المحاضرة الرمضانية الثانية عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 14 رمضان 1439هـ
المنهجية الأساسية للاهتداء بالقرآن الكريم
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نستمر في الحديث عن جانبٍ أساسٍ لا تتحقق التقوى إلا به، وهو: المنهج الذي يعتمد عليه المتقون، ويعودون إليه دائمًا لمعرفة ما عليهم أن يعملوا، لمعرفة ما يمكن أن يشكِّل وقايةً لهم من عذاب الله، من سخط الله، من الشرور، من الهوان، من الخزي، من كل ما فُطِرَت النفس البشرية على الحرص على الوقاية منه، منهجهم هو القرآن الكريم، الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- قال في كتابه المبارك: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: من الآية2]، فالمتقون يعتمدون على القرآن الكريم ككتاب هداية، وهذا ما يميِّز علاقتهم بالقرآن عن غيرهم.
هناك الكثير من الناس- كما تحدثنا بالأمس- ممن ليست علاقتهم بالقرآن الكريم علاقة اهتداء به، اعتماد بشكل رئيسي عليه، اعتماد عليه سواءً كمنهج حياة، اعتماد عليه في تحديد المسؤوليات والواجبات في هذه الحياة، اعتماد عليه في معرفة ما أمرنا الله وما نهانا عنه، واعتماد عليه- أيضًا- فيما يتعلق بالرؤية، والنور، والبصيرة، والتقييم للواقع، والتقييم للأحداث، النظرة إلى الحياة من خلاله، كما قال الإمام علي -عليه السلام-: (كِتَاب اللهِ تَسمَعُونَ بِهِ، وَتُبصِرُونَ بِهِ، وَتَنطِقُونَ بِهِ)، كتاب الله على هذا الأساس: يكون هو المعتمد في الانطلاقة إلى واقع هذه الحياة، في الرؤية، في التقييم، في الموقف، في الولاء، في العداء، في النظرة العامة، في أشياء كثيرة جدًّا؛ لأن القرآن هدايته هداية واسعة جدًّا، واسعة للغاية، الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- قال وهو يتحدث عن القرآن الكريم وعن كلماته في القرآن الكريم: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: من الآية109]، هدي القرآن هدي واسع وشامل، أوسع من هذه الحياة، وأوسع مما فيها.
سنة الله في الهداية
والقرآن الكريم، لنعرف منهجيةً أساسيةً للاهتداء به، لم يأتِ إلى العباد منفصلًا، مثلًا: لم يُنزل الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- هذا الكتاب إلى البشرية بطريقة مطبوعة وموزَّعة من السماء عن طريق- مثلًا– مطر، غيث، تنزل نسخ كبيرة جدًّا إلى الحياة، وكلٌ يأخذ نسخته، أو يبعث- مثلًا– من الملائكة مندوبين إلى كل شخص ليسلِّموا له مصحفه، أو بأي شكلٍ آخر. |لا|، الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- له -جلَّ شأنه- سنته في هداية عباده، ولذلك القرآن الكريم هو مشروع جماعي؛ لأن الواقع البشري، والحركة البشرية هي حركة اجتماعية، المجتمع البشري يتحرك كمجتمع مترابط، يتحرك ضمن مسارات، اتجاهات، وهذا الواقع الذي عليه البشر أنهم بشكل كيانات واتجاهات، في كل الأشياء، يعني: سواءً- مثلًا– الجانب العقائدي، نراهم اتجاهات، طوائف، أو ما هو أوسع من ذلك، الجانب السياسي- مثلًا– نراهم اتجاهات، وكيانات، دول…إلخ.
الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- نزَّل هذا الكتاب إلى خاتم أنبيائه رسول الله محمد بن عبدالله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- فعن طريقه قُدِّم هذا الكتاب إلى الناس، والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كما قال الله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: من الآية1]، ليتحرك به رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يتحرك بهذا الهدى، أُنزل إليه هذا الكتاب، فبلَّغ هذا الكتاب، أوصل هدى الله، أوصل القرآن الكريم إلى البشر، وبلَّغ به، وأنذر به، وبشَّر به، ولهذا تجد في القرآن الكريم تتكرر (بِهِ) هذه المفردة، بِهِ بِهِ بِهِ، يقول الله: {لِتُنذِرَ بِهِ} [الأعراف: من الآية2] عن القرآن الكريم، (لِتُنذِرَ بِهِ): يعني بالقرآن، {وَأَنذِرْ بِهِ} [الأنعام: من الآية51]، تتكرر هذه، {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: من الآية19]، تتكرر مفردة (بِهِ)؛ لتوضِّح لنا هذا الترابط التام ما بين الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وما بين القرآن الكريم، لم يكن منفصلًا، لم يكن للرسول مشروع لوحده هناك يشتغل عليه، والقرآن هناك، ويقدِّم الرسول- مثلًا– أشياء متناقضة مع القرآن ومخالفة للقرآن، أو أن لديه برنامجًا ثانويًا، فجعل القرآن هناك مطروحًا على الرف بعد ما جمعه، وتحرك هناك. لا، بل إن كيفية نزول القرآن على الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كانت مثلما وضَّحه الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه المبارك، نزَّله الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- على مراحل متعددة، منذ بعثته بالرسالة إلى الناس، وابتدأ نزول القرآن، وإلى حين اكتمل نزول القرآن الكريم، كان ينزل بشكل مفرق، كان يلامس الواقع، كان ينزل ككتاب هداية، كانت تتأتي توجيهاته إلى واقع الحياة، فتصب في واقع الحياة، كان يُنزِل هديه ليلامس الواقع البشري وحركة الرسالة، ويتحرك به، سواءً فيما هي أشياء عملية، أو أشياء ترتبط بالواقع العملي؛ لأن القرآن منه ما هو جانب عملي، ومنه ما هو جانب أساس للجانب العملي، مرتكزات عقائدية وأخلاقية، وأسس، وتبصرة عن الواقع، وتبصرة عن الأمم، وتبصرة عن الأحداث، وأسس وعقائد ينطلق الإنسان من خلالها إلى الواقع العملي، وهذه أيضًا مسألة أساسية للغاية: أن نفهم هذا الترابط بين العمل والجوانب الأخرى، أن الجوانب العقائدية والأسس والمبادئ إنما لتكون مرتكزات للعمل، ولذلك لا مجال في القرآن الكريم للفصل بين الجانب العملي، المسؤوليات والالتزامات العملية، والجوانب العقائدية والإيمانية: إيماننا بالله، إيماننا باليوم الآخر، إيماننا بالرسل والأنبياء، وما أنزل الله، كل الجوانب الإيمانية، جوانب المبادئ والعقائد، جوانب المرتكزات الأخلاقية والقيم… كلها مرتبطة بالعمل، مؤدَّاها وثمرتها في العمل، ويعود إلى العمل، ويعود إلى الالتزام العملي، ويعود إلى الاهتمام العملي، ونتيجتها عملية، نتيجتها الطبيعية السليمة المنطقية عملية، إلى الواقع العملي، إلى الالتزام العملي، فيما نعمل، وفيما نلتزم بالتوقف عنه…الخ.
حركة الرسول لإقامة المشروع الإلهي
نزل هذا القرآن إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بلَّغه، أوصله، ولم تكن مهمته مقتصرة على إيصاله كبلاغ كلامي إلى الناس، مجرد التلاوة للقرآن، بعدما يكتمل الوحي عليه- مثلًا– بآيات معينة، أو سورة معينة، يذهب إلى الناس ويقرأها عليهم وانتهى الأمر، وأكمل مهمته عند قراءتها عليهم، ويعود إلى منزله، وأكمل مهمته. لا، هو تحرك لهداية الناس بهذا القرآن الكريم، وعمل على إقامة المشروع الإلهي، عمل على إقامة الإسلام، على نشر نوره وإعلاء رايته، وعمل على تطبيقه في واقع الحياة، فمثَّل هو القدوة والقيادة في تطبيق هذا المشروع، وفي التحرك العملي لإقامة هذا المشروع الإلهي، وكان هو المعنيَّ الأول والمؤتمن في تقديم المفاهيم، المفاهيم التي تعبَّر عن هذا الدين، وعن حقيقة هذا الدين، وعن عقائد هذا الدين، وما يتعلق بهذا الدين جملةً وتفصيلًا.
نحن نتحدث عن هذه النقطة الجوهرية؛ لأننا نريد من خلالها الوصول إلى مسألة حسَّاسة للغاية، تمثِّل إشكالية عامة في واقعنا الإسلامي، وعانت منها الأمة على مرِّ التاريخ، وتعاني منها في هذا الزمن بشكل كبير.
