المحاضرة الخامسة لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة عاشوراء – 9 محرم 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نتائج الانحراف عن المعالم الأساسية في الإسلام
في سياق الحديث عن الانحراف الكبير في تاريخ الأمة، الذي عمل على الاتجاه بالأمة في طريقٍ متعرجة بعيدًا عن الصراط المستقيم، والزج بها نحو سبلٍ معوجة، خارجةٍ عن النهج الأصيل الذي كان عليه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وتضمنته آيات الله في كتابه القرآن الكريم، في هذا السياق المنحرف، والذي عبَّر الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بتوصيفٍ دقيقٍ ومحقٍ، فيما وصفه به فقال: إنَّهم سيتخذون (دِينَ اللهِ دَغَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا، وَمَالَهُ دُوَلًا)، في هذا المسار المنحرف المعوج أتى الطغيان الأموي بيزيد بن معاوية، ليكون في موقع القرار والسلطة والتَّأمُّر على الأمة الإسلامية، وهذه خطوة كارثية، وفظيعة جدًّا، وتمثِّل انقلابًا واضحًا ومكشوفًا على حقائق الإسلام، وعلى مبادئ الإسلام، وعلى منهج الإسلام، يزيد بما عرف به وما عرف عنه، وبما يمثِّله من نقيضٍ تام مع تلك المبادئ الإسلامية، مع تلك القيم الإسلامية، مع ذلك المنهج الإلهي؛ يؤتى به ليفرض على الأمة الإسلامية في موقع القرار والسلطة، وفي موقع القيادة والإمرة، الموقع المهم، الذي تدار من خلاله شؤون الأمة بكلها، ومن خلاله تُرسم مساراتها وسياساتها واتجاهاتها ومواقفها، وإدارة كل شؤون حياتها، وأيضًا من خلال هذا الموقع تصبح كل قدرات وطاقة هذه الأمة تحت السيطرة: القدرات العسكرية، القدرات المادية؛ فكانت هذه الخطوة كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، وتمثِّل خطورةً بالغةً على الأمة في دينها وانتمائها وهويتها، وحتى على مستوى استقرارها، وصلاح حياتها وشأنها.
من هو يزيد؟
عُرِف عنه أولًا: استهتاره بالإسلام: وفي كثيرٍ من عباراته ومقاماته ومقالاته وأشعاره ورد ما يعبِّر عن هذا الاستهتار بالإسلام جملةً وتفصيلًا، بل عبارات تعبِّر عن حالة الكفر بنبوة رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- من مثل قوله:
لَعِبَت هَاشِمُ بِالمُلكِ فَـلَا خَبَرٌ جَاءَ وَلَا وَحيٌ نَزَل
هو يصرِّح في هذا البيت من الشعر بكفره التام بنبوة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ويعتبر أنَّ ما أتى به رسول الله هو مجرد حيلة للوصول إلى الملك، وهذه نفس عقيدة المشركين التي كانوا يعتقدونها في حربهم ضد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وعبارات أخرى فيها إساءة إلى الدين الإسلامي، إساءة- كذلك– إلى مبادئه، إلى شرائعه، إلى أشياء كثيرة في الدين الإسلامي.
وثانيًا: كان يحمل عقدة الانتقام والحقد على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: وكان هذا واضحًا، وتجلَّى أكثر بعدما فعله في عترة رسول الله وبالإمام الحسين -عليه السلام- فقد تجلَّى- كذلك– في أشعاره، وفي مواقفه، وفي كلامه، وفي أقواله ما يعبِّر عن هذا الحقد، وعن تلك العقدة من الانتقام التي يسعى للوصول إليها؛ فهو كان يسعى عمليًا لأن يتمكن من موقعٍ يحقق له فيه هذه الأمنية: الانتقام من رسول الله، هو القائل فيما بعد:
لَستُ مِنْ خِنْدِفَ إِن لَم أَنتَقِم مِنْ بَنِي أَحمَدَ مَا كَانَ فَعَل
وهو يقول في هذا الشعر أنَّه لابدَّ وأن ينتقم من رسول الله في عترته، في ذريته؛ على أساس الثأر لأسلافه الذين قتلوا في حربهم الجاهلية ضد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فهو كان يحمل هذه العقدة من الانتقام، ويسعى للوصول إليها في الانتقام من رسول الله من خلال ذريته، والانتقام من بقايا المهاجرين والأنصار، وخصوصًا الأنصار (الأوس والخزرج)، الذين كان حاقدًا عليهم بشكل كبير جدًّا، ويضمر ويُعِدُّ العدَّة للانتقام منهم شر انتقام وأشد انتقام، وفعل ذلك في نهاية المطاف، وسنأتي- إن شاء الله- إلى الحديث عن ذلك.
فإنسان يحمل عُقد الجاهلية حتى ضد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وضد من كان لهم دور بارز في حمل راية الإسلام، يعني: أنَّه على نقيض تام مع مبادئ الإسلام وقيمه، وأنَّه لم ينسجم بعد مع هذا الدين لا في مبادئه، ولا في قيمه، ولا في أخلاقه، ولا في رموزه، حتى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- لا يزال حاقدًا على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ولا مع أمته، كحالهم مع الأنصار، وكحالهم مع أخيار الأمة في أيِّ بقعةٍ كانوا، حاقد بشكل كبير جدًّا.
ثم هو ثالثًا: مُعلنٌ بالفسق والفجور: كان إنسانًا مشهورًا ومعلنًا وواضحًا في فسقه وفي فجوره، في ممارساته الإجرامية، في ارتكابه الفواحش، في شربه للخمور، في سكره، في عبثه، في جرائمه الأخلاقية الفظيعة جدًّا التي اشتهرت في الآفاق، في استهتاره بشرائع الدين وقيمه، في استهتاره- أيضًا– حتى بالعبادات في الإسلام؛ فكان- كما في كلام الإمام الحسين عنه، كما ورد أيضًا في كتب التاريخ عنه- كان معلنًا للفسق والفجور، واضحًا في ذلك، منكشفًا في ذلك، متبجحًا بذلك، فهو جريء في فجوره، وواضح في فسقه، ومستخف بالأخلاق الإسلامية والالتزامات الدينية، وواضح في أنَّه إنسان فاجر من الطراز الأول، فاجر بشكل فظيع جدًّا وبشع.
