المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 5 رمضان 1439هـ
أهمية الإيمان بالجزاء
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
حديثنا مستمرٌ عن أهمية الإيمان بالجزاء على الأعمال، وعن موقع الإنسان في مسؤوليته الكبرى أمام الله -سبحانه وتعالى-.
مما لا شك فيه أن الله -سبحانه وتعالى- حينما أتى بنا إلى هذه الحياة، وخلقنا في هذا الوجود، هو -سبحانه وتعالى- خلقنا لمسؤولية وبالحكمة وبالحق، لم يأتِ بنا إلى هذه الحياة عبثًا لنعيش فيها حياةً أشبه ما تكون باللعب، حياةً تنحصر كل ما فيها من الاهتمامات والأعمال والانشغالات على جوانب محدودة: نأكل، نشرب، نعيش بشكلٍ معين، ثم تنتهي هذه الحياة وقد امتلأت بالمظالم، وامتلأت بالمفاسد، وحدثت فيها أمور كثيرة جدًّا وانتهى الأمر. |لا|.
الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلق الموت والحياة، كما قال في القرآن الكريم: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: من الآية2]، مجيئنا في هذه الحياة، وخلقنا في هذا الوجود هو لهدف كبير وسامٍ وحكيمٍ وعظيم، هو: المسؤولية، وبالتالي ونحن في هذه الحياة، نحن في حالة اختبار وفي موقع مسؤولية، يرقبنا الله -سبحانه وتعالى- ويحصي علينا كل ما نعمل، وهو قد حدد لنا ما ينبغي علينا أن نعمله، وما ينبغي لنا أن نتركه، وحدد هذه المسؤوليات في هذه الحياة.
نحن في هذه الحياة منذ أن خُلِقَ الإنسان، ومنذ أن وجدت البشرية بشكلٍ عام، ولوجودها بداية، وله أيضًا نهاية في هذه الدنيا وعلى كوكب الأرض، منذ اليوم الذي خلق الله فيه أبانا آدم -عليه السلام- هناك مدة محددة للوجود البشري على هذه الأرض، ويستمر بشكلٍ متناسل وعبر الأجيال إلى مرحلة معينة ثم ينتهي.
ما قبل مجيء الإنسان زمنٌ طويل منذ خلق الله السماوات والأرض، ثم خلق هذا الإنسان في مرحلة متأخرة قياسًا إلى ما سبقه من الزمن، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: الآية1]، زمن طويل (حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) والإنسان هذا لم يكن شيئًا مذكورا، ثم أتى ومنذ مجيئه هناك بداية وهناك نهاية، ثم على مستوى الأجيال والأمم: لكل أمة ولكل جيل نهاية معينة، ولهذا يقول الله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: من الآية49]، وفي آيةٍ أخرى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
ثم على المستوى الشخصي: كل إنسانٍ يولد يحدد- مع تكوينه وخلقه، ثم مع ولادته- أجله، أجلٌ معين يعيش فيه في هذه الحياة ويبقى به في هذا الوجود، وعلى مرِّ التاريخ أجيال كثيرة جدًّا رحلت من البشرية، أممٌ بأكملها انقرضت وانقضت وانتهت، وعلى مرِّ التاريخ أيضًا يرحل من هذه الحياة ومن هذا الوجود الجميع: الصالح والطالح، المؤمن والكافر والفاسق، حتى أنبياء الله -سبحانه وتعالى- الله قال في كتابه الكريم عن نبيه، خاتم النبيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: الآية144].
فالجميع، الكل راحلون من هذه الحياة، ولكن بعد أن يعيشوا واقع المسؤولية، يعيشوا أجلهم في كل ما كُتب لهم في هذا الأجل: من رزق، من خير، من شر، ويتحمل الإنسان بأعماله وتصرفاته- منذ أن يبلغ مرحلة التكليف- يتحمل النتائج وما يكتب له وما يكتب عليه، والله ربنا الرحيم بنا كما قال في كتابه الكريم: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: من الآية286]، هو كلَّفنا فيما أمرنا به وفيما وجهنا إليه ما نُطيقه، وما نستطيعه، وما هو في وسعنا، لم يكلفنا ما لا يطاق، ولم يكلفنا ما هو خارجٌ عن وسعنا وطاقتنا وقدرتنا، نحن من نجني على أنفسنا، نحن من نصعِّب الأمور على أنفسنا، حتى في نطاق مسؤولياتنا في هذه الحياة.
