المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 29 رمضان 1439هـ
مع عباد الرحمن في سورة الفرقان
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
كان آخر ما تحدثنا عنه بالأمس على ضوء الآية المباركة: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}[الفرقان: الآية71]، الإشارة إلى طبيعة التوبة الصادقة، التوبة النصوح، الرجوع الصادق الذي هو رجوع عملي، رجوع بتخلص عن المظالم، واتجاه جاد في طريق الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، في صراطه المستقيم، هذا الرجوع الصادق في أصله، في حقيقته، في طبيعة التوجه فيه، وفي ثمرته في الواقع العملي وفي واقع الحياة، وفي نتيجته عند الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، حيث الإنسان يحظى بهداية من الله، ورعاية من الله، وتوفيق من الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى بصدقه، بصدق نيته، بصدق توجهه، بإقباله الجاد إلى الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وحيث الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى يُعِد له الأجر العظيم، والفضل الكبير، والخير الواسع في الدنيا والآخرة، هذا يرغِّب جدًّا في التوبة والإقبال إلى الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، والتخلص من المظالم ومن المفاسد، والسعي للخروج عن الجو الذي يكون الإنسان فيه في حالة انحراف وغفلة وضياع، للاتجاه في هذا الطريق العظيم الموصل إلى الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وإلى فضله، وإلى ما وعد به من الخير في الدنيا والآخرة.
أربع من مواصفات عباد الرحمن
نبتدئ في الآيات المباركة في درس اليوم، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}[الفرقان: 72-76].
أولاً: لا يشهدون الزور ولا لهم في الباطل حضور
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، الشهادة يعبَّر عنها بالحضور أحيانًا، أن تشهد شيئًا: أن تحضر فيه، أن تحضره، حضورك شهادة، ويعبَّر عنها أيضًا بالإدلاء بالشهادة، وكلا الأمرين بالنسبة لعباد الرحمن المتقين، بالتأكيد هم يجتنبون كلا الأمرين: يعني يجتنبون الحضور في أجواء الباطل، والاندماج في تلك الأجواء، والتفاعل معها، ليسوا من هذا النوع أبدًا الذي يحضر في اجتماعات الباطل، ومجالس الباطل، ومجالس الضلال، ومجالس الانحراف، واجتماعات منحرفة، اجتماعات باطلة، اجتماعات لها اتجاهات مخالفة لهدي الله، لمنهج الله، للحق، اتجاهات داعمة للباطل، ليسوا من أصحاب تلك الاجتماعات وتلك الاتجاهات، ولا ممن يتجهون في حياتهم إلى مساندة، أو الحضور المساند لأيٍ من تلك الأجواء بأي شكلٍ من الأشكال، وليسوا أيضًا ممن لهم مواقف داعمة للباطل بأي شكلٍ وبأي مستوى من مستويات هذا الباطل، فهم على مستوى قضايا الناس وحقوق الناس لا يمكن لأحدٍ منهم أن يدلي بشهادة باطلة، ليقتطع بها حقًا على أحد، أو لينصر بها ظالمًا، أو مجرمًا، أو مختلسًا لحق أحد، أو يناصر بها الموقف الباطل، في كل مستوياته: من المستوى الفردي والشخصي، إلى مستوى القضايا الكبيرة، والاصطفافات الكبيرة، والمواقف الكبيرة، والتوجهات العامة، وهذا ما يجب أن نحمل الوعي تجاهه، هذا نور الله وإرشاده، الذي يعلِّمنا كيف نكون في هذه الحياة في مواقفنا، في دعمنا، في إسنادنا، أنت عندما تشهد في عملية نزاع بين شخص وآخر، تشهد لشخصٍ شهادة زور، شهادةً باطلة فيما يساعده على تضييع حق لشخص آخر، أو اقتطاع حق لشخص آخر، أو تقديمه كمظلوم وهو الظالم، وإلحاق ضرر بطرف آخر، شهادتك هذه لك فيها وزران، الوزر الأول: الافتراء والكذب؛ لأن شهادة الزور هي في أصلها موقف كاذب وباطل، ثم ما تحقق من خلالها من دعم ومساندة لذلك المبطل، لذلك الظالم، لذلك الذي هو على الخطأ، فأنت ساندته بشهادتك الزور، بما ساعده إما على اقتطاع حق، أو إلحاق ضرر بجهة أخرى، أو بشخص آخر، أنت دعمت موقفه الذي هو موقف باطل، فجمعت بين إثم الافتراء والكذب وإثم الدعم والمساندة للباطل.
يعلِّمنا القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته، وفي كثيرٍ من توجيهات الله فيه، أن لا نقف بأي شكلٍ من الأشكال، بأي طريقةٍ من الطرق في باطل، ولا مع موقفٍ باطل، ولا مع مبطلٍ في باطله.