ثم هو- كذلك- مجاهرٌ بالرذائل، لدرجة لا نستطيع التعبير عن بعض ما ورد بشأنه في كتب التاريخ فيها، يعني: أحط مستوى يمكن أن تتخيله أو تتصوره عن إنسان مفلس إفلاسًا تامًا من القيم الفطرية والإنسانية كان عليه يزيد، حالة رهيبة جدًّا وفظيعة ودنيئة من الانحطاط والخسة والجرأة على ارتكاب الرذائل بكل أشكالها.
ثم كان- أيضًا- مستبيح للمقدسات، لا حرمة عنده لأي مقدس في هذا الإسلام: لا للرسول، ولا لمسجده، ولا لقبره، ولا لمدينته، ولا لأنصاره، ولا لذريته، ولا لعترته، ولا لمكة، ولا للبيت الحرام… ولا حرمة عنده لأي شيء من مقدسات الإسلام.
الهاوية التي تحرك يزيد بالأمة اليها
إنسان على هذا النحو من الاستهتار بالإسلام جملةً وتفصيلًا، من الحقد الواضح والمعلن والبين والمكشوف على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وإظهاره رغبته الشديدة في الانتقام من رسول الله عن الحروب التي خاضها أسلافه في الجاهلية ضد رسول الله، وتكبَّدوا فيها خسائر، وهو يسعى للانتقام من موقع السلطة، وبالاستفادة مما يتمكن منه في هذه الأمة التي تنتسب إلى هذا الإسلام، فيسعى للانتقام من رسول الله، ويسعى لتصفية الحسابات مع الأوس والخزرج، مع الأنصار، أنصار الإسلام، أنصار رسول الله، ويسعى للانتقام منهم أشد الانتقام، وفعل ذلك في وقعة الحرَّة، التي نكَّل فيها تنكيلًا كبيرًا بأهل المدينة، وبالذات الأنصار وبقايا الصحابة، وقضى على ما بقي- آنذاك- فيها من الوجوه البارزة، مثلًا: كل من حضر معركة بدر أمر بإعدامه، قال لهم: أي واحد تشاهدونه في المدينة ممن حضر مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وشارك في غزوة بدر، التي كانت أول معركة ما بين المسلمين وما بين المشركين، وقُتِل فيها- آنذاك- جدُّ يزيد (والد أمه)، وكذلك أخو جده، وخاله، وأخوه تقريبًا، وبعض المقربين منهم، وجملة من القيادات والشخصيات الفاعلة والبارزة في مجتمع قريش- آنذاك- الذي كان يحمل لواء الشرك والحرب ضد الإسلام، أمر يزيد بن معاوية أن يقتل أي إنسان بقي ممن حضر بدرًا مع رسول الله، أن يتم إعدامه؛ انتقامًا من مشاركته في الجهاد مع رسول الله ضد مشركي مكة.
تخيلوا.. إنسان بهذا الحقد على رسول الله، وعلى أنصاره، والمجاهدين معه، وعلى المقدسات، يستهتر بها، كل المقدسات يستهتر بها كلها، سواءً في المدينة، أو في مكة، سواءً المقدسات التي هي معالم: كالبيت الحرام، كالمسجد النبوي، كقبر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أو المقدسات المتمثِّلة بالإمام الحسين، في أعلام الهداية… كل المقدسات لا حرمة لها عنده، وكل الحرمات بالنسبة للأمة في واقعها، كل إنسان مؤمن له حرمته في دمه، في عرضه، في ماله… كل هذه الحرمات مستباحة من جانب يزيد بن معاوية.
إنسان بهذا المستوى من الإجرام، يتجاهر ويتظاهر ويعلن بالفسق والفجور، ولا يستحي أبدًا، ولا يتحرج في أن يظهر بما هو عليه من فجور وفسق وإجرام، يعني: إنسان مجرم من المستوى الأول من المجرمين، قُدِّم ذلك المجرم بكل ما هو عليه من: فسق، وفجور، واستهتار بالإسلام، وحقد على رسول الله وعترته وأنصاره من المسلمين، وعلى الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله، و… إلى آخر القائمة الطويلة عنه، يُقدَّم ليكون هو الآمر والناهي في هذه الأمة، والمسيطر على القرار في هذه الأمة، ولتكون بيده وتحت سلطته كل إمكانات ومقدرات هذه الأمة، وهو على نقيض تام مع مبادئ هذه الأمة، مع قيمها، مع أخلاقها، واقعه مختلف تمامًا، ويعتبر تمكينه من ذلك جريمة كبيرة جدًّا، مثلًا: الأمة في حال قبلت أن تكون تحت سلطته، وأن تكون كل إمكاناتها وقدراتها البشرية والمادية، وكل ما بيدها تحت أمره وسلطته، وتحت قراره، يتحرك بها كما يشاء ويريد، كيف سيكون برنامج هذا الإنسان في هذه الحياة، كيف ستكون سياساته؟
هو لابدَّ من أن يتحرك في الأمة في اتجاهٍ معين، لن يكون واقعه واقع جمود، مجرد اسم (أمير، أو ملك… أو بأي صفةٍ من الصفات)، لابدَّ من أن يتحرك بهذه الأمة في اتجاهٍ معين، لابدَّ أن يسير بها في اتجاهٍ معين، لن يقف، لن يجمد أبدًا، وسيتحرك من واقع ما هو عليه، في اهتماماته، كيف ستكون اهتمامات إنسان على هذا النحو؟ كيف ستكون سياساته، أولوياته، برنامجه الذي يتحرك بالأمة ليسير بها على أساسه، كيف سيكون؟ سيكون بما هو عليه بلا شك، اهتماماته ستكون مطبوعة بطابعه، أولوياته كذلك، برنامجه كذلك لن يختلف، لن يقدِّم لهم شيئًا من غير ما هو عليه.