الإنسان لو يتجه على أساس الاستجابة لله -سبحانه وتعالى– بشكلٍ منسجم، وبشكلٍ فعَّال، وبشكلٍ إيجابي؛ فإن في تشريعات الله وتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- ما ييسر الكثير حتى من المسؤوليات ذات الطابع الصعب في نظر الإنسان، أو في توقعات الإنسان، أو في طبيعة ظروف وحياة الإنسان، ولهذا عندما نلحظ كيف أن الله شرع لنا صيام شهر رمضان كوسيلة من الوسائل المعينة لنا، كعملية ترويضية وتربوية، شرع لنا الصلاة أيضًا على أساس أن تكون وسيلةً معينةً لنا، فقال: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: من الآية45]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: من الآية153]، وسائل كثيرة تساعد الإنسان على الالتزام والتقوى، وعلى تحمل المسؤولية، وعلى الطاعة، وعلى الاستقامة…إلخ.
كي نحصل على الاستقامة
تَيَّقُن الإنسان بأنه يلقى الجزاء على عمله، ويحاسب على ما يعمل، وجزءٌ من هذا الحساب والجزاء يأتي عاجلًا في هذه الحياة، والجزء الأكبر من هذا الجزاء والأبدي والكبير جدًّا ينتظر هذا الإنسان في مستقبله في الآخرة، يساعد الإنسان بشكلٍ كبير، ويجذِّر في مشاعر الإنسان ووجوده حالة الإحساس بالمسؤولية، وحالة اليقظة، وحالة الانتباه، ويخرجه من حالة الاستهتار والتهاون والغفلة واللامبالاة؛ فيعيش في أدائه للأعمال والمسؤوليات وهو مدرك طبيعة وجوده، مدرك طبيعة مسؤوليته، مدرك أهمية ما يعمل وأهمية تصرفاته، حتى يتعوَّد على حالة الاتزان، بل حتى يعشق قيم الخير، وتتعلق نفسه، ويرتبط في وجدانه ومشاعره وأحاسيسه بمسيرة الخير، بالمبادئ الحق، بالأعمال الصالحة، بالأخلاق الكريمة، بل تتعزز في نفسه من خلال الاستمرارية في ممارسة العمل الصالح وصون النفس عن المفاسد والسيئات، ومن خلال الارتباط بهدى الله -سبحانه وتعالى- ومن خلال الهداية الإلهية، المعونة الإلهية، التسديد والتوفيق الإلهي، يمقت الإنسان أعمال الشر، أعمال السوء، القبائح، المنكرات، الفظائع، الفضائح، ويصبح تلقائيًا- إلى حدٍ كبير- ذا منعة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: من الآية7]، يصل الإنسان في حالته الذهنية والنفسية والمعنوية، في ثقافته، في نظرته، في تفكيره، في مشاعره، إلى حالة الرشد، إلى مستوى الاتزان، إلى مستوى الاستقامة النفسية، إلى مستوى الانضباط النفسي، النفس البشرية هي قابلة للتحكم، قابلة لأن تُضبط غرائزها وأن توزن، وبالذات أن الله -سبحانه وتعالى- هو أعطى هذا الإنسان في مساحة الحلال، ومساحة الطيبات، ومساحة ما شرعه له، وأذن له به ما يكفي ويفي في أن يستوعب طاقات وغرائز ورغبات هذا الإنسان بالمستوى الصحيح والنافع والمفيد، حتى أن حالة الانفلات الغرائزي، وحالة الاستهتار، وحالة الانفلات وراء الرغبات النفسية والانجرار وراءها بدون انضباط، ولا التزام، ولا معايير، ولا حدود، ولا ضوابط، هو في الأساس يشكِّل خطورة على الإنسان ويضر بالإنسان.
لو نأتي لتصنيف الحلال والحرام، أحلَّ الله لنا الطيبات وحرَّم علينا الخبائث في كل شيء: أحلَّ لنا ما ننتفع به، وما نستفيد منه، وحرَّم علينا المضار التي تلحق بنا، الضرر نفسيًا ومعنويًا وجسديًا، الله ربنا الرحيم، الكريم، العظيم، مستوى المحرمات نسبة بسيطة محدودة في مقابل ما أحلَّه لنا وهو الكثير الكثير الكثير، والمفيد والنافع، الذي يحفظ لهذا الإنسان سلامته النفسية، وهذا جانب مهم للغاية، سلامته النفسية: في نفسيته، في مشاعره، في وجدانه؛ وسلامته العقلية: سلامة التفكير، سلامة الذهن، استقامة التفكير، استقامة الذهن، صحته الجسدية.