هذه مسألة رئيسية في القرآن، وتربية أساسية يحتاج إليها مجتمعنا المسلم؛ لأن هناك ضعفًا في هذا الجانب، الكثير من أبناء الأمة- بكل بساطة- يقفون موقف الباطل، ويقفون مع المبطل، ومع الظالم، ومع المجرم، ومع الفاسد، ومع الطاغية، ومع السيئ، ومع مقتطعي الحقوق، ومع اللصوص والناهبين، كثير من أبناء الأمة يقفون معهم بكل بساطة، دافع الإغراء المادي من الشهادة في نزاع وشجار بين خصمين، البعض يُرشي شخصًا معينًا، أو يعده بحصة مما سيقتطعه من حق، أو يغريه بأي شكلٍ من الأشكال ليشهد له بالباطل (شهادة الزور)، إلى مستوى المواقف الكبيرة، والاتهامات الكبيرة، والقضايا الكبيرة التي يلحق الضرر فيها- أحيانًا- بشعب بأكمله، وليس على مستوى شخص، أو على مستوى قبيلة، أو على مستوى أسرة، أحيانًا المضرة فيه على شعبٍ كامل، فيقف البعض ليساند المبطل، ليدعمه، ليبرر له ما هو فيه، ليشهد له زورًا بأنه في الموقف الصحيح، ليبرر له زورًا بأنه في الاتجاه الصحيح، ليحاول أن يشجعه، أو أن يدفع بالآخرين لمناصرته والوقوف معه.
شهادة الزور تعكس نفسية منحطة
فشهادة الزور- كما قلنا- فيها إثمان: إثم الافتراء والكذب والمنافاة للحقيقة، وإثم المساندة الباطلة الظالمة، والدعم بالموقف، الدعم بالكلام، المناصرة من خلال شهادة الزور، فالوزر فيها كبير، وهي تدل على نفسية سيئة لدى الإنسان، نفسية إما منحطة، تُشترى بالمال، تُؤثِّر فيها إغراءات، أو دوافع أخرى، البعض مثلًا: الدافع له إلى شهادة الزور بكل مستوياتها- كما قلنا– من مستوى مشاجرة ونزاع بين خصمين، إلى مستوى نزاع بين أبناء الأمة، نزاع بين اتجاهات، بين أطراف، بين قوى، نزاعات كبيرة، قضايا كبيرة، قضايا مصيرية، المضرة فيها على شعب، أو على أمة، البعض يؤثِّر فيهم العصبية، البعض تؤثِّر فيهم الأحقاد وتصفية الحسابات؛ لأن له مشكلة مع ذاك أو ذاك أو ذاك الطرف أو ذاك الشخص، فاتجه- بالمقابل- في موقف باطل، ومساندة باطل، وشهادة بالزور لمن هو مبطل في موقفٍ باطل، ثم البعض يؤثِّر فيهم التضليل، وهم يساهمون في ذلك، يعني: يفتحون آذانهم وقلوبهم وأعينهم ويصغون للمبطلين والمضلين والمفترين والدجالين، فيكونون كما حكى الله في القرآن الكريم عن البعض: {سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}[التوبة: من الآية47]، سَمَّاع: يسمع للباطل، يصغي له، يصغي للافتراءات والتضليلات، ويتأثر بها، ويتفاعل معها، ويقبل بها في النهاية.
فالقرآن الكريم بنوره العظيم، بهدي الله فيه، هو يعلِّمنا أن من أهم مواصفات المؤمنين المتقين (عباد الرحمن) هذه الصفة المهمة، فليسوا أبدًا إلى جانب مبطلٍ في باطله، من أبسط قضية إلى أكبر قضية، من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى، من نزاع بين شخصين متشاجرين، (لا يشهدون الزور)، إلى النزاعات الكبرى، والمواقف الكبرى، والقضايا الكبرى.
شهادة الزور في مفهومها الواسع
ولاحظوا، أهمية هذا الهدى، وحاجة الأمة الماسة إليه في هذا العصر، اليوم من أكبر الآفات التي يعاني منها الكثير في مجتمعنا الإسلامي: (شهادة الزور)، كم من المثقفين يشهدون الزور، وشهادة خطيرة، شهادة يقدِّمون فيها حالةً من التزييف، يحاولون أن يفلسفوا، وأن يبرروا، وأن يقدِّموا ما يقنع السذج من الناس لصالح الباطل، ودعم الباطل، ودعم المواقف الباطلة، كم من أبناء الأمة شهدوا شهادة الزور لصالح أمريكا وإسرائيل، ولصالح عملاء أمريكا وإسرائيل، كم شهد للنظام السعودي شهادة الزور والنظام الإماراتي من أبناء الأمة: من سياسيين، من مثقفين، من… شهادة الزور قد تكون بشكل فلسفي، قد تكون بشكل فتوى تصدر داعمة للباطل، للظلم، تدعم المتولين لأمريكا وإسرائيل من أبناء الأمة الذين هم في خط النفاق، وتبرر لهم اتجاههم الباطل الذي لا ينسجم بأي شكل من الأشكال ولا يتفق نهائيًا مع القرآن الكريم، قد تكون شهادة الزور بشكل مقالة لإعلامي، مقال معين يتجه بهذا الاتجاه، يشهد بالزور، بالباطل، يساند الباطل، يساند أولئك المعتدين، الظالمين، المجرمين، الذين يلعبون دورًا نفاقيًا وتخريبيًا في داخل الأمة، الذين خالفوا كتاب الله في نهيه عن تولي أعداء الأمة، فكانوا متولين بشكلٍ واضحٍ وصريح لأعداء الأمة، ولاء المحبة، ولاء الموقف، ولاء المعية، ولاء النصرة، ولاء الاتجاه، ولاء الهدف… الولاء في كل أشكاله واتجاهاته، كثير من الإعلاميين- إلا من رحم ربك- كثير منهم يشهدون شهادة الزور بشكل يومي، كل يوم وله تعليق إعلامي يشهد فيه شهادة زور، أو كتابه، أو تغريده على الشبكة العنكبوتية في مواقع التواصل، كل يوم يمارس شهادة الزور شهادة الزور شهادة الزور شهادة الزور.