طبعًا، فيما هو عليه هو على نقيض تام مع مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه؛ فلا يمكن أن يسير بالأمة على أساس تلك المبادئ وهو على نقيضها، ولا على أساس تلك الأخلاق وهو- كذلك– يختلف معها، ولا على أساس تلك التشريعات وهو أول من يخالفها، لا يمكن أن يسير بالأمة على أساسٍ من ذلك، وبالتالي في بنائه لواقعٍ جديد ينسجم معه، وينسجم مع ما هو عليه: من قناعات، من توجهات، من اهتمامات، من رغبات… لابدَّ أن يغيِّر في واقع الأمة، ويتجه هذا التغيير إلى مبادئ أساسية وجوهرية في الإسلام؛ حتى يتأقلم معه واقع الأمة بشكلٍ تام، ويتطابق مع توجهاته المنبثقة، والناشئة، والناتجة عن ما هو عليه هو في نفسه من: اتجاهات، واهتمامات، ورغبات… الخ. سيتجه إلى تغيير هذا الواقع؛ حتى يتأقلم معه بشكلٍ تام، وهذا يعني: أن يكون هناك تحويل وتغيير وتبديل في واقع الأمة، في مبادئها الأساسية في هذا الإسلام.
ولماذا تغير مبادئ أساسية من الإسلام، من دين الله، من نهج رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- تشطب مبادئ، وتزاح أخلاق، وتلغى تشريعات، وتفرض مسارات وتوجهات جديدة، منحرفة ونقيضة-كليًا- لتلك المبادئ الإسلامية، وتلك الأخلاق الإسلامية، وتلك التشريعات الإسلامية؟ لماذا هذه التضحية بأعظم ما لدى هذه الأمة، بأغلى وأعز ما تمتلكه هذه الأمة، وهو دينها الذي هو هدية، عطاء إلهي، دينها الذي يمثِّل صلتها بالله -سبحانه وتعالى- وصلاحًا لواقعها، وفلاحًا وخيرًا لها في الدنيا والآخرة؟ كل هذا من أجل مَنْ؟ من أجل طاغية، مجرم، منحط، دنيء، خسيس، متجرد من القيم الإنسانية والفطرية والدينية والإلهية، إنسان من أسوء المجرمين، من أظلم الناس، من أفسد الناس، من أجرم الناس! بأي منطق يمكن أن نقول: نعم تغيَّر هذه المبادئ الإسلامية، يشطب هذا المبدأ الإسلامي، تحذف هذه القيم، تزاح هذه الأخلاق، وهذه التشريعات بكلها تلغى، وهذه النصوص القرآنية تجمَّد، والأمة تترك الاقتداء برسول الله، وتقتفي أثر يزيد بن معاوية، كل هذا من أجله، لماذا؟! يعني هذا أمر غريب جدًّا جدًّا! مسألة فظيعة جدًّا، فظيعة جدًّا.
خطوات التمهيد لولاية يزيد
وللتمهيد لها كانت هناك خطوات فظيعة كذلك، في الوقت نفسه تمهيد لهذه المسألة احتاجت إلى خطوات كبيرة، ما قبل يزيد، وللتهيئة ليزيد كان هناك جملة إجراءات، كلها إجراءات إجرامية وخطيرة وهدَّامة بكل ما تعنيه الكلمة:
أُزيحت شخصيات بارزة من الساحة الإسلامية، عن طريق تصفيتها واغتيالها بالسُّم، وفي المقدِّمة الإمام الحسن -عليه السلام- حيث تم اغتياله بواسطة السُّم، وبعض الشخصيات من الصحابة، وبعض من أزواج رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كذلك تم تصفيتهن واغتيالهن بالسُّم.
خطوة أخرى كان فيها شراءٌ للولاءات والذمم، وجاهات، وشخصيات اجتماعية، وشخصيات بارزة في الساحة الإسلامية، ممن قد تأثَّرت بالواقع الجديد في سياساته الجديدة ومتغيراته؛ فتم شراء بعضها بالمال، وبمبالغ بعضها مبالغ محددة، في مقابل موافقتها على يزيد، والبعض الآخر تم شراؤهم بمناصب حُدِّدت لهم، والبقية الباقية بالترهيب والتخويف والتهديد والوعيد، وكل هذه الإجراءات- كما قلنا عنها- إجراءات هدَّامة، مفسدة، فشراء الولاءات والذمم ليقف هذا أو ذاك في صف الباطل، هذا إجراء مفسد وهدَّام، ومضر بالأمة في قيمها وأخلاقها، ومتناقض مع تربية الإٍسلام التي تربي الإنسان أن يكون مبدئيًا ومسؤولًا في قراراته، في ولاءاته، في مواقفه، أن لا يشترى منه ولاؤه أو موقفه بمالٍ أو منصب. |لا| فهذه مسألة تعود إلى إنسانيتك، إلى دينك، إلى إيمانك، إلى أخلاقك… يتحدد موقفك كمسلم على أساس هدي ربك، هدي الله -سبحانه وتعالى- توجيهات الله -سبحانه وتعالى- لا أن يباع بالمال.
فالخطوات التي نُفِّذت كانت خطوات هدَّامة؛ لتمهد لمجيئ يزيد، وتقديمه ليكون في موقع السلطة، كذلك الترويع للناس والتخويف لهم، والتهديد والوعيد، والسعي لأن تكون حالة الخوف مسيطرة على الساحة الإسلامية، ومكبِّلة للناس عن تحديد أي موقف صحيح، أو تحرك صحيح، أو اتجاه صحيح؛ معنى ذلك: السعي للسيطرة على الناس لصالح الباطل بهذه الطريقة: طريقة التخويف والوعيد، فكانت هذه إجراءات- فعلًا– هدَّامة وخطيرة جدًّا.