فينبغي لنا أن ننظر بإيجابية كبيرة إلى ما شرعه الله لنا، إلى ما حمَّلنا الله به من مسؤولية، إلى ما أمرنا به، إلى ما وجَّهنا إليه، أن ننظر بإيجابية كبيرة، في ذلك الخير كل الخير، في ذلك الصلاح لهذا الإنسان والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وننظر بواقعية، نظرة صحيحة، نظرة واعية إلى كل الجوانب الأخرى: المحرمات، المعاصي، الذنوب، طرق الشر، كل تلك الاتجاهات التي نهانا الله عنها، وحذرنا منها، ويسعى الشيطان لأن يوقعنا فيها بالخداع والتزيين، والتغرير والكذب، والإيهام الباطل والغرور، أن ندرك أنها سلبية جدًّا علينا، على حياتنا، على نفسياتنا، على ذهنيتنا، على واقع حياتنا بكله وبكل ما فيه.
ثم أن نستذكر على الدوام أن وجودنا- كلٌ منَّا– وجوده محدود، البشرية بكلها أتت لمرحلة معينة، ثم مصيرها الفناء من هذه الحياة، من هذه الأرض، الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: الآية26]، لا يبقى ولا واحد على هذه الأرض، كل الناس، كل المخلوقات على هذه الأرض مصيرها الفناء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، الله -سبحانه وتعالى- قال أيضًا في كتابه الكريم: {إِنَّا}– الله -سبحانه وتعالى- ذو الشأن والعظمة- {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: الآية40]، قال -سبحانه وتعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: الآية115].
آمالك ممدودة.. لكن أيامك محدودة!
ثم على المستوى الشخصي: كلٌ منَّا سيرحل من هذه الحياة، وكلٌ منَّا حياته محدودة، في نفس الوقت كلٌ منَّا لا يتيقن ولا يعرف على وجه اليقين متى سيرحل من هذه الحياة، متى ستنتهي حياته، ولا أين، ولا كيف، هل ستموت في مرحلة شبابك، أم إذا كنت قد تجاوزت مرحلة الشباب متى ستموت، وفي تجربة الحياة نرى من كل الفئات العمرية من يخسر حياته، من يخرج من هذه الحياة، نرى البعض يموتون وهم في مرحلة الطفولة، ونرى البعض يموتون وهم في بداية الشباب وفي مقتبل الشباب، نرى البعض يموتون في متوسط شبابهم، نرى البعض يرحلون من هذه الحياة وهم في سن الكهولة، نرى البعض وهم في سن الشيخوخة، الحالات نفسها التي يفارق الإنسان فيها هذه الحياة الدنيا، نرى الكثير من الناس منهم من يُقتل، منهم من تصيبه حادثة معينة، وفي كل يوم تجربة الحياة والموت قائمة في وجود البشر، في كل يوم هناك من يولدون، وفي كل يوم هناك قوافل كبيرة من البشر: من الرجال والنساء، من الكبار والصغار، من مختلف الأعمار، من يرحلون من هذه الحياة، فساحة الحياة تستقبل كل يومٍ مواليد جدد، وفي نفس الوقت المقابر في هذه الحياة كل يوم تستقبل ضيوفها، والحياة والموت هكذا متعاقبة مستمرة كحالة يومية في هذا الوجود البشري، وكل الذين يموتون ويرحلون من هذه الحياة أتى الموت، أو أتت ساعة الرحيل ولحظة الرحيل من هذه الحياة في غير الوقت المتوقع، أغلب الناس يأتي الموت في اللحظة التي هو لا يتوقعها، ولربما الكثير في آمالهم وأحلامهم، وتخطيطهم في هذه الحياة، وتركيزهم على مستقبل هذه الحياة، وآمالهم في هذه الحياة لا يخطر بباله أبدًا أن الموت سيحول بينه وبين تلك الآمال والرغبات وما خطط له وما أمَّله في هذه الحياة.
