الدرس الحادي عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام 17-12-1444هـ
الدرس الحادي عشر للسيد القائد عبد الملك بن بدرالدين الحوثي “يحفظه الله”
من وصية الإمام علي لابنه الحسن “عليهما السلام”
الأربعاء 17 ذو الحجة 1444هـ 5 يوليو 2023م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
وصلنا بالأمس إلى قوله “عَلَيهِ السَّلَامُ”، ((يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ))، في هذه الجمل المهمة، والمفيدة أسس وقواعد للتعامل مع الناس، وقد تقدم في الوصية ما هو مهمٌ، ومفيدٌ في التعامل مع ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وليكون أيضًا منطلقًا في التعامل مع الناس، الإنسان: هو كائنٌ اجتماعي، بدءًا من نشأته في أسرته، وتعامله مع المجتمع، ومع الناس من حوله، وظروف حياة الإنسان مرتبطةٌ في كل شؤونها بالتعامل مع الناس من حوله، في مجتمعه، إضافةً إلى المسؤوليات الجماعية التي هي مسئولياتٌ في إطار التزاماتنا الإيمانية والدينية، كمسئولية التعاون على البر والتقوى، كمسئولية الجهاد في سبيل الله، وكمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كمسئولية إقامة القسط، ولأن الواقع بالنسبة للإنسان شاء أم أبى واقِعٌ اجتماعي، تربطه بالآخرين علاقة، ومعاملة، من واقعه القريب من حوله، الأسرة، الجيران، المجتمع القريب، الأمة التي ينتمي إليها، وهكذا.
فالمسألة ذات أهمية كبيرة جدًّا، ما هي الأسس التي ينطلق الإنسان من خلالها في التعامل مع الناس، ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل مساحةً واسعةً في القرآن الكريم، من توجيهاته، وتعليماته، وأوامره، ونواهيه، وشرع في شرعه كذلك الكثير من الأحكام، والتشريعات التي تنظم مسألة التعامل مع الناس، من داخل أسرتك، إلى أبعد مستوى، إلى أوسع نطاق، وضبط ذلك بضوابط قائمة على أساسٍ من القيم العظيمة، والأخلاق الكريمة، على أساسٍ من الحق، والعدل، والإنصاف، والرحمة، والإحسان، والصدق، والوفاء، وغير ذلك، وأتى مع ذلك الوعد والوعيد، الوعد من ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالأجر العظيم، بالخير الكبير، بما يكافئك ﷲ به في عاجل الدنيا، وما يكتبه لك في الآخرة بناءً على ذلك، ولذلك فجزء أساس من الدين يتعلق بمعاملتك مع الناس، ولأهمية المسألة ورد في الحديث النبوي الشريف ((الدين المعاملة))، لأهمية هذا الجانب، باعتبار أنه يرتبط به مسؤوليات ما بينك وبين ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، محسوبٌ عليك في تعاملك مع الناس طريقة تعاملك، فيرتبط بذلك الجزاء، يرتبط بذلك ما تحاسب به يوم القيامة، والتعامل مع الناس فيه: الكلام، ما يقوله الإنسان لهم، ما يتخاطب به معهم، فيه المعاملات المختلفة والمتنوعة، التي هي ذات طبيعة عملية، سواءً في إطار المسئوليات أو في مختلف ظروف الحياة.
جوانب المعاملات بين الناس مجال واسع، فكلها يجب أن تكون مبنيةً على أساس تعليمات ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوجيهاته، والوعي بأن علينا في ذلك مسؤوليات، وأن علينا في ذلك ضوابط معينة، والتزامات معينة، حتى لا ينطلق الإنسان في التعامل، وفي العلاقة مع الناس، من خلال مزاجه الشخصي، أهوائه الشخصية، كما هو حال الكثير من الناس، فهو يتعامل بدون إحساسٍ بالمسؤولية، بدون شعور، بدون إدراك، بدون وعي، بدون انتباه، لما يترتب على أسلوبه طريقته في التخاطب، والتعامل من حسابٍ وجزاء، وكأن المسألة مباحة، ليقول ما يشاء أن يقول ويتخاطب بالطريقة التي تُرضي نفسه في حالة الرضا، أو في حالة الغضب، أو ليتصرف فيما يريده ويسعى إلى الحصول عليه، بأي طريقة ولو كان في ذلك ظلم، ولو كان في ذلك اغتصاب لحقوق الآخرين، تجاوز لحقوق الآخرين، لا يبالي المهم بالنسبة له أن يحصل على ما يريده بأي طريقة، بأي كيفية.
قد تكون الحالة النفسية للإنسان إذا انطلق من مُنطلق هوى النفس، ورغبات النفس، والمزاج الشخصي، في تعامله مع الآخرين، في تصرفاته معهم، في كلامه معهم، هي الحالة التي تؤثر على الإنسان تأثيرًا سيئًا، فيتجاوز، يتجاوز الضوابط، والتعليمات الإلهية، يتعدى حدود ﷲ في ذلك، فيُسيء، ويظلم، ويكون تعامله بالشكل الذي له نتائج سيئة في الواقع، فنسبةٌ كبيرةٌ من المشاكل بين الناس: مشاكل أسرية، مشاكل بين أبناء المجتمع، مشاكل بين الأخ وأخيه أحيانًا، بين القريب وقريبه، هي تعود إلى هذه المشكلة، طريقة الإنسان، طريقة الإنسان في التعامل، عندما ينطلق من منطلق أهواء النفس، رغبات النفس، المزاج الشخصي، يتعامل بدون مسؤولية، بدون انتباه، ولا التفات إلى القيم العظيمة التي يجب أن يلتزم بها كمسلم، إلى ضابط التقوى لله، أن يتقي ﷲ فيما يقول، في طريقة تعامله مع الآخرين.