رفض الأمة لمسار يزيد المنحرف
ومجيئ يزيد في موقع القرار والسلطة بكل ما هو عليه– فيما تحدثنا عن عناوين منه- وبكل ما يمثِّله من تناقض مع هذا الإسلام، له مشكلة مع هذا الإسلام: له مشكلة مع نبيه، ومع أنصاره، وله مشكلة مع مقدساته، وله مشكله مع مبادئه العظيمة، وأخلاقه العظيمة، وتشريعات العظيمة… يختلف معها كلها، له موقف من رسول الله، وله موقف من البيت الحرام، وله موقف من المدينة المنوَّرة، له موقف من الأنصار، له موقف ممن حضر بدرًا، له… كلها مواقف سلبية، كلها مواقف نقيضة ومعادية، وبحقد شديد، يختلف مع التشريعات الإلهية، ولا يلتزم بها أصلًا، ويخالفها، ويرتكب المحرمات، ويستحل المحرمات، يعني: ليس عنده مبدأ: حلال وحرام، هذا أمر مشطوب عنده، كل شيء عنده طبيعي، يفعل ما يشاء ويريد، ما يرغب به يفعله من شهواته، بل تربَّى على الفسق والفجور، ونشأ على الفسق والفجور، وجاهر به وأعلنه، وكان واضحًا فيه، يعني: لا يمتلك حتى الحياء الذي هو خلق فطري عند الكثير من الناس.
فتحركه عل هذا النحو بكل ما يمثِّله من تناقض تام مع الإسلام، يعني: أنَّه سيستغل موقعه في السلطة والقرار، والإمكانات والقدرات التي أصبحت تحت سيطرته ليسير ببرنامجه المخالف للإسلام، الهدَّام والتدميري، في نفس المسار- الذي هو مسار انحراف- في اتخاذ (دِينَ اللهِ دَغَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا، وَمَالَهُ دُوَلًا)، ولكن على أسوء مستوى، بقدر ما هو عليه من سوء هو في نفسه.
واقع كهذا هل يفترض بالأمة الإسلامية أن تتقبله، أن ترضى به، أن تعمل على أساس التأقلم معه، أن تضحي بدينها ومقدساتها ورموزها، وأن تضحي بأخلاقها ومبادئها، وأن تضحي حتى بما فيه الضمانة لخيرها وصلاحها وصلاح حالها في الدنيا والآخرة من أجله؟! يعني: هل نفترض في هذه الأمة أن يكون إنسان طاغية، مترف، مجرم، فاسق، فاسد، متجرد من كل القيم الإنسانية والدينية… عزيز عليها إلى هذه الدرجة؛ حتى تضحي بأعظم ما لديها من أجله؟ بأي منطق يمكن أن نقول ذلك!
هذه الأمة التي إذا عدنا إلى ما ينبغي أن تكون عليه، وهي أمة الرسالة، أمة القرآن، أمة الرسول محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- الأمة التي في منهجها أن تؤمن بكل أنبياء الله، وأن يكون الأنبياء هم قدوتها، وهم أسوتها، وهم هداتها، وأن تكون سيرة رسول الله هي سيرتها، وهي مسارها في هذه الحياة، أن يكون القرآن الكريم هو منهجها، أن تكون مبادئ الإسلام العظيمة هي مبادئها، أن تكون قيم الإسلام، وأن تكون أخلاقه، وأن يكون شرعه هو الذي تبني عليه مسارها في هذه الحياة. الأمة التي تقف في كل صلاة للتوجه إلى الله فتقول: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، بمعنى: أن الصراط المستقيم الذي ينبغي أن تسير عليه في مسيرة حياتها: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، مسيرة هداية.
الأمة التي يفترض بها أن تكون مسيرتها على أساس قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: من الآية110]، ويفترض أن تكون مسيرتها مسيرة أخيارها الذين انطبقت هذه المواصفات في حقهم بشكلٍ تام، أن تحذو حذوهم، وأن تسير على هذا الأساس، الأمة التي يفترض فيها أن تكون كما أمرها الله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف: من الآية14]، الأمة بهذه التوجيهات الإلهية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ} [النساء: من الآية135]، و {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} [المائدة: من الآية8]، هكذا: (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، و(قَوَّامِينَ لِلّهِ)، و(شُهَدَاء لِلّهِ)، و(شُهَدَاء بِالْقِسْطِ)
مسار الطاغية وتناقضه مع مسار الدين الحق
هذه الأمة هل نفترض في حقها أن يقودها لتنفيذ هذا البرنامج يزيد بن معاوية؟! أولًا في: {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} أول مشكلة تكون لهم مع يزيد في: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، ستكون أول مشكلة مع يزيد على المنكرات؛ لأنه يستبيح المنكرات، وينهى عن المعروف، واتجاهه اتجاه آخر، بدل: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}، [كونوا أعداء الله، واقتلوا صفوة وأخيار عباده، واجتاحوا كل الحرمات وكل المقدسات، وافعلوا كل شيء]، أباح المدينة المنوَّرة في كل شيء، أباح سفك الدماء فيها، ونهب الأموال منها، واغتصاب النساء فيها، لثلاثة أيام كاملة، قال لجيشه: [لكم ثلاثة أيام أقتلوا، اغتصبوا، انهبوا، ولا تترددوا في أي شيء]، وفعلوا ذلك، وسنأتي إلى هذا الموضوع بمزيدٍ- إن شاء الله- من التوضيح.
الأمة الإسلامية مسارها الذي يفترض أن تسير عليه، وأن تبني عليه واقعها بكله، هو المسار التي حددته الآيات المباركة، مسار تتحرك فيه في (الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)، صراط الذين أنعم الله عليهم من هداة عباده، هل يزيد منهم، أم أنَّه من أولئك المغضوب عليهم؟ كل ما يمكن أن يغضب الله هو كان يفعله، وفعله، من المغضوب عليهم، ومن أسوء المغضوب عليهم، ومن أرجس وأدنس المغضوب عليهم.