أضف إلى ذلك أن الكثير من الناس تأتي لحظة الرحيل من هذه الحياة بأي شكلٍ من الأشكال: موتًا، أو قتلًا، أو بأي حالة، هو- في نفس الوقت- يتفاجأ جدًّا، ينبهر؛ لأنه كان غافلًا بشكلٍ تام، كانت كل اهتماماته وكل تركيزه مُنصبٌ نحو اهتمامات حياتية مؤقتة عاجلة، لا يحسب مستقبله الأبدي، لا يحسب حساب الآخرة، لا يحسب حساب الجزاء على العمل؛ فكان متهاونًا، وكان غافلًا، وكان مستهترًا، والكثير الأغلب من أبناء البشر عندما يدرك أن اللحظة لحظة رحيل من هذه الحياة، وأنه مفارق لهذه الحياة، فجأة ينتبه؛ لأنه كان في غفلة إلى أنه كان مقصرًا، إلى أنه كان مهملًا، إلى أنه لم يستعد ولم يتجهز للرحيل، ولم يعد لهذا المستقبل الكبير والدائم والأبدي والعظيم.
استعد للرحيل فالرجوع مستحيل
ولهذا قرأنا في محاضرة سابقة قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: من الآية18]؛ لأن الكثير يتحسرون، يتندمون، يأسفون، ولكن في لحظة معينة ليس هناك أبدًا أي فرصة أخرى، هذه الحياة هي الفرصة، هذه الحياة التي أنت لا تدري إلى متى هي، لا تدري هل لا يزال لديك فيها أيام، أو سنوات، أو كم؟! أو حتى ساعات، هي الفرصة التي ليس وراءها فرصة أخرى أبدًا، فالإنسان يتحسر، تحسر الإنسان الذي غفل واستهتر ولم ينتبه ولم يستعد، أول حسراته الكبيرة جدًّا، والتي ستتحول حتى إلى حالة عذاب نفسي، عندما يدرك أن اللحظة تلك هي لحظة المفارقة لهذه الحياة والرحيل من هذه الحياة، ووثق القرآن الكريم هذه الحسرة: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، جاءه وهو غير مستعد، لا يزال مؤمل في استمرارية حياته، قد يكون البعض في برنامج حياتي معين، البعض مثلًا يأتيه الموت وهو في حالة استراحة، والبعض يأتيه الموت وهو في رحلة سفر، البعض يأتيه الموت وهو في عمل وشغل ينشغل به، البعض يأتيه الموت وهو في حالة فرح، البعض يأتيه الموت وهو في حالة حزن، البعض يأتيه الموت… في ظروف ليس متوقعًا أبدًا أنه سيأتي وهو في تلك اللحظات، {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون99-100]، يطلب الرجعة، يطلب من الله -سبحانه وتعالى- أن يعطيه فرصة أخرى، أن يدفع عنه الموت ويعطيه مهلة إضافية، لا يمكن أبدًا، لا يمكن، يحاول ويتمنى ويتضرع إلى الله، يتوجه بنفسه وقلبه ومشاعره، ولربما مشاعر الرجاء ومشاعر الخضوع التي يحملها في تلك اللحظة لم يسبق أن حملها طيلة حياته، يخشع ويخضع ويتوجه إلى الله، يرى المسألة مسألة خطيرة ومهمة، {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا: ينتبه أنه لا نجاة، لا فلاح، لا خير، لا فوز، لا سلامة من عذاب الله إلا بالعمل الصالح، العمل الصالح الذي كان بالنسبة له عملًا هامشيًا، وعملًا في كثيرٍ من الأمور غير محبذ ولا مرغوب، وليس له عنده قيمة ولا اهتمام، الكثير من الناس كثير من الأعمال ذات الأهمية الكبيرة جدًّا في نجاتك، في فوزك، في مستقبلك الأبدي، ما عنده أي تركيز عليها ولا لها أي قيمة في نفسه، منهمك، غارق في أعمال تافهة، أعمال سخيفة، يضيّع الكثير والكثير من وقته، والبعض في أعمال خطيرة، أعمال سيئة، أعمال معاصي متنوعة، يتحمل بها الوزر والإثم والذنب، ويسبب لنفسه بها سخط الله وغضب الله وعذاب الله.