شهادة الزور خطيرة جدًّا– كما قلنا- فيها افتراء، وفيها مساندة بالباطل لمبطل، لظالم، فيها ظلم لطرف معين، أنت تجني عليه، وأنت تفتري عليه، وأنت تساند من يظلمه، تسانده بكلامك، تؤيده بكلامك، والظالم ذاك قد يُلحِق بهذا المظلوم ضررًا إما في حياته، فتكون شريكًا في وزره، لاحظوا أين تصل بالإنسان شهادة الزور، أو يظلمه في حقه: حقه المادي، أو حقه المعنوي.
أما القضايا الكبرى، قضايا الأمة الكبرى تجتمع فيها كل أشكال المضرة: القتل للناس بغير حق، التدمير لممتلكاتهم ومقتنياتهم ومنازلهم ومدنهم ومصالحهم العامة، الأضرار الاقتصادية، إهلاك الحرث والنسل، كل أشكال الضرر، ويصبح الإنسان شريكًا في ذلك بكله، ويلقى الله يوم القيامة وهو محمل بوزر كبير، وإثم عظيم، وجرائر وتبعات رهيبة جدًّا أوصل نفسه فيها، بماذا؟ بشهادة الزور، كم من علماء السوء يشهدون الزور، ويكذبون على الله، يفترون على الله الكذب، ومن أكبر الجرائم التي تحدث عنها القرآن الكريم: (افتراء الكذب على الله)، علماء السوء يفترون على الله الكذب، ويقفون إلى جانب الطغاة والجائرين والظالمين والمنافقين، يناصرونهم بفتاوى باطلة، هذه شهادة زور كبيرة، الفتوى الباطلة شهادة زور كبيرة، فظيعة، شنيعة، رهيبة جدًّا، فيها إساءة إلى الله- في الوقت نفسه – وفيها ظلم للناس، وفيها مساندة للطغاة والجائرين.
اليوم الكثير من الإعلاميين بحاجة إلى أن يعوا ويلتفتوا إلى خطورة أن يكونوا من شهود الزور، ممن يشهدون الزور، كثير من علماء السوء عليهم أن ينتبهوا، أن يراجعوا أنفسهم، كثير من المثقفين عليهم أن يراجعوا أنفسهم، والكل من أبناء الأمة عليهم أن يكونوا حذرين في كل المستويات وبكل الأشكال.
ثانيًا: نفوسهم كريمة تترفع عن السفاسف
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}، (كِرَاماً): مترفعين، ولا يكونون- في العادة- يتنزلون بأنفسهم إلى مستوى المناكفات، والمشاققات مع السفهاء… لديهم اهتمامات كبيرة، ونفوس كريمة تترفع عن السفاسف، تترفع عن المشاققات التافهة، تترفع عن الانشغال بالمناكفات التافهة، ولديهم اهتمامات كبيرة وقضايا كبيرة ونفوس كريمة.
ثالثًا: يتأثرون بآيات الله وتوجيهاته
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}، وهذه الآية آية عظيمة ومهمة جدًّا. نحن كمتجمعٍ مسلم، أهم وأعظم وأول وأكبر ما ينبغي أن نتأثر به في أفكارنا، في ثقافتنا، في نظرتنا، في اتجاهاتنا العملية، في مواقفنا، في ولاءاتنا، في عدائنا، في مسار حياتنا بكله، أهم، أعظم، أول ما يجب أن نتأثر به هو ماذا؟ آيات ربنا، كتابه، كلماته، توجيهاته، هذا هو الشيء الطبيعي لنا كأمةٍ مسلمة، فهل هذا هو الواقع؟ هل كلٌ منا في هذه الأمة كمسلم يحمل هذا التوجه، واتخذ قرارا بهذا، أن يعود تجاه القضايا، الأمور، المواقف، الأعمال إلى القرآن الكريم، إلى رؤية القرآن الكريم، إلى ثقافة القرآن الكريم، إلى توجيه الله في القرآن الكريم؟
أولًا عندنا أزمة في هذه المسألة نفسها، في اتخاذ قرار جاد، وفي أن يكون هناك توجه فعلي للعودة الجادة إلى القرآن الكريم، للارتباط الوثيق به في حياتنا، ومواقفنا، وتوجهاتنا بكلها، هناك مشكلة حقيقية في ذلك، كم من السياسيين يمكن أن يكون لديهم هذا التوجه، أو أن أكثر السياسيين يبحث له عن أفكار سياسية وقناعات سياسية وتوجهات سياسية يبنيها على اعتبارات، وعلى مسارات، وعلى معطيات، وعلى أفكار من هناك وهناك وهناك، كم تطلَّع الساسة في مجتمعنا الإسلامي نحو الغرب ونحو الشرق لاستيراد فلسفات وأفكار وتوجهات ونظريات للاعتماد عليها في بناء واقع حياة هذه الأمة بكله، وصلوا إلى هذه الدرجة، كثير من الساسة، ولا يزال الكثيرون لديهم هذا التوجه، الاتجاه باهتماماتهم شرقًا وغربًا، إلى الغرب، إلى أمريكا وإلى دول بعيدة، إلى اتجاهات بعيدة، للبحث عن نظريات وأفكار بعيدة كل البعد عن هوية مجتمعنا الإسلامي، لماذا؟ ليُبنى عليها واقع وحياة مجتمعنا الإسلامي في كل شؤونه.