مسيرة الإقامة للقسط، وذاك: ظالم، طاغية، مجرم، مترف، مستهتر بكل شيء، ليس هناك شيء له قيمة عنده: لا مقدسات، ولا مبادئ، ولا قيم، ولا أمة، ولا أي شيء أبدًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: الآية119]، هذا هو المسار المفترض للأمة، وليس مع الطغاة، المجرمين، السيئين.
فإذًا، لا يمكن ليزيد أن يقود الأمة لتطبيق برنامج على ضوء هذه الآيات القرآنية، التي تحدد لنا طبيعة المسار، والطريق الذي يفترض أن تسير فيه الأمة في حياتها ومواقفها، يزيد مساره منفصل كليًا مع هذه الآيات، ليس فقط منفصلًا عنها، وإنما متناقضًا معه هو أيضًا، ليس متفقًا معها بأي شكلٍ من الأشكال، ويفترض أن تكون مشكلة الأمة معه هو وأمثاله في: نهيها عن المنكر، في تصديها للطغيان، في إقامتها للقسط، في مواجهتها للظلم، تكون مشكلتها معه هو وأمثاله ممن على نهجه وطريقته.
الأمة الإسلامية محمية في منهجها الإلهي، إن التزمت به، من أن تكون متقبلة لأن يفرض عليها يزيد وأمثال يزيد، النصوص القرآنية أتت لتحدد للأمة من تتبع، ومن تطيع، وفي أي طريقٍ تسير، وبعضٌ من النصوص القرآنية التي نقرأها، من مثل قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: من الآية28]، كل المواصفات هذه تنطبق على يزيد انطباقًا تامًا، فأغفل الله قلبه عن ذكره وهديه، وهو منصرف عن هذا كليًا، وبكل وضوح أيضًا، ثم هو- كذلك– متَّبع لهوى نفسه بكل وضوح، ولا ينطلق على أساس: شرع الله، ودين الله، وتعليمات الله، وتوجيهات الله، ثم أمره كذلك فُرُط، وتجاوز، وانتهاك للحق والقيم والأخلاق.
الله يقول: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، ويقول: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: من الآية24]، ويقول: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151-152]، الأمة هذه مرسومٌ لها مسارها في الأول في أيِّ طريقٍ تسير، ومع مَنْ، وفي أيِّ اتجاه، وعلى أيِّ أساس، ثم هناك النصوص الكثيرة التي تنهاها وتنهى كل فردٍ منها، وتتوجه بالنهي الواضح والصريح عن طاعة واتِّباع: المجرمين، والضالين، والطغاة، والمفسدين، تجعل الإنسان متباينًا معهم في مسيرة حياته، ومواقفه التي يتحرك على أساسها.
فلذلك يزيد يشكِّل خطورة كبيرة على هذه الأمة، في ماذا؟ في مبادئها، وفي قيمها، وفي أخلاقها، وفي منهجها بكله، وتَمكُّنُه من موقع السلطة والقرار سيساعده على تصفية حساباته في أحقاده الكبيرة، وفي سعيه الانتقامي من الرسول والإسلام والمسلمين، كما يساعده على أن يتمكن من استغلال مقدرات الأمة وإمكاناتها فيما ينسجم مع هوى نفسه، مع ما هو عليه من: انحراف كبير، وإجرام، وفساد… وهذه قضية خطيرة جدًّا، يعني النتيجة فيها: أن تخسر الأمة دينها، أن تنفصل عن هذا الدين في مسيرة حياتها، وتفصل في مسيرة حياتها عن هذا الدين في أهم ما في هذا الدين: من مبادئ، من قيم، من أخلاق، من تشريعات، وأن يتحوَّل واقع الأمة إلى خَوَل، إلى خدم، إلى عبيد ليزيد بن معاوية، مثلما فعل بالذين سَلِمُوا من القتل، بعد دخول جيشه المدينة المنوَّرة، وبعد أن قُتِل أعداد كبيرة، في بعض الروايات التاريخية بالآلاف، في بعض المصادر التاريخية تقول: أنَّ الآلاف قُتِلوا في المدينة، فمن بقي منهم أُجبِرُوا على أن يبايعوا ليزيد بن معاوية، وكانت صيغة البيعة: العبارات التي يبايعون على أساسها، كانت الصياغة هذه لعبارة أن يباع الواحد منهم على أنَّه ماذا؟ مواطن؟ |لا| على أنَّه عبدٌ قِنٌ ليزيد بن معاوية، وأُجبِرُوا على ذلك، التاريخ يذكر هذه الحقائق، أُجبِر بقايا من سَلِمَ من القتل في المدينة المنوَّرة على أن يبايعوا ليزيد بن معاوية، يبايع كل فردٍ منهم على أنَّه عبدٌ قِنٌ، يعني: خالص العبودية ليزيد بن معاوية، وخُتِمَ على كلٍ منهم بختم، كان يستخدم هذا الختم على العبيد؛ يختم عليهم كعلامة مميزة لهم على أنَّهم عبيد، وختم (بالكي الناري) حتى تصبح علامة ثابتة، وكأنَّ الإنسان حيوان، تخيلوا هذا المستوى من الإسراف والإجرام!
إرهاصات المواجهة بين الطاغية والإمام الحسين
يزيد اتجه في برنامجه هذا أول خطوة لتثبيت سلطته في الساحة الإسلامية، وكانت هذه أول مسألة مهمة بالنسبة له، أن يثبِّت أركان سيطرته في الساحة الإسلامية بكلها، وأن يتخلَّص من أيِّ معارضة، أو أيِّ توجه لا يتقبل سلطته وسيطرته على هذه الأمة، وبالطبع كانت أنظاره متجهة نحو المدينة المنوَّرة؛ لأن في المدينة المنوَّرة يستقر الحسين بن علي -عليهما السلام- وهو سبط رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- والمنظور إليه في أوساط الأمة، وهو البقية الباقية لآل رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.