يتمنى أن لو أمكن أن يعطيه الله فرصة إضافية لكي يخصصها للعمل، يعود فيها ليعمل العمل الصالح الذي يرضي الله في كل اتجاهات العمل الصالح {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، هل سيجاب إلى ذلك؟ {كَلَّا}، كَلَّا، زجر ورد، غير ممكن أبدًا، لا يمكن إضافة أي فرصة، ولا يومًا واحدًا للتخلص فيها من الذنوب والمعاصي، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} كلمة لا تفيده بشيء، ولا تنفعه بشيء، وليس لها أي نتيجة، {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ} حاجزٌ ومانعٌ عن العودة إلى هذه الحياة، لا يستطيع أن يعود إليها، لا يستطيع أن يعود مجددًا إلى هذه الدنيا ليعمل أي عملٍ إضافي، هذا الحاجز والمانع من العودة إلى هذا الوجود وإلى هذه الحياة إلى يوم يبعثون، إلى يوم البعث.
تنبه لمآلك قبل أهلك ومالك
يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9-11].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} لا يتحول انشغالكم بأموالكم إلى درجة اللهو عن ذكر الله، أصبحت كل اهتماماتكم، وكل انشغالكم الذهني، النفسي، العملي، يتجه نحو هذا المال، نحو العمل فيه، نحو تثميره، نحو الازدياد فيه…الخ. {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} كذلك اهتمامك بالأولاد، اهتمامك بشؤونهم، اهتمامك بأمورهم، اهتمامك بتوفير احتياجاتهم، وهكذا بمتطلباتهم، اهتمامك… بشكلٍ دائم أخذ عليك كل الاهتمام، كل الانشغال، كل التفكير، خلاص، تُدعى إلى ذكر الله، تُدعى إلى العمل الصالح، تُدعى إلى الإنفاق، تُدعى إلى… [|لا|، أنا اشتي أهتم بأسرتي فقط، لا أريد أنفق في أي مجال آخر، لا أريد أن أتصدق، لا أريد أن أعمل أي عملٍ آخر، لا أريد أن أساهم في أي شيءٍ آخر، لا أريد أن أتفرغ أو أفرِّغ جزءًا من وقتي للذكر، كل الاهتمام نحو أسرتي]. |لا|، {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، أنت إذا كان شاغلك في هذه الحياة- كل الشاغل- هو الأهل والمال، ما عندك أي اتجاه إلى شيء آخر، ما تعطي جزءًا من وقتك، من اهتمامك لمسؤولياتك في هذه الحياة.
البعض أكثر من ذلك، ليس فقط يلهيه، بل يورِّطه، البعض يجعل من الاهتمام بأسرته ومعيشته مبررًا للوقوع في الجريمة، للمعصية، للذنب، أو للوقوف في صف الباطل، البعض يلتحق بجبهات العدوان، يقل لك: [أنا عندي أسرة، أشتي قرش أصرف على أسرتي]، هناك الملايين من غيرك يقتاتون ويتسببون في أعمال أخرى، وليس في سفك دماء الناس بغير حق، وليس في الوقوف في صف الباطل، البعض يمارسون السرقة، أو النهب، أو الدعارة، تحت عنوان الحصول على المال، البعض يمارس الغِش، البعض يمارس الخيانة، البعض يمارس الربا، البعض يمارس النهب والسرقة بشكل منظم ومبرمج، البعض يمارس الاحتكار، البعض… جرائم كثيرة يرتكبها الكثير من الناس في أكثر من مسألة اللهو النفسي والذهني؛ من أجل الحصول على المزيد من المال، ومن أجل أن يعيش هو وأسرته في رفاهية كبيرة جدًّا، ومعيشة واسعة للغاية، وأن يلبِّي الرغبات والطلبات الكثيرة التي ليس لها نهاية، كارثة هذه، أمر خطير، أنت توبق نفسك، مهما جمعت من ثروة، ومهما أمَّنت لمستقبل أولادك من إمكانات وماديات، ستترك ذلك كله، سترحل، ستموت أو تقتل وتنتهي حياتك هذه، وتترك وراءك المال، وتترك وراءك الأهل، لكن يبقى عليك التبعات، الوزر، الإثم، الحساب، الجزاء، ثم لا ينفعونك بشيء، لا هم أولادك وأسرتك يفعلون لك شيئًا من بعدك، وأنت أثمت من أجلهم، حملت الوزر والمعصية والذنب تحت عنوان رفاهيتهم وراحتهم وسعادتهم، فعلت كل شيء، ووقعت في العقوبة الإلهية من أجلهم، لا ينفعونك بشيء.
