الشعب ما يريدونه، ما يسعون له بأحقادهم، وضغائنهم، وأمراضهم، وعقدهم.
إذًا، الأحداث نفسها يتجلى من خلالها ما الناس عليه، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، أي مرض كان هذا: شك، حقد… أي ضغينة لابدَّ أن تخرج إلى الواقع، {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، حتى في تعبيرهم، في كلامهم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.
الامتحان الإلهي في مدرسة الحياة
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، كيف هو هذا الابتلاء، كيف هو هذا الاختبار؟ هل في مدرسة، يتجه الإنسان بقلم، ويستلم الصفحات، ويقوم يكتب الجواب على الأسئلة؟ أجل، مدرسة، لكن ليست على ذلك النحو، هي هذه الحياة، وما فيها من أحداث، وما تكتبه بأفعالك وأقوالك، وما تحدده بمواقفك وولاءاتك وعداواتك، أين أنت، وأين تتجه؟
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، وأمام أحداث كهذه التي نحن نعيشها، نحن في مقام هذا الابتلاء، وفي مقام هذا الاختبار، وإلَّا متى؟ البعض يتصور أنَّ هذا الابتلاء لم يأتِ بعد، فهل ينتظر له ليأتي يوم القيامة؟ |لا| نحن في هذا الزمن نعيش أمام هذه الأحداث والعواصف هذا الاختبار، الله -سبحانه وتعالى- أيضًا يوضح أنَّ ما يجلي: المؤمنين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهذه الفئات الموجودة- أصلًا- في داخل المجتمع المسلم، هو الأحداث، وهو التحديات، وهو مدى الموقف من هذه الأحداث.
في قصة غزوة الأحزاب، وقد أتى الأعداء بجموعهم وجيشوهم، وحاصروا المدينة المنورة، وأرادوا اجتياحها والسيطرة عليها، وتحرك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليتحرك بالمسلمين لمواجهة هذا التحدي، والقيام بالمسؤولية أمام ذلك الخطر، يتحدث القرآن الكريم عن ذلك، يقول الله تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم}، يعني: الأعداء، {مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}، فأحاطوا بالمدينة من كل الاتجاهات، {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب: الآية10]، يعني: كان للحدث أثره في الضغط على كثير من الناس، والتأثير النفسي والمعنوي عليهم، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}[الأحزاب: الآية11]، وليس المقصود يعني: هزات أرضية، هذا الزلزال يعني: مستوى ضغط الأحداث، تأثيرها، عندما يشاهدون أنَّ هناك فئات تخلخل الصف من الداخل، ومهزوزة جدًّا من الأحداث، لدرجة تسعى فيها للتنصل عن المسؤولية، ولتخذيل وتثبيط الآخرين، ويرون مستوى الخطر (خطر اجتياح الأعداء)، وما يمكن أن يحدث فيما لو تمكن الأعداء ونجحوا من السيطرة في سعيهم لاجتياح المدينة، فيسمى هذا زلزالًا، {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}، يعني: ليس المقصود هزات أرضية، هذا زلزلة المشاكل والتحديات.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}[الأحزاب: الآية12]، المنافقون ليس عندهم ثقة بالله أبدًا، ولا يحسبون حساب التوكل على الله، والاعتماد على الله في مواجهة التحديات والأخطار، وأنَّه يمكن للناس أن ينهضوا بمسؤوليتهم، ويقوموا بواجبهم، ويتوكلوا على الله ربهم، وهو سبحانه خير الناصرين، نعم المولى ونعم النصير، وعندما يسمعون طرحًا كهذا، وحديثًا كهذا، وتذكيرًا للناس بهذا، أنَّه: يا قوم لنواجه هذا التحدي، ولنقف بوجه هذا الخطر، ولنعتمد على الله، ولنثق بالله، ولنتوكل على الله، ولنلتجئ إلى الله، وهو الناصر والمعين. يَعتَبر أنَّه لا معنى لهذا الكلام، ونقول: يا أيُّها الناس هناك وعود إلهية صادقة، إذا قمنا بواجبنا لن يخلف الله وعده، هو القائل: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، هو القائل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}[الحج: من الآية40]، يعتبرون هذه الوعود الإلهية لا معنى لها، فهم اعتبروا في غزوة الأحزاب حتى وعود الله التي بلَّغ بها رسوله في النصر والفتح المبين للأمة وللدين، اعتبروها مجرد غرور- والعياذ بالله- تشكيك بها، واتهام بالمخادعة، أمر رهيب جدًّا.
التحرك النّفاقي أثناء التحديات
طبعًا، في الظروف الحسَّاسة والعصيبة، وأمام الأحداث الضاغطة، يتحرك المنافقون والذين في قلوبهم مرض؛ ليشككوا، ليثبطوا، ليخذلوا، ليرجفوا، يعني: يتوقع الناس منهم- في الظروف الحسَّاسة- أن يحاولوا أن ينشطوا أكثر، وأن يتحركوا في الساحة أكثر بهذه الطريقة السلبية.