الإمام الحسين -عليه السلام- معروف في الساحة الإسلامية، ليس شخصيةً مجهولةً أبدًا، معروف بشكل كبير في الساحة الإسلامية، معروف بما قاله عنه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بحضوره في ظل والده أمير المؤمنين -عليه السلام- فيما هو عليه أيضًا من كمال، فيما هو عليه في مقامه الديني، وما يمثِّله في مقامه الديني، وهو رمز الأمة، والبقية الباقية من آل رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.
الإمام الحسين -عليه السلام- وبعض الشخصيات البارزة الموجودة في المدينة، كان يزيد يحسب ألف حساب لحسم الموقف معها، ابتداءً بالحسين -عليه السلام- فإذا تخلَّص من مشكلة تلك الشخصيات، وعلى رأسها الإمام الحسين -عليه السلام- يكون قد اطمأن إلى أنَّ الساحة الإسلامية بكلها ستخضع له؛ وبالتالي سيعمل ما يشاء ويريد، ويثبت سلطته في الساحة الإسلامية بحسب هوى نفسه، فأرسل رسالة إلى المدينة المنوَّرة، إلى الوالي هناك، والرسالة هذه تشدد على ضرورة أخذ البيعة من تلك الشخصيات، أربع شخصيات في المدينة وفي مقدمتها الإمام الحسين -عليه السلام- سعى الوالي إلى أخذ البيعة من الإمام الحسين وتلك الشخصيات، ولكن امتنع الإمام الحسين -عليه السلام- وانتقل- بعد امتناعه هذا- إلى مكة.
لماذا تحول الإمام الحسين إلى مكة؟
وطبعًا انتقاله من المدينة، لأن الجو السائد- آنذاك- في المدينة جو مخلخل، ليس جوًا متماسكًا يتجه لموقفٍ موحَّد، بل متأثر بالبيئة السياسية التي اشتغلت فيه بالمشاكل- آنذاك- والتوجهات المتباينة، التي أضعفت مدى ارتباط بعض أهل المدينة بالإمام الحسين وبأهل البيت -عليهم السلام- وحتى أثَّرت عليهم، الواقع الذي كان قد وصل إليه الأنصار في المدينة واقع استضعاف، وواقع مضغوط، وواقع متأثر بالجو العام في ضغطه ومتغيراته، فالإمام الحسين -عليه السلام- كان يعرف أنَّه لن يجد الناصر، ومن يستجيب له، ويتحرك معه في تلك البيئة، وودَّع جدَّه رسول الله، في زيارته إلى قبر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وانطلق صوب مكة.
مكة كانت تمثِّل ملتقًى عامًا في الساحة الإسلامية، الناس يذهبون إلى مكة للعمرة وللحج، ويعوِّل على أنَّه سيأتي موسم الحج وهو هناك، وسيعمل على استنهاض الأمة الإسلامية في مواجهة هذه المتغيرات الخطيرة للغاية، التي تشكِّل خطورة كبيرة جدًّا على الأمة، خطورة رهيبة جدًّا على الأمة، لا يمكن التجاهل لها من جانب الإمام الحسين -عليه السلام-.
في مكة سعى الإمام الحسين -عليه السلام- في لقاءاته مع من يفدون إلى مكة للعمرة، ومن يفدون إليها للتجارة، من يقصدونها في موقعها ومركزيتها الإسلامية، من أتوا فيما بعد بهدف الحج، سعى عدة أشهر لاستنهاض الأمة هناك، والتواصل مع الناس في هذا القطر أو ذاك من أقطار الأمة الإسلامية، ووصلت إليه رسائل أهل العراق، رسائل تؤكِّد الوقوف إلى جانبه، تؤكِّد أنَّها اتخذت موقفها الحاسم تجاه يزيد، وأنَّها على استعداد لمناصرته، وتؤكِّد على ذلك بالبيعة، والقسم، والوعود المؤكَّدة… إلخ. الإمام الحسين -عليه السلام- لم يتلق من كثيرٍ من الأقطار مثلما تلقاه من العراق، وبالذات من الكوفة، والكوفة كان هناك فيها بقية باقية، وحضور لافت لشيعة الإمام علي -عليه السلام- وأنصاره؛ باعتبارها كانت عاصمة للإمام علي -عليه السلام- في ظل خلافته، في الفترة التي أقبلت إليه فيها الأمة وبايعته بالخلافة.
إجراءات ما قبل المسير، والمتغيرات أثناء المسير
فالإمام الحسين -عليه السلام- اتخذ إجراءات مهمة، في مقدمة هذه الإجراءات: أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة؛ ليتأكد، ويتثبت، ويتحقق من مدى إقبال الناس في الكوفة, من مدى ومستوى عزيمتهم، فإذا اطمأن إلى ذلك، ووجد هناك توجهًا جادًّا في ذلك؛ فليرسل إليه برسالة يؤكِّد له فيها مصداقيتهم، وعزمهم، وتوجههم الجاد، وأنَّهم- فعلًا- يتجهون إلى موقفٍ حاسم، واتجه مسلم بن عقيل، والتاريخ يذكر كيف وصل إلى هناك، كيف وجد- أول ما وصل- إقبالًا كبيرًا، وتفاعلًا كبيرًا، وحماسًا كبيرًا ومن جمهور واسع في داخل الكوفة، وعلى ضوء ما شاهده في تلك المرحلة من إقبال وتفاعل وتوجه؛ أرسل رسالته إلى الإمام الحسين -عليه السلام- وصلت رسالته إلى الإمام الحسين، طمأنته إلى أنَّ هناك- فعلًا- إقبالًا كبيرًا، وتجاوبًا كبيراً، وتفاعلًا بالشكل المطلوب، يعوَّل عليه، ويؤمَّل فيه، والإمام الحسين -عليه السلام- تحرك من مكة، في نفس الوقت الذي كانت هناك مخططات لاستهدافه في مكة: بالتصفية والاغتيال، أو بفتح حرب عليه في مكة، وهو يسعى إلى أن يتجنب- بكل جهد- الاحتكاك في مكة، أو جرّ حرب إلى داخل مكة؛ مراعاةً لحرمتها، وخرج باتجاه الكوفة، مسافرًا صوب العراق.