يوم القيامة، لو كنت في الدنيا بلغت ثروتك ما بلغت، لا تتمكن من أن تعتق نفسك بها من عذاب الله، وجمعك لها من الآثام والأوزار والذنوب والمعاصي والمحرمات جعلها عذابًا كبيرًا لك {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ لأنك ستقدم على الله مفلسًا، الرصيد الذي سينفعك هو العمل الصالح، أين هو عملك الصالح؟ هو طاعتك لله، هو استجابتك لتوجيهاته وأوامره، هو عملك بآياته وتوجيهاته، إذا أنت مفلسٌ من ذلك، خلاص، خاسر.
{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم}، وَأَنفِقُوا؛ لأن الإنفاق المالي هو جانبٌ أساسيٌ في العبادة والطاعة والقربة إلى الله -سبحانه وتعالى- الإنفاق في كل سبل الخير: للضعفاء، للفقراء، للمحتاجين، للبائسين، للجائعين، الإنفاق في إطار المسؤولية الإيمانية والجهادية، الإنفاق في كل سبل الخير {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ}، يتفاجأ، ينبهر، ينزعج، يرى أنه غير جاهز، أتاه الموت وهو غير جاهز، بقي عنده آماله، اهتماماته الثانية، ولازال مؤجِّلاً مسألة العمل الصالح والإنفاق، {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ} يتمنى من الله ذلك: أن يؤخِّره ولو إلى أجلٍ قريب، ولو مهلة إضافية بسيطة {فَأَصَّدَّقَ}، لا أبقى باخلًا، أتجه وأتصدق؛ لأن الصدقة هي القربة إلى الله، {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} أُصلِح نفسي وعملي ثم أرحل، ثم يأتي الموت، أعطني مهلة إضافية أتجهز، آخذ فيها هذه الاستعدادات التي تلزمني، التي لن يبقى لي من هذه الدنيا ومن هذه الحياة إلا هي، كل الأشياء الأخرى إما أن تفوت وتنتهي وتتلاشى، وإما أن تصبح وزرًا وحملًا ثقيلًا، وتتحول إلى عذاب في الآخرة.
فلذلك، هذا التحسر عند الموت، التحسر الآخر في ساحة القيامة {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، نعوذ بالله، في ساحة الحشر {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23-24]، يتحسر ويتألم ويندم، يتمنى أنه قدّم، ماذا قدّم؟ العمل الصالح، الأعمال التي كانت غير ذات قيمة بالنسبة له، ولا تدخل ضمن دائرة اهتماماته، بل البعض يعتبرها خذيلة وضياع وقت.
ضاعت الفرصة وحلت الكارثة!!
يقول الله -سبحانه وتعالى- أيضًا في حالة أخرى من أخطر حالات التحسر والندم والأسى والأسف على فوات الفرصة، هي بين نيران جهنم، وقد وصل الإنسان إلى جهنم، يحترق بنيرانها، نيرانها المستعرة الهائلة جدًّا، يتعذب بظمئها وجوعها وأوجاعها وآلامها وسلاسلها المثقلة، يأتيه الموت من كل مكان، يعيش حالة الألم النفسي والجسدي؛ لأنه هو الذي أوصل نفسه إلى ذلك العذاب، قد أُعطي الفرصة الكافية التي من خلالها كان بإمكانه أن يعمل الأعمال الصالحة التي فيها نجاته وسلامته، فلا يوصل نفسه إلى ذلك العذاب، بل ينجى ويفوز بالجنة التي عرضها السموات والأرض، وفيها النعيم العظيم الأبدي، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر: الآية37] في جهنم {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} صراخ بأعلى أصواتهم، بمرارة شديدة، بألم شديد، ومعه تخبط بأجسادهم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، ماذا يجيبهم الله؟ هم طلبوا العودة، لماذا؟ للعمل الصالح، العمل الذي كنت تتهرب منه في هذه الدنيا، الذي كنت ترى فيه حملًا عليك، عبئًا عليك، مشكلةً لك، أمرًا تتهرب منه، ترى الراحة والسعادة في البُعد عنه، {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من أعمال سيئة، أو من أعمال عبثية أهدرنا بها حياتنا، وأضعنا بها أوقاتنا، وخسرنا فيها فرصة الحياة، فرصة العمر.