بعد وفاة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كيف هي المسألة، هل انتهت مهمة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وبناءً على ذلك- من بعد وفاته- تتحول المسألة إلى مسألة عامة، يعني: لا يبقى في الموقع الديني، والموقع التبليغي، وموقع العمل على حركة الدين وحركة الهداية أي معنيين آخرين، المسألة تُرِكَت من بعد وفاته- مثلًا– إلى الناس بشكلٍ عام، كلٌ يفكر، كلٌ ينظِّر، كلٌ يقدِّم، كلٌ يقوم بهذا الدور الذي كان يقوم به الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وتتحول المسألة إلى أن كلًا يدَّعي ويعبِّر، ويقدِّم نفسه كناطق رسمي عن الإسلام، وعن الدين الإسلامي، وعن القرآن الكريم، وعن مفاهيم القرآن، وعن معاني القرآن، هل المسألة على هذا النحو، أم لا؟
الحالة التي مثَّلت إشكالية كبيرة في الساحة الإسلامية: أنَّ كثيرًا من الناس يتحركوا على هذا الأساس، بمعنى: أن المجال مفتوح، من أراد أن ينصِّب نفسه معبِّرًا عن القرآن الكريم وعن الإسلام نصَّب نفسه، مجرد أن يتحرك يحفظ نصوصًا معينة، طرقًا معينة، آليات معينة، وخلاص سابر، كل واحد يتحرك من عنده، فازدحمت الساحة الإسلامية بالكثير من الناس الذين قدَّموا أنفسهم كمعنيين بتقديم المفاهيم الإسلامية والقرآنية، ومعبِّرين عن الإسلام، وداعين للأمة لتتحرك وراءهم؛ فكثرت الرؤى المتباينة والمتناقضة في الساحة الإسلامية، وازدحمت الساحة الإسلامية بالكثير والكثير، أغلبية منهم أدعياء، وكثير منهم- أيضًا– يمثِّلون حالة اختراق في الساحة الإسلامية، حالة اختراق من أعدائها، فهل القرآن وهل الإسلام هو على هذا النحو، تركه الله -جلَّ شأنه- هكذا في حالة عبثية، كلٌ يأخذ منه، وكلٌ ينصِّب نفسه فيه، وكل يقدِّم نفسه له وعليه، أم المسألة ليست كذلك؟
القرآن الكريم هو كتاب الله الحكيم والملك، الله هو الملك، والقرآن الكريم هو امتداد لملك الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- وإدارته لشؤون عباده: يهديهم، يُشرِّع لهم، يرسم لهم مسؤولياتهم في هذه الحياة، يحدد لهم الحلال والحرام، يبيِّن لهم دورهم في هذه الحياة، واجباتهم في هذه الحياة، الممنوع والمسموح في هذه الحياة، وبناءً على ذلك يجازيهم، جزء من عقوباته تأتي في هذه الحياة، الجزء الأكبر والنهائي والأبدي والمهم جدًّا الذي يوفَّون به أجرهم وحسابهم في الآخرة… امتداد لملك الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- هو امتداد لحكمته، وهل من الحكمة أن يترك الأمور هكذا على هذا النحو؟
أعلام الهدى امتداد للدور الرسالي
نحن نقول: القرآن الكريم مما فيه أيضًا، ومما هدى إليه، ومما ركَّز عليه أنه حدد الطريق، وحدد أعلام ومعالم هذا الطريق، الهداية القرآنية هي ركَّزت على هذه المسألة، ومن أول سورةٍ في القرآن الكريم، (سورة الفاتحة) التي نقرؤها في بداية كل صلاة، وفيها قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7].