الرحلة إلى العراق- كذلك- حصلت ضمنها عدة متغيرات، منها متغيرات في الكوفة بعد وصول عبيد الله بن زياد واليًا من جانب يزيد عليها، وترتيباته التي اشتغل عليها؛ ليستعد لحرب ضد الإمام الحسين -عليه السلام- سعى أولًا للتخلص من مسلم بن عقيل وبعض أنصاره، وسعى إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة، واستغل بعض الوجاهات التي تعوَّدت على بيع الولاءات وبيع الذمم، وسعى- أيضًا– إلى الاستفادة من بعض الأشخاص الذين لعبوا دور التخذيل والتثبيط، والبعض الذين عملوا بالإرجاف والتهويل، وهذه الحالة كانت قد أثَّرت في الحالة الإسلامية؛ لأنها حالة كان العمل بها كوسيلة من الوسائل لتدجين المجتمع والسيطرة عليه، كانت وسيلة قد استخدمت كثيرًا- ما قبل يزيد- في أيام معاوية، عندما أتى يزيد كانت الساحة قد تأثَّرت بهذا الأسلوب: أسلوب الإغراء للوجاهات وبعض الشخصيات المؤثِّرة في الساحة، وأسلوب التخويف، والوعيد، والتهديد، والإرجاف لعامة الناس، والشخصيات التي قد لا تشترى بالمال، لكنَّها تكبَّل بقيود الخوف، وهذا اشتغل فيه عبيد الله بن زياد، وأعدَّ فيه جيشًا لمحاربة الإمام الحسين.
الدعي ابن الدعي والياً للكوفة!!
وعبيد الله بن زياد هو من الشخصيات المجرمة جدًّا في التاريخ، والفظيعة الأجرام، كما كان أبوه من قبله زياد، وأبوه زياد هو ادَّعاه، هو يسمى الدَّعِي، استلحقه، يعني: ليس ثابت النسب، وهذا زياد كان مجرمًا بشكل كبير جدًّا، وعبيد الله بن زياد- كذلك– كان مجرمًا بشكل كبير، وزياد بن أبيه كان- كذلك– دعيًّا، ادَّعاه معاوية لأبيه (أبو سفيان)، ادَّعى أنَّ والده أبو سفيان زنى بأم زياد، واستلحقه بالنسب، مع أنَّ ذلك مخالفًا لما علم من الدين ضرورة، الإسلام لا يقبل بالعهر والزنا أن يبنى عليه صحة نسب، وفعل ذلك معاوية فيما اشتهر به من مخالفته لكثيرٍ من أمور الإسلام، منها هذه المسألة التي خالف فيها بشكل واضح، وبشكل سيء وفظيع جدًّا، تحدثت عنه كتب الشرع، وكتب التاريخ، وكتب الشعر والأدب؛ لأن ذلك أحدث- آنذاك- ضجة واستغرابًا في الساحة الإسلامية، كيف يأتي معاوية ليلحق نسبًا بواسطة الزنا، كانت مسألة مستغربة في الساحة الإسلامية بشكل كبير، وبطريقة وقحة ومخزية، أقام مؤتمرًا كبيرًا في داخل المسجد في دمشق، وأحضر فيه شهودًا يشهدون على أنَّ أباه زنى بأم زياد، ثم يعلن أنَّه بناءً على ذلك قد قرر استلحاق زياد بنسبه، وحضر زياد في نفس المناسبة تلك، التي كانت مناسبة مخزية، حتى أداؤهم للشهادة شهادة لما سمِّي- آنذاك- أو عرف في التاريخ بـ(أبو مريم)، الذي قالوا: أنَّه كان القوَّاد الذي نسَّق عملية الجريمة للزنا، كل تلك الأجواء أجواء فظيعة، مدنَّسة، قذرة، تلك الأجواء القذرة والمدنَّسة أريد لها أن تكون في رأس الدولة الإسلامية، وأن تكون هي المعنية بزمام الأمور، وأن تقود الأمة، يعني: أمور فظيعة جدًّا طرأت في الساحة الإسلامية، لا تصدق، أمور فظيعة للغاية، شنيعة جدًّا، كلها قائمة على الدنس، والأرجاس، والقذارات، والمعاصي، والفسق، والفجور، وأريد لها أن تكون في موقع الصدارة داخل الأمة، وفي موقع السلطة في داخل الأمة، وفي موقع السيطرة على هذه الأمة، ماذا تنتظر من واقع كهذا؟
الإمام الحسين الامتداد لمنهج الرسول ووارثه
الإمام الحسين -عليه السلام- بكل ما يمثِّله، فيما هو عليه من امتداد لمنهج رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو الوريث لرسول الله في مقام الهداية للأمة، الهادي للأمة، أهدى أمَّة محمد، أصلحها، أطهرها، أزكاها، أتقاها، وهو في مقام القدوة والقيادة لها في دينها، وبالتالي في موقعه العظيم، وفيما عبَّر عنه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو تحدَّث بلحاظ هذا المستقبل القادم والآتي والمهم جدًّا؛ ليقيم الحجة على أمته، وليوضِّح لها المعالم التي بتمسكها بها تنجو، وتفلح، وتفوز، وتتغلب على تلك الأخطار الفظيعة والسيئة جدًّا.