يرد الله عليهم ويجيب عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} الله يجيب بأنه قد أعطاهم الفرصة الكافية لأن يتذكر الإنسان، وأن يعتبر، وأن يعمل العمل الصالح، وهي الفرصة الوحيدة، ما عاد هناك في عالم الآخرة فرص إضافية، ولا حين يأتي الموت.
الإصرار يسلب التوفيق
فإذًا، الإنسان عليه أن يدرك أن وجوده في هذه الحياة هو وجودٌ مؤقت، ولا يدري إلى متى، أنت لا ضمانة عندك أنك ستتعمر عمرًا طويلًا حتى تسوّف وتقول: [سوف أصلح نفسي واهتم بالأعمال الصالحة في قادم الأيام بعد كذا كذا سنوات]، فيقول الشاب: [عندما أصبح في مرحلة الكهولة والشيخوخة سأصلح نفسي]، ثم لا تضمن أنت ذلك، لا تضمن؛ لأن الإنسان يخذل من الله، يسلب التوفيق، قد لا تتوفق أصلًا، حتى لو اعتمدت الأماني والتسويف، وأنك ستصلح وتعمل وتفعل في مستقبل العمر وقادم الأيام، أنت لا تضمن أن تصل بحياتك وعمرك إلى ذلك الوقت، ولا تضمن التوفيق، كم في القرآن الكريم من تحذير من الخذلان، من الطبع على القلوب، من سلب التوفيق {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:16-17].
قد يسوّف البعض، يقول: [سأتوب فيما بعد، سأقلع عن بعض المعاصي التي أنا عليها فيما بعد]، ثم لا يستطيع أبدًا؛ سُلِبَ من الله التوفيق لإصراره على المعاصي، لإصراره على ذنوب معينة، وفي الوقت نفسه نفسه تتعود، ترتبط، تعشق تلك المعاصي، تتولع بها، تشتد، يشتد ارتباطه بها، يصعب عليه فيما بعد الفكاك منها.
على الإنسان أن ينيب إلى الله، أن يدرك قيمة هذه الحياة، وأن يدرك أنها محدودة، مؤقتة، لا يعرف متى، ولا أين، ولا كيف {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: من الآية34]، كثيرٌ من الناس هو اليوم مطمئن البال، مرتاح النفس، لا يحمل قلقًا في احتمالية أن يكون الغد آخر أيامه ولا بنسبة 1% ما عنده توقع أصلًا، والآخرون من حوله كذلك، ما عندهم توقع، يأتي خبر وفاته، يقول: [فلان توفي، إنا لله، الله!!]، تفاجئ الجميع {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، أنت لا تعرف حتى ما هي الأرض وأين الأرض التي ستموت عليها، في منطقتك، في منطقة أخرى!
أينما تكونوا يدرككم الموت
ثم كذلك ليس هناك وسيلة للاحتماء من هذا الموت والخلود في هذه الحياة الدنيا، كثيرٌ من ملوك الدنيا وأباطرتها، وكثيرٌ من الأثرياء الذين كانت لهم ثروات هائلة، وأموال طائلة، ودنيا واسعة يتمنون أن لو أمكنهم أن يعيشوا حياةً أبدية في هذه الدنيا نفسها، أو حياةً طويلة على الأقل، أنه يتعمر –مثلًا– مئات السنين، مستعد أن يدفع جزءًا من ثروته، أو أن يقدِّم إمكانيات هائلة جدًّا، البعض مستعد يدفع المليارات من ملوك الدنيا، ومن أمرائها، ومن زعمائها، ومن ذوي الثروة فيها مستعد يدفع أشياء كثيرة ويقدِّم أشياء كثيرة، ولكن لا يمكن ذلك، وليس هناك وسيلة يمكن- مثلًا– أن يعمل له إما حصوناً معينة، أو إمكانات، أو تقنيات، أو قدرات معينة تدفع عنه الموت {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} [النساء: من الآية78]، أَيْنَمَا تَكُونُواْ: في أي مكانٍ أنت، لا مكان يمكن أن يحميك، ولا قدرة ممكن أن تدفع عنك، ولا وسيلة يمكن أن تحتال بها للتهرب من هذا الموت، ولضمان البقاء في هذه الحياة، {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
ولذلك أهم طريقة حتى تكون مسألة الموت بالنسبة لك مسألة لا تشكِّل خطورة عليك، بل تصبح بالنسبة لك معراجًا إلى الله، إلى الخير الأبدي الذي أنت ترجوه، العمل الصالح، التركيز على العمل الصالح، والتركيز على التوبة من المعاصي والذنوب والإقلاع عنها، وتجديد التوبة عند كل زلل، مع السعي والحرص على الابتعاد عن المعاصي والذنوب، والاستعانة بالله، والاعتماد على الله، والالتجاء إلى الله، والأخذ بأسباب التوفيق، والتوجه بالعمل الصالح، هذه هي الطريقة الصحيحة.