القرآن الكريم هو كتاب الله الحكيم، وهدايته هداية واسعة جدًّا، في مقدمة ما هدى إليه أنه رسم الطريق، الرسمة العامة للطريق بشكلٍ عام، ثم معالم هذا الطريق، وأعلام هذا الطريق؛ حتى لا نتيه، وحتى لا يكون كل إنسان موكولًا إلى نفسه في نظرته القاصرة، في معرفته المحدودة، في واقعه الذي يعيش فيه التجاذبات الهائلة، ويواجه فيه حملات تضليل هائلة جدًّا، على هذا الأساس: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، الله له صراط، له طريق، هذا الطريق هو: الإسلام في منهجه العظيم المتمثل بالقرآن الكريم، والتعاليم الإسلامية، وهذا الطريق له معالم، وله أعلام، وله منهج، أعلامه قال عنهم في الآية المباركة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، لدورهم الرئيسي في هذا الطريق سمَّاه صراطهم، بهذه الدرجة من الدور الرئيسي لهم؛ لأنهم في هذا الطريق هم القدوة، وهم القادة، وهم الذين نتطلع إليهم، هم الذين نعتبرهم الأمناء والموثوقين على مفاهيم هذا الدين في تقديمها، وفي تطبيقها، في تعليمها، وفي موقع القدوة فيها.
ولهذا نجد في القرآن الكريم، مثلما في سورة الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، نجد أيضًا في سورة فاطر آية قرآنية مهمة، ووضحَّت حتى هذا التسلسل، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه الكريم في سورة فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مخاطبًا لرسوله محمد بن عبدالله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ}، (إِلَيْكَ): إليك أنت، لتكون أنت المستقبِل لهذا الهدى، والموصل له إلى الناس، والمبلِّغ له إلى الناس، والمؤتمن على تبيين حقائقه ومفاهيمه، وتقديم تعاليمه إلى الناس، والمعني في موقع القدوة والقيادة في العملية التطبيقية والتحرك العملي بهذا الهدى، بهذا الوحي، بهذا الحق، للناس وفي الناس، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: الآية31]؛ لأن القرآن الكريم هو خلاصة كتب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- المحتوى والمضمون العقائدي والأخلاقي، وفيما تحتاج إليه البشرية من زمن بعثة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وتحركه بالرسالة، وإلى قيام الساعة، احتواه القرآن الكريم، مصدقًا لما بين يديه {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
ثم ماذا، فيما بعد الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-؟ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر32-33]، (ثُمَّ): الكلام متصل بما قبله، هذه (ثُمَّ) حرف عطف- معروف في اللغة العربية، في النحو- تعطف هذا الكلام على ما قبله، (ثُمَّ): يعني ما بعدك {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، يعني: تنزل هذه المسئولية وتنتقل، ويستمر هذا الدور، تستمر هذه المسئولية في التمسك بهذا الكتاب، في الاهتداء بهذا الكتاب، في التحرك على أساس هذا الكتاب {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}.
هذه الدائرة داخلها ثلاث فئات: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: من الآية32]، ولا شك أن السابق بالخيرات بإذن الله هو الامتداد في موقع القدوة والهداية للأمة من بعد وفاة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- هو الامتداد والوريث. لاحظوا مثلًا: يشتهر في الحديث العام بين أوساط الناس أن العلماء ورثة الأنبياء، ولكن عندما نأتي إلى المصطلح العام، أو التسمية العامة، كلٌ يحاول أن يتقمص هذا الدور، لا بد أن هناك دورًا أكبر من هذا الدور، أخص من هذا الدور، الآية القرآنية هي تحدثت عنه.
الرسول يحدد ورثة الدور والامتداد من بعده
نأتي إلى الرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في حديثه المشهور بين الأمة، والمتواتر بين الأمة، والمنقول بين فرق الأمة الكبرى، وهو قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إِنِي تَارِكٌ فِيكُم مَا إِن تَمَسَّكتُم بِهِ لَن تَضِلُوا مِنْ بَعدِي أَبَدًا: كِتَاب اللهِ، وَعِترَتِي أَهلَ بَيتِي، إِنَّ اللَطِيفَ الخَبِيرَ نَبَأَنِي أَنَّهُمَا لَن يَفتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوض)، نأتي إلى قول الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عن الإمام علي -عليه السلام-: (عَلِيٌّ مَع القُرآن، وَالقُرآن مَع عَلِي)، (عَلِيٌ مَع الحَق، وَالحَق مَع عَلِي)، نأتي إلى قول الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في حديثه عن الإمام علي -عليه السلام-: (… فَمَن كُنتُ مَولَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه)، نأتي إلى نصوص كثيرة جدًّا فيما يتعلق بأهل البيت -عليهم السلام- لنعرف أن هداة آل محمد، وعلى رأسهم الإمام علي -عليه السلام- هم الامتداد المقارن والمقترن بالقرآن الكريم من بعد وفاة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- هم الامتداد لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- حينما نشاهد الأمة تختلف، وتتضارب، وتتفاوت آراؤها، وكلٌ يأتي ليقول: [أنا معبِّر عن هذا القرآن، وأنا أتحدث باسم هذا القرآن]، حتى من يأتي البعض في هذا الزمن- مثلًا– والساحة الآن، وتجليات هذه الفوضى، ونتائجها السلبية في الساحة اتضحت في هذا الزمن بأكثر من أي زمن مضى.