هناك نصوص كثيرة روتها الأمة، وعلمت بها الأمة، وانتشرت في أوساط الأمة، ولا تخص- مثلًا- الشيعة لوحدهم. |لا|، هي موجودة في مصادر الأمة الإسلامية، بحسب أهمية المصادر بالنسبة لتلك الفرقة، أو تلك الفرقة، أو ذلك المذهب، أو ذلك المذهب، من هذه النصوص: نصوص تحدَّثت عن الحسن والحسين -عليهما السلام- مثل نص رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: (الحَسَنُ وَالحُسَين سَيِّدَا شَبَابِ أَهلِ الجَنَّة)، ونصوص- أيضًا– فيما يتعلق بالحسن، ونصوص فيما يتعلق بالحسين -عليه السلام- ونصوص تتعلق بالخمسة أهل الكساء، ونصوص عامة فيما يتعلق بآل رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كل هذه النصوص موجودة في مصادر الأمة المعتبرة لديها بحسب كل فرقة ومذهب، من هذه النصوص المهمة بشأن الحسين -عليه السلام- نصٌ في غاية الأهمية، هو قول رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: (حُسَينٌ مِنِّي وَأَنَا مِن حُسِين، أَحَبَّ اللهُ مَن أَحَبَّ حُسَينًا، حُسَينٌ سِبطٌ مِن الأَسبَاطِ)، هذا النص يبين موقع الإمام الحسين -عليه السلام- وهذا الموقع هو موقع ديني، موقع في الدين؛ لأن هذا الدين يتكون من: منهج يقدَّم إلينا، ورموز وهداة لهذا المنهج قائمون على تطبيقه، وهم القدوة في التمسك به، والالتزام به، وهم الهداة به، ومقدسات، هناك معالم مقدَّسة، مثلما هو بيت الله الحرام، مثل مقدساتنا للحج، المقدسات في المدينة المنوَّرة، المسجد الأقصى… إلخ. فالإمام الحسين -عليه السلام- له هذا الموقع في قول رسول الله: (حُسَينٌ مِنِّي وَأَنَا مِن حُسِين)، وهذا تعبير كبير وعظيم في غاية الأهمية، ولا يعني فقط ارتباط الحسين -عليه السلام- بجده رسول الله، من حيث ارتباط النسب باعتباره حفيد رسول الله، وأمُّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ولكنَّه وريث رسول الله- أيضًا– في موقع الهداية للأمة، والقدوة للأمة، والقيادة للأمة، إنَّه يمثِّل امتدادًا أصيلًا لمنهج الإسلام، إذا أردت أن تعرف الإسلام كما هو، الإسلام في أخلاقه، في مبادئه، في قيمه، في منهجه، في شرعه؛ فهناك رمز يقدِّم لك كل ذلك، هو الإمام الحسين -عليه السلام- الذي تتجسد في مواقفه مواقف الإسلام، في أخلاقه أخلاق الإسلام، في مسيرة حياته منهج الإسلام، في روحيته روحية الإسلام، فهو تجسيد لمبادئ هذا الدين، لقيم هذا الدين، نسخة مصغَّرة عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما يخص هذا الدين، فيما هو عليه من منهج وخُلُق، فيما هو عليه من مواقف، فيما هو عليه من منهج ومسيرة حياة، وليس بنبي، النبوة ختمت برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- لكن إذا أنت ترى أنَّه يقال في واقع هذه الأمة عن العلماء: (العلماء ورثة الأنبياء)، ورثة في ماذا؟ ورثة في علمهم، في نهجهم، في أخلاقهم، في موقع القدوة، في موقع الهداية، فالأجدر بالأولى، بالأكثر مصداقيةً وانطباقاً أعلام الهداية من آل رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وفي رأسهم ومقدمتهم أصحاب الكساء.
فالإمام الحسين -عليه السلام- له هذ الموقع العظيم جدًّا في مرتبة عالية، مرتبة مهمة، ومرتبة عظيمة، ومنزلة عظيمة، يفترض بالأمة أن تلتف حوله؛ باعتباره الامتداد الأصيل لرسول الله في: القدوة، والقيادة، والهداية للأمة، والاتجاه بالأمة في الاتجاه الصحيح، وهذا ما ظهر جليًّا في واقع الإمام الحسين نفسه، يعني: فيما قاله رسول الله عنه، وفيما كان عليه في واقع الحال، وهذا شيء طبيعي أن يكون هناك تطابق، رسول الله لا ينطق عن الهوى، هو ينطق عن الله الذي يعلم بمستقبل عباده، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه: من الآية110]، فرسول الله فيما قاله عن الإمام الحسين -عليه السلام- هو قال ذلك عن الله، بعلمٍ من الله، وبأمرٍ من الله، وبدلالةٍ من الله -سبحانه وتعالى- وحجة على الأمة؛ لأنها مرحلة تمثِّل خطورة كبيرة على هذه الأمة، فالإمام الحسين -عليه السلام- المعروف في هذه الساحة- كان هو من تبنَّى الموقف الذي ينطلق أساسًا من مبادئ هذا الإسلام، وقيم هذا الإسلام، وأخلاق هذا الإسلام، ومنهج هذا الإسلام، وتشريعات هذا الإسلام، في موقفه الرافض تمامًا للبيعة ليزيد، والمتخذ لموقفٍ حاسم من تسلُّطه على الأمة، اتخذ الموقف الصحيح والقرآني، موقفه في ذلك يعبِّر عن هذا الإسلام في كل ما ذكرناه من: مبادئ، وأخلاق، وتشريعات، ومنهج، ويتطابق بما الإمام الحسين -عليه السلام- عليه، وما هو فيه من تجسيد لهذه المبادئ والأخلاق والقيم، وما هو مؤتمنٌ عليه في طبيعة دوره ومسؤوليته المناطة به، والتي يعلَّق عليها الأمل في أن تكون مصدر إلهام وهداية للأمة، ومصدر خير وصلاح للأمة، فكان الإمام الحسين -عليه السلام- في موقفه، وفي فعله، وفي تضحيته، كما كان يؤمَّل فيه وبأرقى مستوى، وبأعظم ما يمكن أن نقول عنه أو نعبِّر عنه من أداءٍ دقيقٍ وتام وكامل، غير منقوص أبدًا، قام بواجبه، بدوره، بمسؤوليته على أرقى مستوى.
هذا ما سنكمل الحديث عنه- إن شاء الله- في كلمة العاشر من المحرم…
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