يجب التفكير.. أين المصير؟!
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} كل نفس، ما هناك استثناءات أبدًا {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: الآية 185] هناك الأجر الكبير الذي سَتُوَفَّاه، إذا أنت هنا عملت العمل الصالح، ما هي مشكلة، سيموت الجميع، أنت واحدٌ منهم، لكن أملك هناك بمستقبلك الأبدي والدائم، بمستقبلك الدائم الكبير العظيم الذي فيه حياةٌ لانهاية لها ولا انقطاع لها، ولم تعد محسوبةً لا بحساب الزمن، لا بحساب السنين، ولا حتى بالمليارات، وإن قال- مثلًا- تتعمر مليار سنة، أو مائة مليون، أو عشرين مليون، أو خمسين مليون… لا فترة محددة بقلة ولا بكثرة، خلاص، الزمن سيلغى آنذاك، الأبد والخلود هو الذي سيكتب {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}؛ لأنهُ انتقل من هذه الحياة بكل ما فيها، وهي حياة محدودة مؤقتة، ومليئة بالمنغصات والهموم والمشاكل والمِحن والآلام، وفيها الكثير الكثير من الأمور المتعبة، إلى حياة، إلى عالم الجنة في حياة مستقرة، آمنة، سعيدة، هانئة، تتوفر فيها كل الملذات، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها النعيم العظيم الذي لا يساويه نعيم أبدًا، حيث مقدار سوط خيرٌ من الدنيا وما فيها، بقعه صغيرة داخل الجنة أفضل من الأرض بكل ما عليها، والحياة الدنيا بكلها ما فيها.
الشيء الصحيح هو أن يتجه الإنسان هذا الاتجاه: نحو العمل الصالح {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، وهنا أيضًا ندرك أن القيمة والعبرة والعظة من مسألة الموت ومسألة الآخرة ومسألة الجزاء أن ندرك قيمة هذه الحياة، وأهمية هذه الحياة، مستوى الأهمية لها من حيث أنها ميدان مسئولية، وأهمية العمل فيها، وخطورة أيضًا الإهمال، التفريط، الإضاعة لهذه الفرصة، أو الغرق في المعاصي والذنوب وما يسخط الله -سبحانه وتعالى-.
الشهادة غاية السعادة
ندرك أيضًا القيمة العظيمة والأهمية الكبيرة للشهادة في سبيل الله؛ لأنها انتقالٌ ومعراجٌ من هذه الحياة إلى ضيافة الله -سبحانه وتعالى- ما قبل عالم يوم القيامة، الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً}، الموت بالنسبة لهم لحظة عابرة، وصغيرة ومحدودة، لحظة الفراق لهذه الحياة، لحظة الانتقال إلى ذلك العالم، إلى ذلك المقام العظيم، إلى ضيافة الله -سبحانه وتعالى- {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169-171]، الشهيد في سبيل الله، في قضية الحق والقضية العادلة والموقف الحق لإعلاء كلمة الله ضد الطاغوت والظلم والباطل، هو يعيش في ضيافة الله -سبحانه وتعالى- مكرمًا برزقٍ ورحمة وفضل من الله -سبحانه وتعالى- إلى يوم القيامة، ويوم القيامة يُحشر مع بقية الناس ولهُ دوره يوم القيامة حتى في شهادته على الأحداث، بعد ذلك يلتحق بجنة المأوى، بالسعادة الأبدية والدائمة، ندرك قيمة الشهادة وأهميتها وعظمتها.
إن شاء الله في المحاضرة القادمة نبدأ نتحدث أيضًا فيما يتعلق بالآخرة، والحساب، والجزاء، والقيامة…الخ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه عنا، وأن يكتبنا في هذا الشهر الكريم من عتقائه ونقذائه من النار، نسأله أيضًا أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفك أسرانا ويفرج عنهم، وأن ينصرنا بنصره إنهُ سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