اليوم القوى التكفيرية التي هي ذات ارتباط بالدور الأمريكي والإسرائيلي، وبات واضحًا جدًّا، ومثبتًا بكل الدلائل، يأتي البعض منها ليتحدث ويقدِّم- أحيانًا- حتى نصوصًا قرآنية، مثلًا: الآيات التي تتحدث عن الكافرين في القرآن، يتحرك بها لخدمة أمريكا وإسرائيل ضد المسلمين، ويطلق عليهم الكافرين، ثم يقرأ كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكافرين، يأتي- مثلًا– ليتحدث بالنصوص القرآنية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، فيحرك الأمة أفواجًا في الساحة، في الميدان، لتقاتل تحت الراية الأمريكية.
القرآن يفصلنا عن التبعية للأعداء
القرآن الكريم ليس كتابًا منفلتًا، ليس كتابًا هكذا رَجَمَ الله به إلى الأرض وتركه، وكلًا تخطَّفه، وكلًا جاء يمسكه على أساس أن يكون هو المعني. |لا|، الصراط المستقيم له أعلامه، وله معالمه، له اتجاهاته.
وأول ما نلحظ في الارتباط بالقرآن الكريم هذه المسألة، ثم نلحظ أن من الأشياء الرئيسية في القرآن الكريم والبديهية والأولية، هي أن القرآن يفصلنا عن التبعية للأعداء، لا يمكن أن يكون منتهاك في طريقتك التي أنت عليها هم اليهود، هم الصهاينة، ولو أنت تجوِّد القرآن، ولو أنت تعرف أحكام التجويد، ولو أنت تأتي لتوظِّف نصًا قرآنيًا هنا أو هناك لتخدم به أولئك، هذه فيها إساءة، بالطبع إساءة كبيرة جدًّا إلى الإسلام والقرآن، يعني مثلًا: هناك البعض من أبناء هذه الأمة يمكن أن يتحول إلى عميل للموساد الإسرائيلي، أو يتحرك كعميل لأمريكا، أو عميل لإسرائيل، ومن دون أن يقدِّم نفسه معبرًا في عمالته تلك عن الإسلام، والمسلمين، والرسول، والقرآن، ووو…الخ. ما يحتاج إلى هذا، عميل هكذا بشكل مفضوح، أو بطريقة يقدِّم له فيها عناوين وطنية، أو عناوين علمانية، أو عناوين هنا أو هناك، وكثير من أبناء الأمة هم فعلوا ذلك، يعني: هناك عملاء واضحون من أبناء الأمة، ارتباطاتهم بأمريكا وإسرائيل، وعلاقتهم وتحركهم ضمن الأجندة الأمريكية والإسرائيلية في الساحة واضحة ومعروفة، ومن دون أن يقدِّموا أنفسهم باسم الدين، والتدين، والقرآن، والجهاد، ووو…الخ. وهؤلاء هم أقل ضررًا على الأمة، وأهون خطرًا بين أوساط الأمة من أولئك الذين يقدِّمون، أو يحاولون أن يوظِّفوا الدين بكله، الإسلام بكله، العناوين الدينية والإسلامية بنفسها في خدمة أمريكا، أما هؤلاء فهم أخبث، وهم أسوء، وهم أقذر، وهم أرجس خلق الله، إساءتهم رهيبة جدًّا. الإسلام بقداسته، عناوينه المقدسة والعظيمة والمباركة التي ترتبط بالحق، وترتبط بالمبادئ، وترتبط بالقيم، وترتبط بالأخلاق، يسعون إلى استغلالها وتوظيفها في خدمة مَنْ؟ في خدمة إسرائيل، في خدمة أمريكا، هذا ما فعله التكفيريون ويفعلونه باستمرار.