فكم حصلت من مشاكل كبيرة أثرت على الناس تأثيرًا كبيرًا في حياتهم، فرقت الاسر، باعدت بين الأحباء والأصدقاء، اثارت الفتن بين أبناء المجتمع، بين الجار وجاره، بين القريب وقريبه، بين مختلف أبناء المجتمع، احيانًا كلمات مسيئة مستفزة ينتج عنها فتن، أو تقطع العلائق والأسباب، أو يترتب عليها نتائج سيئة في الواقع، فيما ينتج عنها من تباعد، وتنافر، ووحشة، وهكذا في مجالات التعامل كم يحصل من ظلم، كم يحصل من إساءات، البعض قد يظلم قريبه، أو قريبته، أو يتيمًا من أبناء أسرته، من أقاربه، كم يحصل مما يعود إلى مسألة التعامل فأمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، قدم هنا قاعدةً مهمةً ومفيدة، تساعد الإنسان على أن يحسن تصرفه، وأن يكون له معيار تجاه ما يقول، تجاه ما يعمل، في علاقاته، في تصرفاته، في معاملاته، مع أبناء مجتمعه تساعده على أن يتعامل بشكلٍ صحيح، قال “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ))، لا تنطلق فقط من انطلاقتك النفسية، من مراعاة مشاعرك النفسية، بحساب وضعك الشخصي فقط، لأن هذه الحالة هي حالة الأنانية، من لا يفكر إلا بنفسه، من لا يحسب إلا حساب نفسه، من لا يراعي إلا نفسه فقط، لا يبالي بالآخرين أبدًا، المهم أن يعجبه الشيء، أن يناسبه الشيء، أن يتعامل بالطريقة التي يرغب بها، أن يقول ما يرغب بقوله دون مبالاة بالآخرين، هي الحالة الخطيرة على الإنسان.
لكن الأسلوب الصحيح الذي يساعدك على أن تتصرف بالطريقة التي أمرك ﷲ بها: هو أن تجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، تجاوز حالة الأنانية، وانظر إلى الآخرين أيضًا، وإذا انطلقت من هذا المنطلق؛ فهذا سيكون عاملاً مساعدًا لك على الالتزام بتعليمات ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوجيهاته في طريقة تعاملك مع الآخرين من حولك، اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، معيار تقيس به حالة التعامل مع الآخرين، من خلال وعيك أيضًا بهم بمشاعرهم، بأحاسيسهم، وهكذا يقول: ((فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا))، وهذه الحالة التي يربينا عليها الإسلام كمجتمعٍ مسلم، أن نحمل في أنفسنا المحبة للخير للأخرين، ألا تكون فقط تحب لنفسك الخير، تحب لنفسك أن يتعامل الناس معك بأرقى طريقة، بالحق، والعدل، والإنصاف، والإحسان، وأن يريدوا لك الخير ثم أنت لا تحمل تجاههم نفس المشاعر، ولا تبادلهم هذه المشاعر، الحالة التي يربيك عليها الإسلام: هي هذه الحالة؛ أن تشعر بالآخرين، أن تنظر نظرة إيجابية للأخرين من حولك، من أبناء مجتمعك، أن تنظر إليهم هذه النظرة، تحب لهم من الخير ما تحب لنفسك، تلحظ أن تتعامل معهم بما تحب أن يتعاملوا به معك، ((فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا))، والإنسان إذا لم يحمل هذه الروحية، فهو يحمل حالة الأنانية، لا يريد إلا نفسه، لا يفكر إلا بنفسه، لا يحسب إلا حساب نفسه، ولا يبالي بالآخرين أبدًا، وهي حالة سلبية جدًّا، كم ينتج عنها من تعاملات سيئة، من تصرفات سيئة، وإذا حمل الإنسان هذه المشاعر الإيجابية، التي تدل على زكاء نفسه، طهارة نفسه ووجدانه ومشاعره، تخلصه من الأنانية، فهذا سيسهل عليه طريقة التعامل مع الآخرين.
((وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ))، أول، وأكبر، وأخطر محذور، يجب أن نحذر منه في التعامل مع الآخرين من حولنا، مع أبناء مجتمعنا، مع الناس هو: الظلم، الظلم خطيرٌ جدًّا الإنسان إذا مارس الظلم سواءً فيما يقوله هناك ظلم في الكلام، وظلم في التعامل، الظلم دائرته واسعة في مختلف مجالات التعامل، البعض قد يظلم فيما يقوله، البعض في تعامله، البعض في سطوته وجبروته… إلخ، وأيضًا الظلم بالنسبة للناس من حيث اقتدارهم قد يكون من موقع مسؤولية، كمن يظلم وهو متمكن من مسؤولية معينة، فالظلم محذورٌ خطيرٌ جدًّا حرمه ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوعد عليه باشد الوعيد فالإنسان يجب أن يكون حذرًا من أن يتورط في الظلم فيما يقول، فيما يعمل، في تعامله، في تصرفاته مع الآخرين، البعض قد يتورط كما قلنا في ظلم قريب له، في ظلم يتيم، أو في ظلم قريبةٍ له؛ لأنه يستقوي عليهم، وبحسب قدرته، وإمكاناته، يمارس ظلمه بحق الآخرين، البعض قد يظلم وهو في موقع مسؤولية.