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، يتوجهون إلى الذين يتحركون للقيام بواجبهم، للجهاد في سبيل الله، للمرابطة، من أهل يثرب- يثرب نفس منطقة الأوس والخزرج، نفس المدينة اسمها يثرب- يقولون لهم: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ}، اترك هذا العمل، لا تذهب هناك في المرابطة، ارجع لا تسر منطقة القتال، لا تذهب إلى الجبهة، لا تسر إلى الموقع، ارجع بيتك ولا تتدخل، اهتم بنفسك وأسرتك وحياتك واترك هؤلاء، {لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}[الأحزاب: الآية13]، سعي للهروب والتنصل عن المسؤولية من البعض، وتثبيط واضح، وتخذيل بشكل كبير من البعض الآخر، إلى آخر الآيات، يقول فيها أيضًا: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}[الأحزاب: الآية18]، البعض يشتغل بهذه الطريقة، أمام الأحداث، أمام التحديات والمخاطر التي يتوجب على الأمة أن تتحرك فيها بالموقف الصحيح الذي أمر به الله -سبحانه وتعالى- ويفرضه الانتماء الإيماني، يأتي البعض ليثبط، ليخذل، ليضع العوائق أمام تحرك الآخرين بما يثبطهم به، ويخذلهم به، {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}، أقبلوا إلينا، ارجعوا إلينا، اتركوا هم، تعالوا اجلسوا عندنا نتحدث نحن وأنتم ونجلس سواء، واتركوا هؤلاء، {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً}، إن اضطروا في موقف واحد، ويبدل هذا الموقف بكثير وكثير من التثبيط والتخذيل.
إلى أن يقول الله -سبحانه وتعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، رسول الله سيد الجهاد، وسيد المواقف، سيد الثبات، سيد الحق، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب: الآية21]، يقول أيضًا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}، شاهدوا وعاينوا جموع الأعداء وقد وصلت {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، في مقابل أنَّ أولئك قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}[الأحزاب: من الآية12]، هؤلاء قالوا: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ثقة بوعد الله -سبحانه وتعالى- {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}[الأحزاب: الآية22]، سبحان الله كيف أثر الأحداث الإيجابي في نفوس المؤمنين الصادقين، يزدادون إيمانًا ويزدادون تسليمًا.
الطليعة الصادقة
ثم يقول -جلَّ شأنه-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: الآية23]، وفي الروايات: أنَّ أول مصداق وأول طليعة لهذه الفئة من المؤمنين الصادقين هم: (علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب)، وتشمل كل المؤمنين الصادقين الأوفياء، الذين يلقون الله بالوفاء، وهم قائمون بواجباتهم ومسؤولياتهم، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، ما تأثَّروا لا بالأحداث، ولا بالظروف، ولا صدمتهم المتغيرات ليتراجعوا عن مواقفهم؛ لأن مواقفهم نابعة من إيمانهم، ليست مواقف زائفة، فتجد كيف يتجلى موقف المؤمنين بثباتهم، بصبرهم، باستمراريتهم، بتحملهم للمسؤولية، وكيف يتحركون بناءً على هذا الأساس، لا يؤثر فيهم الإرجاف أبدًا.
نجد قول الله -سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}، حشود آتية، وجيوش جرارة، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: الآية173] (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً)، أيضًا عند المعاينة لجموع الأعداء وقوتهم لم يتراجعوا، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}، كذلك عند الشدائد، والمحن، والآلام؛ يزدادون ثباتًا ونقاءً، {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}[آل عمران: من الآية141]، خلصوا من الشوائب أكثر، بدلًا من أن تغرقهم، أو تعصف بهم تلك الشوائب فتخرجهم عن طريق الحق {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية146].
ثمرة الاستجابة لله -سبحانه وتعالى– هي صدق وعد الله، أن يحقق الله وعده، يمكن للناس أن يمروا بمتعرجات، بظروف صعبة، بتحديات، فإذا تجاوزوا الاختبار، وتجاوزوا تلك المراحل الصعبة بثباتهم، وإيمانهم، وتضحيتهم، ووفائهم مع الله -سبحانه وتعالى-؛ فالله يفي معهم، ولا يمكن أن يخلف وعده، هو قد وعد بالنصر، ولكنه يختبر ويمتحن، كما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، اختبار أولًا: في من سيجاهد، واختبار ثانيًا: في من سيصبر، يصبر في المحطات والظروف الصعبة، من لدية روحية العطاء والثبات في كل المراحل، لا يتغير ولا يتبدل {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، قناعتهم ثابتة، مواقفهم ثابتة، مسارهم العملي ثابت، ما هناك تبديل أبدًا، هذه الروحية الراقية المطلوبة. في الحالة الثانية: حالة التراجع التي تكشف عن خبث لدى الإنسان، وخلل كبير، ولا مصداقية في انتمائه، هذا جانب من الجوانب المهمة.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لنكون من عباده الصادقين المؤمنين.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