عنوان الجهاد في سبيل الله عنوان عظيم، عنوان مقدس، وله مساره المرتبط بالقيم، بالمبادئ، بالأخلاق، بضوابط شرعية وأخلاقية ودينية وإيمانية عظيمة، منزهة، طاهرة، صالحة، مستقيمة، وملاذ للمظلومين من عباد الله، ملاذ للمستضعفين من عباد الله، ليكون وسيلة ينطلقون من خلالها بشكل صحيح وسليم ومنضبط وراقي، يأتي التكفيريون ليرفعوه في التحرك لخدمة أمريكا وإسرائيل.
كذلك عنوان التكفير، الذي قلنا في محاضرات سابقة، قلنا: أولئك- القوى التكفيرية- قوم ما عندهم أي مشكلة تجاه كفر أمريكا وإسرائيل، الذي هو كفر مثَّل شرًا على البشرية، وخطورة كبيرة على البشرية بكلها، كفر المستكبرين الذين يسعون إلى هدم قيم الإسلام، وطمس معالمه، والاستحواذ على الأمة الإسلامية، وظلم عباد الله بكلهم، ظلم الناس، ظلم البشر في كل أقطار الأرض، أولئك، لا، اتجهوا إلى تكفير المسلمين، واستهداف المسلمين خدمةً لأمريكا وخدمةً لإسرائيل.
القرآن يغلق المجال على الأدعياء ويبني أمة مستقلة
نصل إلى نتيجة: أن القرآن بنفسه هو يغلق النافذة على الأدعياء الذين يسعون إلى استغلاله، والإساءة إليه، والتوظيف له في خدمة الاتجاه الشيطاني في الحياة، القرآن بنفسه يغلق هذه النافذة؛ لأنه رسم الطريق، رسم المعالم، واتجه أصلًا يعني ضمن القناة الإلهية التي أوصلته إلى عباد الله: رسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- ليكون هو المعني الأول في الإبلاغ والتحرك من موقع القدوة والقيادة لهداية هذه الأمة بهذا الحق، ومن بعده كذلك حُدد الإمام علي -عليه السلام- وأهل البيت -عليهم السلام- نتطلع إليهم كأعلام في هذا الطريق، ونسير بناءً على هذا الأساس.
ثم حدد القرآن الكريم في معالم عامة، قضايا رئيسية، اتجاهات عامة، تساعد الإنسان- أيضًا- على الاحتماء بالهداية القرآنية من كل قنوات التضليل، ومن كل أبواق التضليل، من كل الأدعياء الذين يدَّعون أنفسهم هداة للأمة، أو علماء، أو مصلحين، أو دعاة، أو أيًا كان مثل أولئك السيئين من المتحركين في إطار القوى التكفيرية. الاتجاهات العامة والمعالم العامة محددة في القرآن، أعداء الأمة الذين يشكِّلون خطرًا على الأمة، وينبغي أن تنفصل الأمة عنهم ولا ترتبط بهم أبدًا في مواقفها، في ولاءاتها، في عداءاتها، في اتجاهاتها، في مسارها في الحياة؛ لأننا كأمة مسلمة مبادئنا، قيمنا، أخلاقنا، قرآننا هذا، قدواتنا… كل هذا يُبنى عليه استقلاليتنا كأمة إسلامية، استقلاليتنا، نفهم الاستقلال الثقافي، لا نعيش في هذه الحياة حالة تبعية، لا للشرق، ولا للغرب، تبعية عمياء، تبعية سياسية، تبعية ثقافية، تبعية نتطلع إلى الأمم الأخرى في شرق الأرض أو في غربها لنقلِّدهم في كل شيء، لنتَّبعهم في كل شيء: في نمط هذه الحياة، في سلوك هذه الحياة، في مواقف هذه الحياة، في اتجاهاتنا في هذه الحياة.
المنهج الإسلامي في قرآنه، في تعاليمه، في شرعه، في أحكامه، في أعلامه، في قدواته، هو يبني لهذه الأمة استقلالية ثقافية وفكرية وأخلاقية وعملية، ويحدد لها مشروعها الرئيسي في هذه الحياة، واهتماماتها في هذه الحياة، لتؤدي دورًا متميزًا وإيجابيًا من هذا الاتجاه المستقل في واقع الحياة، وتترك أثرًا إيجابيًا في واقع هذه الحياة، وتتحرك في أوساط البشرية بقيمها العظيمة، وليس بتبعية.