كم يتجه القادة والساسة والحكام ويتطلَّعون في المواقف والخيارات إلى ما عليه أمريكا، حتى أصبحت قبلتهم في اتخاذ القرار وفي تحديد الموقف، وهذا من أهم ما كان ينبغي الرجوع فيه إلى القرآن الكريم، إذا نحن أمة مسلمة نريد أن نتخذ موقفًا معينًا، أو قرارًا معينًا، أول ما يجب أن نرجع فيه إلى ماذا؟ إلى القرآن الكريم، إذا كنا أمة جادة في الاهتداء بكتاب الله، في الإتباع لكتاب الله، في التمسك بكتاب الله، يتجهون إلى من، بدلًا من كتاب الله، بدلًا من آيات ربهم؟ بدلًا من آيات ربهم يتجهون إلى ترامب، إلى نتنياهو، يتجهون إلى أمريكا، يتجهون إلى إسرائيل، يتجهون إلى الغرب، ما هو الموقف وأين هو التوجه، وما هو القرار، فيعتمدون عليه.
لاحظ كم في الساحة العامة، في التوجه العام، كم هناك من غفلة كبيرة وغياب- إلى حد كبير- لدى الكثير، غياب تام عن هذا التوجه أصلًا، القرآن مهجور، آيات الله مهجورة، الإعلامي يفكر بعيدًا عن القرآن، السياسي يفكر بعيدًا عن القرآن، الاقتصادي يفكر بعيدًا عن القرآن، المتمدن والمتحضر على النمط الغربي يفكر بعيدًا عن القرآن، بل البعض لديهم نظرة سلبية تجاه القرآن الكريم، نظرة سلبية بكل ما تعنيه الكلمة؛ إما لأن البعض يتخيل ويتصور أن صناعة القرآن هي النمط التي رأى عليه- مثلًا– التكفيريين، أو نحوهم من وعاظ السلاطين، وجه آخر من الوجوه السلبية. لا. ثم تأتي إلى السلوكيات، الاتجاهات العامة، الولاءات والعداوات، كما قلنا ما يرتبط به مصير الأمة، وما يرتبط به واقعها من خيرٍ وشر، ومن عدلٍ وظلم، أُقصي القرآن عنه نهائيًا.
فهناك أزمة حقيقية في العلاقة ما بين كثيرٍ من أبناء الأمة وبين القرآن الكريم.
القرآن يصنع الفكرة ويحدد لك الوجهة
العلاقة السليمة والصحيحة للأمة، العلاقة المفترضة لها ما بينها وبين القرآن هي: علاقة الاهتداء، الله قال عن القرآن: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة: من الآية2]، الاهتداء، القرآن يصنع لك الفكرة، يصنع لك النظرة، يحدد لك التوجه، يرسم لك المسار، يحدد لك الأسس التي تبني عليها موقفك وقرارك واتجاهك، هذا شيء غائب لدى الكثير من الناس، كم هناك من مفاهيم كثيرة، كثيرة وكثيرة جدًّا لا تنسجم مع القرآن الكريم، تخالفه، والكثير من الناس يتشبث بها، مفاهيم سياسية، مفاهيم عامة، مفاهيم ثقافية، مفاهيم دينية… تختلف كليًا عن القرآن الكريم، متى تقبل الأمة بأن تكون رؤية القرآن فوق كل رؤية؟ وأن تكون مفاهيمه هي المفاهيم التي تعتمد عليها، وتتخلى- بكل رحابة صدر، بكل قناعة- عن أي مفاهيم مخالفة للقرآن الكريم، عن كل توجهات مخالفة للقرآن الكريم؟ متى يقتنع الكثير من الناس أن يبني موقفه وولاءه وعداءه على أساس القرآن الكريم، حتى يكون محقًا، وحتى يكون عادلًا، وحتى لا يكون ظالمًا وفي صف الطاغوت في هذه الحياة؟!.
هناك مشكلة حقيقية في واقع الأمة، ولكن الكثير من أبناء الأمة- ربما- لم يُذكَّروا، وإذا ذُكِّر الإنسان فينبغي أن يتذكر، إذا ذُكِّرت بآيات الله، آيات قرآنية تذكرك بموقفٍ أنت مفرطٌ فيه، تَذكرُك هو الرجوع العملي والاهتمام العملي، إذا ذُكِّرت من خلال القرآن الكريم تجاه مواقف، أو أعمال، أو تصرفات خاطئة، منحرفة، فالتذكر هو التفاعل العملي والاستجابة العملية التي نتجت عن انتباهك، بمجرد أن عرفت من خلال تلك الآية القرآنية أن هناك مسؤولية أنت مقصرٌ فيها انتبهت، فاتجهت باستجابةٍ عملية، أو موقف خاطئ أنت فيه انتبهت، ورجعت عن ذلك، أو تصرفات خاطئة، أو أفعال خاطئة، أو مساوئ أخلاق أنت تعملها، أو مكارم أخلاق أنت مُقصِّرٌ فيها، حالة التذكر هي حالة انتباه، رجعت فيها عمليًا إلى ما ينبغي عليك أن تعمل، والتزمت فيما ينبغي أن تترك.