فالظلم في كل الأحوال: هو ذنب عظيم، توعد ﷲ عليه بالعذاب في جهنم، كم في القرآن الكريم، من آيات فيها وعيد شديد للظالمين، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}[أبراهيم: 42-43]،{أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}[الشورى: من الآية 45]، {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية 18]، آيات كثيرة فيها وعيد شديد، فحالة الظلم هي حالة خطيرة جدًّا، يجب أن يكون الإنسان حذرًا منها، منتبهًا منها، مدركًا لخطورتها عليه، يلحظ ما ورد بشأنها في القرآن الكريم على لسان رسول ﷲ “صَلَوَاتُ ﷲ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وأيضًا يلحظ على مستوى واقعه النفسي، كيف هي مشاعرك تجاه من يظلمك، ألست تتألم، ألست تحزن، كيف هي مشاعر الألم، والأسى، والحزن، والضيم، عندما تعاني من الظلم، أنت لا تحب أن يظلمك أحد، فلا تظلم أنت، لا تظلم أنت الآخرين، أستفد مما تحس به من هذه المشاعر في واقعك النفسي، وأنت لا تريد أن تُظلم أبدًا، فكن حذرًا من أن تمارس ذلك بحق الآخرين، تذكر في الآخرين ما عشته أنت في واقعك النفسي، مشاعرهم، الآمهم، أحزانهم، شعورهم بالأسى، وكذلك تذكر المخاطر المترتبة على ذلك تجاه ما بينك وما بين ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ))، أحسن في تعاملك مع الآخرين، تعامل معهم بطريقة حسنة بدلاً من الإساءة، بدلاً من أن تكون مسيئًا في كلامك، في تعاملك، في طريقتك في التخاطب معهم، أو التعامل معهم، في علاقتك بهم، أحرص على أن تكون محسنًا بدلاً من الإساءة، وأيضًا أحمل روحية الإحسان في الاهتمام، بأمر الآخرين من أبناء مجتمعك الضعفاء، والفقراء، والأرحام، وكل الناس أحمل روحية الإحسان إليهم، الاهتمام بأمورهم، الإحسان إليهم بما تقدمه لهم مما تستطيع أن تقدمه لهم، مما يمكن أن تساعدهم به، الإحسان من أهم الأعمال الصالحة والقُرب العظيمة إلى ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولذلك يقول ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في القرآن الكريم: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، المحسنون لهم مرتبة عظيمة، ومنزلة رفيعة عند ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالله أمر بالإحسان، وهو يحب المحسنين، {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة : من الآية 93]، فالله يحب المحسنين، ومعنى أنه يحبهم أن ذلك يدل على منزلتهم عنده، أن عمل الإحسان من أعظم الأعمال التي تقرب الإنسان من ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما إنها أيضًا تدل على زكاء نفس الإنسان، على تخلصه من مشاعر الأنانية، وعلى اهتمامه بالآخرين، حمله لإرادة الخير تجاه الآخرين، هكذا نظرته بالعاطفة الإنسانية، بالاهتمام النفسي، بالدافع الإيماني، للاهتمام بأمر الآخرين، فالإنسان كما يحب أن يحسن إليه ويلحظ ذلك هو في شعوره، ووجدانه، كيف هي مشاعرك نحو من يحسن إليك، ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها))، كما ورد في الحديث النبوي، ((وبغض من أساء إليها))، كيف هي مشاعرك التي تلحظُها، مختلفة تمامًا بين المحُسن إليك، والمسيء إليك، كيف هي رغبتك في أن يتعامل معك الآخرون بالإحسان، بالطريقة الحسنة، أن يلحظوا ظروفك، واقعك، أن يقدروا واقعك، أن يلحظوا الاهتمام بك، هذه المشاعر التي تتمناها وترغب بها من الآخرين نحوك، وما ينتج عنها من تعامل مميز، وتعامل راقً، مطبوع بطابع الإحسان، الحظه أنت تجاه الآخرين.
((وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ))، القبيح من الأعمال، والتصرفات، والكلام، هو ما يدخل في دائرة المحظور والمنهي عنه، ما نهانا ﷲ عنه، كل الأعمال القبيحة، والكلام القبيح، والتصرفات القبيحة، قد نهانا ﷲ عنها، وبدافع التقوى والالتزام الإيماني، يفترض أن يحذرها الإنسان، وأن يبتعد عنها، وأن يُقلع منها، وإذا لاحظ في سلوكه شيئًا من قبيح العمل، أو قبيح التصرف، أو قبيح الكلام، فليحاول أن يهذب نفسه، وأن يصلح نفسه، وأن يبتعد من ذلك، والناس في نظرتهم فيما بينهم وتقييمهم فيما بينهم، لمن يعمل الأعمال القبيحة، أو الأعمال الحسن، يحملون المشاعر الإيجابية تجاه من يعمل الأعمال الحسنة، ويحملون المشاعر السلبية، والانتقاد، والاستياء تجاه من يعمل الأعمال القبيحة، بفطرتهم، والإنسان قد يستنكر على الآخرين، ما يلحظهُ من قبيح أعمالهم، أو تصرفاتهم، أو كلامهم، ولكن الخطأ هو عندما لا يلتفت الإنسان أصلاً إلى واقعه، وهو ذلك الذي قد يوجه أشد الانتقادات للبعض من الناس، لأنهم يفعلون، ويقولون، ويتصرفون، أو لشخص ما يهاجمه، ينتقد عليه، يتكلم فيه، وقد يكون في الإنسان نفسه ما هو أقبح من ذلك الشخص، أو مثله، ثم لا يلتفت هو إلى واقعه، لا ينتبه إلى قبيح فعله، أو قبيح كلامه، أو قبيح تصرفاته، فهو ذلك الذي تتوجه ردود أفعاله تجاه الآخرين وانتقاداته لهم، ولا يستقبح من نفسه ما هو أفظع مما هو فيهم، فهذا بُعدًا عن الإنصاف وبُعدًا عن الوعي، وتجاهل، أو معايير مزدوجة، الإنسان لم ينطلق من منطلق صحيح، حتى في انتقاده لما الآخرين عليه، إذا كان لنفس ما يفعلونهُ من القبيح، فلماذا لا ينتقده من نفسه، فلذلك يقول له: ((وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ))، وهذا مهم جدًّا للالتفات الإنسان إلى واقعه، ليصحح هو في واقعه أخطاءه، وأيضًا ليتفادى مسبقًا الكثير من الأخطاء، حتى لا يقع فيها، هو يدرك أن ذلك التصرف إذا حصل، أو عندما حصل من الآخرين استقبحه، واستنكره عليهم، وشعر في نفسه بسوء ذلك، كيف نزلوا في مستواهم من عينه ونفسه، كيف رأى في ذلك التصرف أنه مشين، وأنه لا يليق، إلى غير ذلك، عندما يلحظ ذلك ينتبه هو في واقعه، يتفادى الكثير من الأخطاء مسبقًا، أو إذا كانت موجودة يسعى للخلاص منها، فيكون هو الذي ينتبه أيضًا، ينتبه إلى نفسه، إلى واقعه، إلى أخطائه، إلى تصرفاته، يقيَّم نفسه، لا ينشغل فقط بتقييم الآخرين، وإطلاق الأحكام عليهم، أو لا يُسوغ لنفسه في التعامل معهم، وفي التصرف بشكلٍ عام ما يستقبحه منهم، وكأنه هو لا حساب عليه، ولا جزاء، وليس مسؤولًا عن شيء، وكأنه صاحب حصانة، يتصرف كيفما يشاء ويريد، دون مراعاة لا لقيم، ولا لأخلاق، ولا لضوابط، ولا لجزاء، ولا لحساب، ولا غير ذلك، الإنسان معني بأن يكون هو مهتمًا بالتزامه وانتباهه، وإذا تنبه الإنسان وفق هذه القاعدة، فسيتفادى الكثير من قبائح التصرفات، وقبيح الأعمال، وقبيح الكلام.
((وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ))، ارض من الناس في تعاملهم معك، بما ترضاه لهم من نفسك، أنت مقتنع بتعامل معين، بمستوى معين من الاهتمام، بمستوى معين من التعامل، فكن أيضًا راضيًا تجاه نفسك بذلك؛ لأن البعض من الناس قد يكون فيما يفترضه من الآخرين نحوه يفترض منهم أن يهتموا به اهتمامًا كبيرًا، أن يعملوا له الأشياء الكثيرة، أن يلبوا رغباته، أن قائمة طويلة، مما يفترضه عليهم، ولا يرضى لهم من التعامل معه، حتى في حدود ما ينبغي، بحسب الشرع، بحسب الضوابط والتعليمات، هو يريد منهم أكثر من ذلك بكثير، لكن كيف هو تجاههم، في تعامله معهم، في اهتمامه بأمرهم، في أسلوبه معهم، هو يفترض منهم أن يحترموه بأشد الاحترام، أن يوجهوا له أبلغ عبارات التعظيم والثناء، ولكنه لا يفترض على نفسه أن يعاملهم بنفس الطريقة، أن يعاملهم بذلك المستوى من الاحترام والتقدير، هو يريد أن يكون ذلك من طرف واحد فقط، من جانبهم هم، أن يحترموه جدًّا، أن يعظموه جدًّا، أن يتعاملوا معه باهتمام كبير جدًّا، أن يلبوا له رغباته، إلى غير ذلك، أن يراعوه في طريقة حديثهم معه كلامهم معه، أن يراعوا مشاعره في كل شيء، لكنه على العكس من ذلك، لا يراعيهم في شيء، لا يتعامل معهم بنفس الطريقة، فهو بعيد عن الإنصاف، وهذه التعليمات من أولها هي قائمة على الإنصاف، ((اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ ))، لتكون منصفًا في التعامل مع الآخرين.
((وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ))، سبق الحديث عن أهمية الكلام وما يقوله الإنسان، والمسؤولية الكبيرة علينا فيما نقول، ما يقوله الإنسان مكتوب، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وعليه مسؤولية كبيرة، وكما قلنا من أكثر الاستخدام في واقع الإنسان في جوارحه: هو الاستخدام للسان، للنطق بالكلام، جزء كبير من أعمال الإنسان المحسوبة: هي كلامه، ما يقوله، والبعض من الناس أيضًا كثير الكلام جدًا، وقد تجره الرغبة في الكلام أن يتكلم في الأشياء التي لا يعلم عنها، لا يعلم عن حقيقتها، لا يعلم عن أساسها، مثلاً قد يتناول مواضيع ليس له أي خلفيه علمية عنها، البعض من الناس قد يصل به الحال إلى أن يتكلم في أمور الدين بما لا علم له به، ويطلق الأحكام هذا حلال، هذا حرام، هذا حق، هذا باطل، هذا واجب، هذا لا يجوز، هذا، وهكذا، أو يطلق التصنيفات بناءً على ذلك، ولكن من واقع الجهل، وليس من واقع العلم والمعرفة الصحيحة، في الدعايات، في الكلام عما يجري في واقع الناس، البعض قد يتكلم بدون علم، ليس متأكدًا من صحة ما يقول، مجازفة، ويتكلم بدون تأكد، ولا تثبت، وهي حالة خطيرة على الإنسان، وقلنا فيما سبق أن من بلايا هذا العصر مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يتحول الكثير من الناس من خلالها، إلى عمل إعلامي وهم ليسوا حتى أصحاب معرفة إعلامية، ولا اختصاص، إنما قد يجازف فيما يقول، فيما يعلق، فيما يكتب، فيما يتبنى من توجهات أو مواقف، وهي حالة خطيرة على الإنسان، ولذلك يجب أن يكون الإنسان معتمدًا، على ما يعرف فيما يقول، وغير مجازف، حتى لا يكون متقولاً، مُفترِيًا، يتقول على الآخرين، أو يتقول على ﷲ، أو يطلق الأحكام الخاطئة، أو يسيء إلى نفسه عندما يجازف بالكلام، فيقول كلامًا إما سخيفًا، إما كلاما سيئًا، إما كلامًا لا أصل له، لا حقيقة له، يكون مسيئًا إلى نفسه بذلك، ولهذا يقول ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في القرآن الكريم في آية مهمة جدًّا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، لا تتبع، ولا تتبنى، ولا تدعي، ما ليس لك به علم، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء : 36]، فيقتصر الإنسان فيما يقوله بحسب ما يعلم، وإن قل ما تعلم، لأنك لست بحاجة إلى الكلام الكثير، فتخرج عن نطاق ما تعلم إلى القول فيما لا تعلم، وليس لك به معرفة أصلًا، أنت مجرد مجازف بذلك، وهذا أيضًا مهم حتى في التعامل مع الناس، وكثير من الإشكالات التي تحصل في واقع الناس: هي تعود إلى المجازفة بالكلام، هذا يقول على هذا، ما لا يعلم صحته ولا أساسه، وهذا يقول في هذا الموضوع ما ليس بصحيح، وهكذا، حتى يكون لذلك تأثير سلبي على علاقات الناس، على تعاونهم، على تفاهمهم… إلخ.
((وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ))، لتخاطبك مع الآخرين، في كلامك معهم، فيما تقوله لهم، لا تقل لهم ما لا تحب أن يقولوه هم لك، من أبناء مجتمعك، من أبناء أمتك، من أبناء دينك، ممن تجمعك بهم هذه الروابط، وهذه المسؤوليات، الأخلاقية والدينية، عندما تتخاطب معهم بالكلام المسيء، وأنت في نفس الوقت لا ترغب أبدًا بأن يخاطبوك بكلام مسيء، أو بكلام مستفز، أو بقلة احترام، أو بطريقة غير لائقة، فأنت خذ هذا بعين الإعتبار، فكر في مشاعر الآخرين، هذه مسألة مهمة جدًّا، الإنسان إذا أدرك واقع الآخرين ومشاعرهم، حسب حسابهم بالمقارنة مع نفسه، مع مشاعره، هذا أيضًا سيفيده ولأن الإنسان إذا لم يلتزم بذلك، وأصبح لا يبالي بالآخرين، يقول ما لا يحب أن يقولوه له، فأيضًا ستكون ردود الفعل في نهاية المطاف، بنفس المستوى، أو بأسوأ منه، يعني قد تلقى من يقول لك أقسى وأسوأ مما تقوله له، إذا كنت لا تبالي بما تقوله للأخرين، ويكون لذلك آثار سيئة في علاقة الناس، في تعاونهم، بل أحيانًا ينتج عن ذلك مشاكل لا حاجة إليها، إنما هي مشاكل عبثية؛ ناتجة عن سوء التصرف، عن سوء الكلام، عن اللامبالاة فيما يقوله الإنسان، فيكون لذلك آثار سيئة في تعاون المجتمع، في تأخيه، في تفاهمه.
هذه ضوابط مهمة جدًّا ومفيدة، ((وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ))، يمكنك أن يكون لديك هذا المعيار فيما تقوله للأخرين، وأن تنتبه أولًا لما تقول، هل تحب أن يقال لك بنفس ذلك الكلام، بنفس ذلك الخطاب، بنفس ذلك التعبير، بنفس ذلك الأسلوب، وهكذا.
((وَاعْلَمْ، أَنَّ الْإعجاب ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الألْبَابِ))، مما يؤثر على الإنسان في علاقته بالله، وفي علاقته بالناس، وفي واقعه العملي هو: إعجابه بنفسه، الإعجاب بالنفس: يجعل الإنسان ينظر إلى نفسه نظرةً غير واقعية، لا يدرك جوانب النقص فيه، جوانب الخطأ لديه، يعتبر نفسه في مستوى كبير، أكبر مما هو في الواقع، يستحسن من نفسه كل شيء، ولا يدرك أخطاءه، ولا يسعى لإستكمال جوانب النقص فيه، فهو مغرور بنفسه، ومختال بنفسه، معجب بها، هذه حالة خطيرة جدًّا، هذا يؤثر على الإنسان في علاقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، قد يصل إلى درجة أن يكون لا يستشعر تقصيره أبدًا تجاه الله، فيكون مُدِلًا على الله، متمننًا على ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يرى نفسه أنه في علاقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد وصل إلى المرتبة المطلوبة، وليس عنده أي تقصير على الإطلاق، وهذه حالة خطيرة جدًّا، فالأنبياء على عِظم مستواهم الإيماني، ومبلغ دينهم، وأعمالهم الصالحة، ومكانتهم العالية عند ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ كانوا يستشعرون التقصير، مهما عملوا، مهما انجزوا، مهما بلغوه من مستوى في إيمانهم، وعلاقتهم بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كانوا لا يزالون يطلبون من ﷲ المغفرة، بل إن ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول لخاتم أنبيائه، وسيد رسله، وخيرة خلقه، رسوله محمد “صَلَوَاتُ ﷲ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد : من الآية 19]، هذه الروحية الإيمانية التي تجعل الإنسان واقعيًا، يدرك أنه مهما عمل فذلك شيءٌ بسيط في المقابل حق ﷲ عليه، ويدرك أنه مهما بذل من جهد لا يزال عنده في واقع الحال تقصيرٌ ونقص، ومن دون إحباط، بل هو ذلك الذي يتطلع إلى رضوان الله، يرجو رحمة ربه، ينشدُّ إلى ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويُسرُّ بحسنته، إذا منَّ ﷲ عليه بتوفيقٍ معين، أو إنجاز عملٍ صالح؛ يُسرّ بذلك، ويعتبر الفضل لله عليه في ذلك، ولا ينظر وكأنه هو شخصيًا من دون توفيق الله، من دون معونة الله، أحرز ذلك الإنجاز؛ لأنه، وأنه، وهكذا، يسبح بحمد نفسه، ويقدس نفسه، ويعظم نفسه، ويكبر نفسه… إلخ.