ولهذا نقول: إنَّ من أعظم الناس جناية على الأمة هم من يسعون في هذا الزمن إلى أن يجعلوا من أمتنا بكلها، بكل قدراتها، بكل مقدراتها، بكل ثرواتها، بموقعها، ببشرها، بإمكاناتها، بكل ما تختزنه من طاقة، مجرد أداة لأمريكا، مجرد مغنم لأمريكا، مجرد ساحة مفتوحة لأمريكا، تعبث فيها، وتتلعب فيها، وتتحرك فيها كما تشاء وتريد. فنصل إلى نقطتين مهمتين جدًّا في حديثنا:
الأول: أنَّ القرآن الكريم من خلال تحديده للصراط، للأعلام، للمعالم، للاتجاهات العامة، يغلق المجال على الأدعياء، وعلى النفوذ الأجنبي في الساحة الإسلامية، ويساعد على الاستقامة الثقافية والفكرية، والنظرة الصحيحة، والاتجاه الصحيح في الحركة في الحياة.
الثاني: أنَّ المنهج الإسلامي في قرآنه ومنهجه بشكلٍ عام يبني استقلالية تخلِّص الأمة من التبعية، لا تكون الأمة الإسلامية مجرد أمة تابعة، تابعة لمن؟ للمغضوب عليهم أو للضالين، تابعة لاتجاه من هذه الاتجاهات: إما لاتجاه الصهاينة، أو لاتجاه الضالين، التائهين على كل المستويات، ويمكن هذه الأمة من أن يكون لها دور إيجابي في الحياة، دور مصلح في واقع البشرية، دور تقدِّم به النموذج البشري بين المجتمعات البشرية، الذي يساعد على صلاح بقية البشرية، والإفادة في واقع بقية البشرية.
اليوم بالجناية الكبيرة على أمتنا، أصبحت مشاكلنا في الساحة الإسلامية مشاكل كبيرة جدًّا، الفريق الذي يسعى في طريق التبعية للأعداء يشتغل بشدة في هذا الاتجاه، يلعب لعبته التي وصل فيها حتى إلى استهداف المفاهيم القرآنية، والعناوين الدينية، واللعب بها، والادعاء العابث والمضل والخطير جدًّا في أوساط الساحة الإسلامية.
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، فهو في معالمه العامة، في صراطه، في أعلامه، في اتجاهاته هدىً، وفي التفاصيل يتطرق لكل مناحي الحياة، ويتجه إلى هذا الإنسان في نفسه، في أخلاقه، والجانب الأخلاقي جانب رئيسي في القرآن الكريم، يتجه إلى ما يتعلق بهذا الدين في حلاله، في حرامه، يتجه إلى شتى شؤون الحياة، والمجالات ذات الأهمية، والجوانب المتصلة بالمسؤولية، وغير ذلك…
فالمتقون يصبح عندهم هذا الانتماء، هذا الارتباط بهذا الهدى، وبشكل سليم وصحيح، المتقون هؤلاء ليست اهتماماتهم متجهة نحو القرآن من جانبٍ ثقافي بحت: (السعي لمعرفة معارفه، هديه، نوره، أحكامه)، المسألة أوسع من ذلك، حتى نهتدي بالقرآن الكريم لا يكفي في ذلك الجهد الفكري، الجهد التعليمي، الجهد التثقيفي، هذا جانبٌ أساسيٌ لا بد منه، لا بد من أن نتعلم، لا بد من أن نسمع، لا بد من أن نتثقف، لا بد من أن نستفيد، هذا جانبٌ أساسيٌ، ولكن لكي تهتدي بالقرآن لا يكفي أن تكون إنسانًا يبذل جهدًا فكريًا وتثقيفًا وتعليميًا وتحصل على ما تشاء وتريد، هناك عوامل لا بد أن تكون حاضرة، موازية، وأساسية لكي تهتدي بالقرآن، ولذلك في مواصفات المتقين في سورة البقرة أتى قول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: الآية3]، وهذا ما سنتحدث عنه- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة بإذن الله.
نسأل الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- أن يوقفنا وإياكم لنكون من عباده المتقين، المهتدين بكتابه إنه سميع الدعاء، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، ويشفي جرحانا، ويفرِّج عن أسرانا، وينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