لنتذكر من هو مصدر هذه التوجيهات؟!
التذكر: حالة من التفاعل التي يُبنى عليها استجابة، هذا ما يفتقر إليه مجتمعنا المسلم. أولًا، عندما نتذكر مصدر هذه الآيات، {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}[الفرقان: من الآية73]، (بِآيَاتِ رَبِّهِمْ)، مصدر هذه الآيات والتوجيهات والأوامر، والنور الذي يعطينا البصيرة تجاه واقع الحياة بكله والتقييم الصحيح، مصدر هذه الآيات هو الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية: من الآية6]، ما أتعسنا وما أشقانا عندما نتأثر بكلام سخيف، مصدره مَنْ؟ أحيانًا مصدره إعلامي ساذج، منافق تافه، بائع ومشتري، أُعطي قليلًا من المال ليتحول إلى بوق ينفخ فيه الشيطان، وينفخ فيه الدجَّالون، فيصل صداه إلى الكثير من الناس الذين يتأثرون به ويتفاعلون معه، ما أتعس البعض، وما أشقاهم، وما أغباهم عندما يتأثرون- أحيانًا– بكلام، أو موقف مصدره مَنْ؟ ضال، مضل، مجرم بكل ما تعنيه الكلمة، من التكفيريين، أو من قوى الطاغوت، أو من عملاء أمريكا، ما أتعس البعض وأشقاهم عندما يتأثرون بما مصدره متفلسف يهودي، أو متفلسف من الغرب الكافر يقدِّم نظرية معينة، أو فكرة معينة؛ فيسارعون إلى التأثر بها، والاتباع لها، والتمسك بها.
مصدر القرآن الكريم، مصدر آياته وكلماته هو مَنْ؟ الله، هي آياته، وهي كلماته، الله رب السماوات والأرض، ملك السماوات والأرض، أحيانًا قد يكون للكلام ثقله وتأثيره؛ لأن الناس ينظرون إلى أنه من جهة معتبرة: ملك، زعيم، قائد، سياسي معين، شخصية بارزة في الساحة، أو شخصية يروَّج لها في الساحة تحت أي عنوان من العناوين، يروَّج له بصفة هيئة كبار العلماء، أو المفتي، مفتي المملكة، أو إمام المسجد النبوي، أو زعيم، أو قائد، أو رئيس، أو مدري أيش، أو صفة معينة… ثقل تلك الجهة في نظر الناس وفي ذهنياتهم يجعلهم يتأثرون بما يصدر منها من كلام، ويتفاعلون معه، حتى أن البعض من الزعماء- أصلًا– لا يمتلكون لا خلفية ثقافية، خاصة في واقعنا العربي، في واقعنا العربي الكثير من الزعماء بالكاد يستطيع أن يقرأ كتابًا كُتِبَ له، أو كذلك يعني محاضرة، أو كلمة، أو بيانًا كُتِبَ له، بالكاد يستطيع أن يقرأه، ثم ترى البعض ينبهر به، يشخر فيه، ويتأثر به!.
على كُلٍ، إذا كان ما يؤثِّر فيك أنك ترى في مصدر ذلك الكلام ما ترى فيه- من وجهة نظرك، وفي ذهنيتك، وفي نفسيتك- أنه من مصدر ثقيل مهم، مصدر القرآن هو الله، رب السماوات والأرض، رب العالمين، ملك الناس، من بيده الدنيا والآخره، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام,، نأتي إلى بقية الأسماء الحسنى، الذي الأرض له والسماوات له، والذي بيده الدنيا والآخرة، بيده حياتك وموتك أنت وكل البشر، وهكذا بيده جلَّ شأنه رزقك، مستقبلك، مصيرك، حسابك، كل شيء إليه، الله العلي العظيم، الله الذي هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، الذي هو: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الذي هو: الخالق، البارئ، المصور، الذي له الأسماء الحسنى، فالله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى ملك هذا العالم، ملك هذا الكون بكله، ورب العالمين، ألا يكفي هذا في أن تدرك أهمية كلامه، أهمية توجيهاته؟ والذي لا يأتي إلا بالحق، ما هو منه فهو حقٌ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[فصلت: من الآية42]، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}[الأنعام: من الآية115]، وما يأتي إلينا يأتي من منطلق رحمته بنا، هو ربنا الرحيم بنا، هو أرحم الراحمين، هو الرحمن الرحيم.
أما ما يأتي من الآخرين، من كثير ممن نتأثر بهم، من: ملوك، وأمراء، وزعماء، ورؤساء، ومضلين، من الفئات التي هي أبواق للباطل، من: إعلاميين، ومثقفين، وعلماء سوء… ما يأتي من جانبهم: باطل، ضلال، تزييف للحقائق، خداع، من منطلق أهوائهم، من منطلق أطماعهم، من منطلق طغيانهم، من منطلق حقدهم، من منطلق إجرامهم، من منطلق فسادهم.