فالإعجاب حالة خطيرة جدًّا، تؤثر على الإنسان في علاقته بالله، وتجعله جحودًا، بنعمة ﷲ عليه، وغافلًا عن جوانب النقص لديه، وفي علاقة الإنسان بالناس؛ الإعجاب خطيرٌ جدًّا، يجعلك دائمًا ترى نفسك أنت الذي يجب أن يحترمه الناس، وأن يقدسه الناس، وأن يهتم به الناس، وأن يلبي الناس له رغباته، وأن ينظر إليه نظرة التعظيم والتبجيل، وأن يتعاملوا معه على هذا الأساس، ويرى لنفسه قائمة طويلة عريضة من الحقوق عليهم، ثم لا يعتبر نفسه متحملًا أي شيءٍ تجاههم، لا يحمل نفس هذه النظرة فيما عليه تجاه الناس، هو يرى نفسه متميزًا عنهم، ويرى نفسه أعلى مستوى منهم، ويبني على هذه النظرة، نظرة استحقاقات معينة، يبني على هذه النظرة استحقاقات معينة، تجاه ما ينبغي أن يفعلوه نحوه، ولا يرى عليه في المقابل نفس ما يرى لنفسه عليهم، فهي حالة خطيرة جدًّا، ولذلك المعجب بنفسه حتى لو بادر إلى فعل شيء مع الآخرين، فهو لا يقدمه بروحية الإحسان، والتواضع، والروحية الإيمانية والأخلاقية، من أجل ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولا حتى بالدافع الإنساني، بل من واقع التباهي، والتعاظم، وهكذا، في ضمن الحالة التي يعيشها كحالة إعجاب بالنفس، ويتعاظم نفسه أكثر وأكثر مع ذلك، فهي حالة خطيرة جدًّا، المعجب بنفسه هو: أنانيٌ، يرى لنفسه كل شيء، ولا يرى على نفسه تجاه الآخرين ما يرى لنفسه، وهي حالة خطيرة جدًّا، ولذلك يقول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَاعْلَمْ، أَنَّ الْإعجاب ضِدُّ الصَّوَابِ))، حالة مناقضة للصواب، حالة خطيرة وسلبية، وغير صحيحة، وغير واقعية، المعجب بنفسه لم يعد إنسانًا واقعيًا حتى في نظرته إلى نفسه، ولا في نظرته إلى الناس، ولا في نظرته إلى الواقع العملي؛ هو ذلك الذي يعظم جدًّا ما يقدمه، ولا يلقي اعتبارًا لما يعمله الأخرون، ولا لما يقدمونه، وقد يكونون هم أكثر إنجازًا منه، أكثر إيجابيةً منه، لكنه لا ينتبه إلا إلى نفسه فقط، ويعظم ما هو من جانبه، ثم هو لا يدرك أخطاءه، ولا جوانب النقص لديه، فهو ضد الصواب، الإعجاب ضد الصواب، حالة مناقضة، ومباينة للصواب، الإنسان يصبح خاطئًا، عنده تفكير خاطئ، تقييم خاطئ، نظرة غير واقعية، ولا صحيحة.
((وَآفَةُ الَألْبَابِ))، يؤثر حتى على تفكير الإنسان، الإنسان المعجب بنفسه ينتج عن إعجابه: أفكارٌ غير صحيحة، ويبني عليها توجهات، وأعمال، ومواقف، فالإعجاب خطير، ليس فقط على المستوى النفسي، بل على مستوى التفكير، وطبيعة التفكير، وطريقة التفكير، وما يبنى على ذلك في الواقع العملي، خطير جدًّا، يُنتج عند الإنسان رؤية غير صحيحة، رؤية معوّجة، غير واقعيه، غير صحيحة، غير دقيقة، وآفة الألباب، آفة، آفة على تفكير الإنسان، وعلى نظرته، على رؤيته، على تقييمه للأمور. ((فَأسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلَا تَكُنْ خَازِنًا لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ))، لا تكن معجبًا بالنفس، ولكن كن إنسانًا عمليًا، يحمل الروح العملية، والعجب يؤثر حتى على الروح العملية، لا يتجه الإنسان عمليًا على أساس صحيح عندما ينطلق من منطلق العجب بالنفس، ولربما يترك الكثير من الأعمال ذات الأهمية الكبيرة، لأنه لا يرى فيها ما ينسجم مع إعجابه بنفسه، مع ما يتناسب مع تلك الحالة النفسية التي تُقيّم الأعمال بمنظورٍ آخر، منظور ما يرى فيها الناس بشكلٍ عام إنها أعمال كبيرة أو ذات سمعة، فتصبح نظرته للجانب العملي نظرة خاطئة، ورهانه على القليل مما يعمل، يستعظمه جدًّا، فلا يبقى نشطًا جدًّا في الواقع العملي؛ لأنه عندما قال: ((فَأسْعَ فِي كَدْحِكَ))، تحرك عمليًا بجد واهتمام كبير، أكدح، أكدح في الواقع العملي، أعمل بكل جد، بكل اهتمام، لا تكبل نفسك بقيود العجب والغرور، التي تجعلك تستعظم القليل من عملك فتراه وكأنك قد أنجزت أعظم ما في الدنيا من أعمال، وتبتعد عن الجد في الواقع العملي، الإنسان إذا كان متخلصًا من العجب بالنفس، سيكون مهيئًا نفسيًا للانطلاقة العملية، الجادة، والتحرك في الأعمال المهمة، ذات المنزلة العظيمة عند ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وذات الأثر الكبير في الواقع.
((وَلَا تَكُنْ خَازِنًا لِغَيْرِكَ))، أنت على المستوى العملي، أحرص على أن تكون عمليًا وجادًا، وعلى مستوى العطاء والإنفاق، أحرص على أن تكون منفقًا، سخيًا، كريمًا، تدرك أن ما تقدمه أنت من ذلك، أنت تقدمه لنفسك، وأن ما تخزنه من ذلك، أنت تخزنه لغيرك، إذا كنت فقط حريصًا فيما تجمع، أو فيما تحصل عليه، أن تخزنه فقط، وأن تجمعه فقط، ليس عندك روحية العطاء، ولا التقدِمة، ولا الإحسان، ولا البذل، ولا المعروف، ولا الاستشعار لمسؤولياتك المتعلقة بالإنفاق، فأنت حينئذٍ تخزن لغيرك، لا تستفيد أنت، ومن أعظم ما تستفيده مما تحصل عليه من إمكانات مادية: عندما تقدم في سبيل ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في سبل الخير والبر، والإحسان، والمعروف، التي أرشد ﷲ إليها، فأنت حينئذٍ تقدم لنفسك الشيء العظيم، وتستفيد أنت، سواءً فيما لذلك من نتائج في الدنيا، أو ما هو أهم من ذلك من آثار ونتائج فيما يكتبه ﷲ لك من جزاءٍ عظيم في الآخرة.
((وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ))، إذا وفقك ﷲ لإنجاز أعمال مهمة، أو تحقيق أهداف مهمة وعظيمة، فكن متفهمًا وواعيًا بأن هذا كان بتوفيق ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه لولا توفيقه لما نجحت أبدًا، لما تحقق لك ذلك الإنجاز أصلًا، لما وصلت إلى ما وصلت اليه أبدًا، لو كانت المسألة أن أوكلك ﷲ إلى نفسك، إذا أنت ترى في نفسك أنك عبقري، وأنك، وأنك عندك نظرة غرور تجاه نفسك، فلو أوكلك ﷲ إلى عبقريتك، وذكائك، وما تتصوره تجاه نفسك، لما تحقق لك ذلك الإنجاز أصلًا، إنما كان ما تحقق لك بهداية من الله، بتوفيق من الله، بتيسير من الله، بمعونة من ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولذلك عليك أن تعرف الفضل لمن؛ لله عليك، أن تعرف المنة، المنة لله على نفسك، فتتجه لمشاعرك نحو التعظيم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتسبيح بحمده، لا أن تستغرق ذهنك بالتسبيح بحمد نفسك، والتعظيم لنفسك، أنا أصبحت عبقريًا، أنا حققت هذا الإنجاز، أنا وأنا وأنا.. وهكذا، تقدم لنفسك قائمة طويلة عريضة من التصورات الخيالية، التي تعزز حالة العجب والغرور في نفسك، أنت عليك أن تكون واقعيًا، أن تدرك أن ما تحقق لك كان بهداية من الله، بمعونة من الله، بفضل من الله، فلذلك كن أخشع ما تكون لربك، بدلًا من أن تحمل حالة الغرور: لأن حالة الغرور حالة تبعدك عن الخشوع لله، عن استشعار المنة لله، حالة الغرور والعجب هي: حالة تبعدك عن تقدير النعمة من ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عليك، تقدير نعمة ﷲ عليك، فعندما تعيش الحالة الصحيحة التي تدرك فيها بكل قناعة، بكل وعي، أن المنة لله عليك، اتجهت نفسك في مشاعرك الإيمانية بالخشوع والخضوع لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ)).
((وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقًا ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الْارْتِيَادِ ، وَقَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ، مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَدًا حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ، وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ))، يجب أن تحسب حساب مستقبلك الذي أنت قادم عليه، الذي أمامك، ((وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقًا ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ))، مستقبلك الأبدي لا يغب عن ذلك الاهتمام به، التفكير نحوه، هي قضية مهمة جدًّا؛ لان الغفلة عن ذلك هي ما يصرف كل اهتمام الإنسان نحو انشغالاته وهمومه المعيشية، والاقتصار على ذلك فحسب، لا بأس أن يكون لديك اهتمام بشؤون حياتك وأمورك المعيشية، لكن لا يتوجه كل اهتمامك نحو هذا؛ لأن مستقبلك الأبدي له أهميته في واقعك المعيشي نفسه، إذا كان ما يصرفك نحو اهتماماتك في هذه الحياة، الاهتمامات المعيشية وأمور الحياة، ومتطلباتها، فتلك هي حياتك أيضًا، وهي حياة ذات أهمية كبيرة جدًّا: لأنها حياة للأبد، والخير فيها خالص وعظيم جدًّا، والشر فيها خالص ورهيب جدًّا، فهو أمرٌ يجب أن تلتفت إليه، وأن تفكر به، وأن تدرك ماذا تعمل من أجله، ما الذي تقدمه من أجله، أنت بحاجة إلى أن تتزود بزاد التقوى، أن تقدم الأعمال الصالحة، هي التي ستفيدك هناك، هي التي ستكون بها نجاتك ،فلاحُك، فوزك، وإذا كنت مفلسًا من الأعمال الصالحة التي تقربك إلى ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الإنفاق والعطاء في سبل الخير التي أرشد ﷲ إليها، فإفلاسك خطيرٌ عليك من ذلك، ((وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقًا ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ))، أنت مسافر ومنتقل حتمًا إلى ذلك المستقبل الذي ينتظرك الذي هو أمامك.
((وَأَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الْارْتِيَادِ))، أنت بحاجة إلى أن تقدم لنفسك هناك ما تحتاج إليه، ما فيه فلاحُك، نجاتك، فوزك، ((وَقَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ))، والزاد الذي نتزوده: هو التقوى، الأعمال الصالحة، الأعمال التي بها رضوان ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ))، خفة الظهر من الأعمال السيئة، من ثقل الأعمال السيئة، الأوزار والذنوب، أنت بحاجة إلى أن تكون خفيف الظهر من ذلك، بتجنبك للمعاصي، وبتوبتك الدائمة إلى ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتخلصك مما تزلُ فيه من زلل.
((فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ))، لا تحمل نفسك بالأوزار، والذنوب، وأنت ذلك المتهاون، الغافل، المفرط، المستهتر الذي لا ينتبه لخطورة المعاصي والذنوب، فتحمل نفسك، أنت تحمل نفسك بذلك الوزر، الثقل، الكبير الذي يسبب بشقائك لشقائك وهلاكك، فيكون ثقل ذلك وبالًا عليك، لأنك أنت الخاسر، عاقبة ذلك السيئة هي عاقبةٌ عليك، أين هي عاقبة الأعمال السيئة، أحمال الذنوب، والأوزار، جهنم والعياذ بالله، ليس هناك يوم القيامة من يمكن أن يحمل عنك من ذنوبك، وآثامك، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الزمر: من الآية 7].
((وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ))، من أهل البؤس والفقر، ((مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَدًا حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ))، عندما تحسن إلى الفقراء، وعندما تساعد الجائعين البائسين والمحتاجين، والمكروبين، فما أعطيته لهم، أنت تقدمه لنفسك يوم القيامة، وكأنهم حُمِلوا أو حملوا لك هذا الذي قدمته إلى هناك، كأنك حملتهم إياه، لا يعتبر شيئًا خسرته، أو أنتهى، يوم أعطيتهم ما أعطيت بنية خالصة من أجل ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ابتغاء مرضاته، وفق الطريقة التي وجه ﷲ بها من الحلال بغير منًّ ولا أذى، أنت تقدم لنفسك ذلك الذي قدمته لهم، وأنت ستحصل عليه أجرًا مضاعفًا عظيمًا في اليوم المهم، الذي أنت أحوج ما تكون إلى الأجر، إلى العمل الصالح، إلى القربة إلى ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإحسان إلى الفقراء، والبائسين، والمكروبين، من أعظم الأعمال الصالحة أجرًا، ومن أكثرها أثرًا إيجابيًا في النفس، والمشاعر، والوجدان، والتزكية للنفس، وهذا ملموس في واقع الناس، بعض الحالات بعض حالات الإحسان والعطاء يجد الإنسان أثرها فورًا، في نفسه، في واقعه، فما بالك بالمستقبل الكبير عند ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ))، لا تبخل، فما قدمت أنت تقدمه لنفسك أنت، وستحصل عليه في يوم حاجتك، في أهم يوم تحتاج فيه إلى العمل، إلى الأجر، إلى الأجر على الأعمال، ((فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ))، قد تتغير بك الظروف، أما في يوم القيامة فلا مجال أصلًا لأن تعمل أعمالًا صالحة لتحصل عليها، لتحصل من خلالها على الأجر، والفضل عند الله.
((وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ))، هذه الحالة هي حالة الإنفاق، عند ما تقدم ما تقدمه في هذه الحياة، أنت ستحصل على ذلك الذي قدمته أجرًا مضاعفًا يترتب عليه الخير الكبير عند ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: من الآية 20]، ليجعل قضاءه لك في عُسرتك، في اليوم الذي لا يمكنك أن تحصل فيه ولا على حسنة واحده، هل يمكن يوم القيامة أن يحصل الإنسان على حسنة واحده!، على مثقال ذرة من الأجر في ذلك اليوم، لم يعد هناك أي مجال للعمل أبدًا.
((وَاعْلَمْ، أَنَّ أمَامَكَ عَقَبَةً كَؤودًا، الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِن الْمُثْقِلِ، وَالْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالًا مِنَ الْمُسْرِعِ، وَأَنَّ مَهْبِطَك بِهَا لَا مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ))، نحن في هذه الحياة في رحلة، وبعد الدنيا آخرة، ومستقرنا في الأخير في هذه الرحلة التي نرحل بها، حتمًا إما على جنةٍ، أو نار، يحدد هذا واقعك العملي، أعمالك، تصرفاتك، مدى استجابتك لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالمسألة ذات أهمية كبيرة، ((عَقَبَةً كَؤودًا))، التي هي صعبة المرتقى، يصعب على الإنسان أن يجتازها، وما أمامنا من محطة الحساب وما بعد ذلك من الجزاء، يجب أن نحسب حسابه، لو كان الإنسان مثقلًا بالذنوب والمعاصي، لم يتخلص منها بالتوبة والإنابة الدائمة إلى الله، ومفلسًا من الأعمال الصالحة، فحالهُ خطير جدًّا، مهبطهُ على نار، وكان الإنسان مخفًا من الأعمال السيئة، وأتجه بالأعمال الصالحة فمهبطهُ إلى الجنة، ومستقرة هناك، تصل به الرحل التي سار فيها في هذه الحياة وما بعدها من محطات إلى عالم الجنة، ولذلك يقول: ((فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَوَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ))، هي لنفسك هناك، وأنت في هذه الحياة؛ لأن مستقبلك هناك متوقف على ما تعمله هنا في هذه الدنيا، أنت بأعمالك وبعلاقتك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأخذك بأسباب رحمته، تهيئ لنفسك حسن المستقر، مستقبل السعادة الأبدية، والفوز العظيم، أو بابتعادك عن أسباب رحمة الله، واتجاهك إلى الأعمال التي تسخط بها الله، تسبب لنفسك أن يكون مستقبلك- والعياذ بالله- العذاب الأبدي، والشقاء الدائم – والعياذ بالله-، أحسب حساب ذلك المستقبل، ولذلك يقول: ((فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ))، لا مجال لأن ترجع من جديد لتأخذ بأسباب رضوان الله، وتغير الأعمال السيئة، وتصلح ما أفسدت، لا مجال بعد الموت لذلك، وأنت لا تدري أصلًا متى يأتيك الموت، ولا تعرف متى هي نهاية أجلك في هذه الحياة.
((وَلَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ))، ليس هناك مجال لتعود إلى الدنيا من جديد وتعمل الأعمال الصالحة من جديد، بالرغم من أن الخاسرين، الهالكين، المستهترين، الذين لم يدركوا أهمية هذه الأمور في هذه الحياة، يوم القيامة يندمون، يتحسرون، يبكون، يطالبون بشدة أن يعطوا فرصة إضافية، وهم في ساحة المحشر، والقائل منهم: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 24]، وهم في ساحة المحشر يطلبون العودة إلى الدنيا، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْـمُحْسِنِينَ}[الزمر: من الآية 58]، يطلب الرجوع إلى هذه الدنيا، حتى وهم في نار جهنم يطلبون أن يخرجوا من النار، وأن تضاف لهم فرصة أخرى للعمل الصالح، ولكن لا مجال لذلك أبدًا، فرصتك الوحيدة هي في حياتك هذه، لتعمل ما تُحرز به مستقبلك الأبدي، وتأخذ بأسباب رحمة ﷲ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فأدرك أهمية هذه الفرصة وأنتبه لها.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