فكيف نترك ما مصدره الله ويأتينا بمقتضى رحمته، لصالح مَنْ؟ لصالح التأثر بما مصدره طواغيت، وضالون، ومجرمون، وفاسدون، وو…الخ. ومنطلقه حقدهم، ضغائنهم، كيف نترك ما مصدره الله وهو بدافع حكمته، ونتقبل جهالات، وما يأتينا من جهة آخرين، فيما هو لا بمقتضى حكمة، بل- أحيانًا– قد يكون عكس الحكمة نهائيًا، اعتبارات خاصة، أنانيات، أطماع وأهواء ودجل وبهتان، كيف نترك ما هو من الله وفيه كل الخير لنا؛ لأن الله غنيٌ عنا بالكامل، لا يستفيد ولا بنسبة واحد بالمائة مما يرشدنا أن نعمله، غنيٌ عنا، خلق الخلق وهو آمنٌ من معصيتهم، وغنيٌ عن طاعتهم، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه، لا يتأثر بشيء، حتى الدين بكله الله غنيٌ عن دينه، تعال إلى الدين بكل ما فيه، هل إذا لم نلتزم بشيءٍ منه سيتضرر الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى؟ |لا|، هو لنا، رحمة بنا، خيرٌ لنا، يقول عنه في كل تفاصيله تلك: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، يأمرنا بالجهاد يقول: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، يوجهنا إلى أشياء كثيرة فيقول: {خَيْرٌ لَّكُمْ}، {خَيْرٌ لَّكُمْ}، {خَيْرٌ لَّكُمْ}، يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا}[الجاثية: من الآية15]، {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}[العنكبوت: من الآية6]، خير لنا، وهو غنيٌ عنا، أما الآخرون من: طواغيت، وضالين، ومجرمين، فهم يدعوننا إلى ما هو خسارة علينا، وشر لنا، ولمصلحتهم هم، يرون فيه مصلحة لهم.
كيف لا نستحي من الله؟! كيف لا نخجل من الله أن نعرض عن توجيهاته، عن هديه، عن نوره، أن نحاول أن نتجاهل؟ البعض لا يتحمل حتى أن يسمع، حتى أن يصغي لهدى الله، بينما يكاد يلصق أذنيه بالتلفاز إذا كان يسمع باطلًا وزورًا وضلالًا وضياعًا وخسرانًا.
المعيار الأهم.. التفاعل مع هدى الله
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، آيات ربهم التي هي الحق، والنور، والهدى، والخير، والفلاح، والبصائر، التي فيها: الخير، والرحمة، والفلاح، والعزة، والكرامة، والسعادة في الدنيا والآخرة؛ التي فيها: السلامة من الضلال، والخزي، والهوان، والشقاء، {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}، لا يتعاملون معها وكأنهم صمٌ لم يسمعوا، وكأنهم عميٌ لم يبصروا، الكثير من الناس يفعل هكذا مع آيات الله، على حسب تعبيرنا المحلي (يتصينج)، كأنه ما سمع، هذه قضية خطيرة، كأنه لم يسمع، وكأنه لم ير، ويتجه في الاتجاه الذي تميل به فيه: شهواته، آراؤه، رغباته، أو حسب تأثيرات الآخرين (بعدهم كيف ما جاء)، هذه قضية خطيرة جدًّا.
من أهم العلامات الإيجابية في الإنسان هو هذا المعيار: تفاعله مع هدى الله، هذا معيار مهم وأساسي، القرآن الكريم يقول: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}[الأعلى: 9-13]، (سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى): من قلبه حي، {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً}[يس: من الآية70]، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}[الأنعام: من الآية122].
(سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى): من قلبه يتفاعل مع الله، يخشى الله، أما الشقي، الخائب، الخاسر، الهالك، لم يعد ينفع فيه حتى هدي الله، ولم تعد تؤثِّر فيه حتى كلمات الله، حتى كلمات الله لا يعتبر بها، ولا يتذكر بها، ولا ينتفع بها، ولا يتفاعل معها، الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}[الكهف: الآية57]، الإنسان إذا وصل إلى درجة أن يُذكَّر بآيات ربه تجاه أي قضية، أي موضوع، أي مسألة مهمة، أي مسؤولية مهمة، أي عمل مهم، أن يُذكَّر بما ينبغي عليه أن يعمل، أو يُذكَّر بما ينبغي له أن يترك، إذا ذُكِّر بما ينبغي له أن يفهمه وأن يعرف به؛ لكي يكون مستبصرًا في هذه الحياة، فلم يتفاعل، ولم يتذكر، ولم يقتنع، ولم ينتفع، فالمسألة ما هي؟ أنه قد خُذِل، هو في الوقت الذي لم يعد يتأثر بهدى الله، ولا يتفاعل مع كلمات الله، كلمات الله رب العالمين، رب السماوات والأرض، كلمات الله التي هي الحق والهدى والنور والتامة في صدقها وعدلها، هو في الوقت نفسه يتفاعل مع مجرمين، مع تافهين، مع أبواق الضلال، مع دعاة السوء، والبهتان، والزور، والباطل، والدجل، والضلال، والافتراء، يتفاعل معهم، يتفاعل مع ما صدر منهم، يتأثر بما هو منهم، معناه: (خُذل)، مخذول، معناه وصل إلى هذه الحالة، لا أظلم منه، ولا أسوأ منه في هذه الحياة، كيف يتنكر لله، ويتأثر بطغاة ومجرمين ومضلين وتافهين، كيف لا يتفاعل مع ما صدر من الله من الهدى والنور والحق الذي ينفع ويفيد، ويتفاعل مع ما صدر من آخرين، أبواق الضلال من الطواغيت والمجرمين، وما صدر منهم، (وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح) صدر من واقع ما هم فيه من: طغيان، وإجرام، وسوء، وحقد، وفساد…الخ. خُذِل، لا أظلم منه، وسيكون في حياته ظلومًا، في مواقفه ظلومًا، ميَّالًا إلى الظلم والظالمين، ميَّالاً إلى الطغاة وطغيانهم، ضد الضعفاء، وضد المستضعفين، وضد المحقين، وضد الاتجاه الإيجابي في هذه الحياة، منحرفًا عنه، لا أظلم منه، تنكر لله، وخضع للطاغوت، وتقبَّل من دعاة الشر.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ}[الكهف: الآية57]، ربه الذي خلقه، الذي رزقه، الذي أنعم عليه، الذي منه كل نعمة، والذي منه كل خير، الذي يصل منه كل الخير إليه، ثم يتنكر له، {بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}، تجاهلها، ابتعد عنها، لم يعمل بها، ولم يلتفت إليها، ولم يعتمد عليها، واتجه إلى بدائل، ممن؟! بدائل ممن؟! اسأل نفسك، اسأل نفسك! يا سياسي، يا مثقف، يا عالم السوء، يا متأثرًا بالآخرين في الشرق والغرب، اسأل نفسك بدائل ممن؟! أحيانًا يهودي متفلسف له مدري من أين، وهو متأثر به.
{فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، لا يلتفت إلى تصرفاته وإلى أعماله التي ينطلق فيها بعيدًا عن آيات ربه، فإذا به يتصرف تصرفات سيئة، يتجه اتجاهات خاطئة في مواقفه، في ولاءاته، في عداواته، في كتاباته، في أقواله، في أعماله، يتجه اتجاهات خاطئة ومنحرفة، {فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، هذه الفئة التي خُذلت، ووصلت لهذه الدرجة من الخذلان {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أصبحت مغطاة، {أَن يَفْقَهُوهُ}، ما يفهم هدى الله فهم العامل، المتقبل، المتأثر، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}، أصبح أصمًا عن تقبل الهدى، فكأنه لا يسمعه نهائيًا، مثلما لو لم يسمع، إذا ذكَّرته كأنه لم يسمع أبدًا، يُعرض، يبرر، يتهرب… وهكذا. {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}.
يقول الله في آيةٍ أخرى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ}[الجاثية: الآية7] كذاب ومفتري، بوق للشيطان، صوت للباطل والافتراءات والأكاذيب والتضليل، {أَثِيمٍ} يعمل بالإثم، واتجاهه خاطئ في هذه الحياة وآثم {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}[الجاثية: من الآية8]، {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[لقمان: من الآية7]، يسمع آيات الله تتلى عليه، ليُذكَّر بها، فلا يتقبل، ولا يتفاعل، ولا ينتصح، ويصرُّ على موقفه، على اتجاهه الخاطئ، بكبر، بأَنَفَة من أن يتقبل الحق الذي دلَّت عليه آيات الله، وبيَّنته آيات الله، {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، إن الله سيعذب ويعاقب كل المعرضين عن كتابه في الدنيا بالخذلان، وبكل ما ينالونه من سوء وشر وعناء فيما هم فيه من باطل، وإضافة إلى عقوبات كثيرة، أما في الآخرة بجهنم “والعياذ بالله”، {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}[الأعلى: 10-11]، يتجنب الذكرى، فلا يعتبر، ولا يتقبل، ولا ينتفع.
عباد الرحمن يتقبلون هدى الله ويتأثرون به
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}، هم يتقبلون، هم يتفاعلون، هم يتأثَّرون، ولاحظوا الكثير من الناس يغفل عن اتخاذ قرار- هذه أول نقطة- اتخاذ قرار بالعودة إلى القرآن، الاهتداء به، الإتباع له، التمسك به، هذا أول خطوة في الطريق، نحن في مرحلة خطيرة جدًّا، مستوى الاستقطاب فيها لقوى الطاغوت، أمريكا وإسرائيل تشتغل بشكل كبير جدًّا، 90 % من النشاط الأمريكي والإسرائيلي الذي يخترق الأمة هو نشاط استقطابي بكل الوسائل، نشاط مكثف جدًّا على المستوى الإعلامي والتثقيفي والتعليمي، للتأثير على آرائنا، على أفكارنا، على توجهاتنا، لصنع ولاءات، وعداوات، ومواقف، واتجاهات لدينا، ونشاط أيضًا بالإغراء والتخويف: بالإغراء المادي، والتخويف بالقمع والجبروت والاضطهاد، نشاط كبير جدًّا تعتمد فيه أمريكا على مَنْ؟ على أدوات، على أذرعه، كم هناك من الإعلاميين الذين يشتغلون في نفس الاتجاه الذي رسمته أمريكا، كم هناك من علماء سوء؟ كم هناك من مثقفين؟ كم هناك من زعماء وقادة وأمراء وملوك؟ كم أموال تُبذل؟ كم أنشطة تشتغل؟ كم وسائل إعلامية تتحرك في هذا الاتجاه؟ كم وكم وكم، أمام هذا الكم الهائل جدًّا الذي يتجه نحو الاستهداف لنا، وبهدف التأثير علينا في آرائنا، في تفكيرنا، في مواقفنا، في ولاءاتنا، في عداواتنا، في اتجاهاتنا، في قراراتنا، أمام هذا الكم الهائل الذي يتجه إليك بأصوات مختلفة، وبأشكال متعددة، وبلغات متعددة، بمضامين متنوعة: مضمون سياسي، مضمون تحت العنوان الديني، مضمون بكل الأشكال والعناوين، إغوائي، وإغرائي…الخ.
يجب أن نحتمي بالقرآن لنحافظ على إنسانيتنا
نحن بحاجة إلى أن نهتدي بالقرآن في هذا الزمن، وأكثر من أي زمن مضى، أن نحتمي بهديه، نحمي أفكارنا، نحمي رؤيتنا، لا نكون ضحية للتضليل، نحمي أنفسنا بنوره من كل الظلمات، ومن كل الظلاميين، الهجمة الظلامية دامسة وكبيرة جدًّا، صوَّرها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” قبل وفاته، (كَقِطَعِ الليلِ المُظلِم)، هذه الفتن القادمة على الأمة من بعد وفاته إلى اليوم- وهي اليوم أكثر وأقوى- كقطع الليل المظلم، هذه الهجمة الظلامية السوداء المعتمة جدًّا، لا يكشفها إلا نور القرآن، إلا بصائره، إلا هديه، لا بد أن نرجع إليه، لنستضيء به، نحمي أفكارنا، نحمي ثقافتنا، نحمي رؤيتنا من تلك الهجمة الظلامية المعتمة والسوداء، والقاتمة والشديدة جدًّا.
ثم نحمي أنفسنا من الإفساد، وسائل الإفساد كثيرة: الإفساد الأخلاقي، الإفساد النفسي بشراء الذمم، اليوم أكبر سوق شهدها العالم للرق والعبودية بالأسلوب الجديد، الإنسان اليوم يُشترى في موقفه، في الماضي كانوا يشترون الإنسان ليعمل لهم في الزراعة، وليعمل لهم في التجارة، وليقدِّم لهم بعض الخدمات: يقرب لهم طعامهم، يجهز لهم طعامهم، يقدِّم لهم بعض الخدمات الهامشية، رق اليوم والعبودية في هذا الزمن لها شكل أخطر بكثير من العبودية والرق في الزمن الماضي، الإنسان اليوم يُشترى في موقفه، في ولائه، في عدائه، في قتاله، يُشترى ليقاتل، يُشترى ليعادي، يُشترى ليوالي، يُشترى ليتحرك بوقًا ينفخون فيه بالباطل، والدجل، والافتراء، والزور، والتضليل، والخداع، يُشترى الإنسان ليعمل لاستقطاب الآخرين، تُفسد ذمته، تُشترى نفسه، يُشترى موقفه، اتجاهه، استعباد بشكل خطير جدًّا، ما الذي يحميك من ذلك؟ هو القرآن.
القرآن يحمينا على المستوى الأخلاقي، على المستوى القيمي، يربينا تربية إنسانية فعلية، يحفظ لنا إنسانيتنا، كي لا نتحول في هذه الحياة كالأنعام، والكثير من الناس- للأسف- يتحوَّلون كالأنعام، حتى إلى درجة أن يفقدوا الاستفادة من سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، لا يسمعون، لا يستفيدون من المتغيرات والأحداث، ولا مما يشاهدونه في هذا العالم، ولا ينتفعون ولا يتأثَّرون مهما كان حجم الأحداث الواضحة والبيِّنة- واسمحوا لي يعني اليوم باقي معنا محاضرة اليوم ومحاضرة للغد، إذا طولنا شوية لا تحمسوا علينا- المسألة مسألة مهمة، مسألة مهمة ومسألة حسَّاسة، القرآن بنوره، بهديه، ببصائره يحمينا من الاستقطاب، من التضليل، من الإغواء، التضليل الثقافي الفكري، ويحمينا أيضًا من التأثير بالإفساد للنفوس، القرآن كتاب تزكية، يزكي النفوس، حتى تبقى نفوسًا زكية، طاهرة، سامية، شريفة، عزيزة، كريمة، يربينا على مكارم الأخلاق، يصوننا في أفعالنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا من الأشياء السيئة والمخزية والمهينة، التي تفسد الإنسان.
أعداؤنا يريدون إفسادنا لماذا؟ هل حبًا فينا؟ هل من أجل أن نستمتع في هذه الحياة ونرتاح؟ لا؛ لأنهم يرون في إفسادنا وسيلة سهلة للسيطرة التامة علينا والتحكم بنا، يصبح الإنسان عبدًا بكل بساطة، مستغلًا بكل سهولة، مهينًا وذليلًا وحقيرًا ومستغلًا بقناعة، يتجه في صفهم بقناعة إذا فسد، أو ضلّ فكريًا، سياسيًا، يمكن أن يكون أداة سهلة بأيديهم: قلمًا لهم يكتب، أو صوتًا لهم في وسائل الإعلام بكل بساطة.
القرآن- كما نبَّه الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”- هو الذي يحمينا، (مَن ابتَغَى الهُدَى فِي غَيرِهِ أَضَلَّهُ الله)، مصدر الهداية، مصدر النور، يجب أن نحرص إلى العودة الجادة إلى القرآن، شهر رمضان فرصة عظيمة لترسيخ وتعزيز هذه العلاقة وهذا الارتباط بالقرآن؛ لكي تكون علاقة مستمرة، علاقة المهتدين، علاقة المتبعين، علاقة المتنورين بهذا النور، كم هناك من المفاهيم الظلامية التي أصبحنا بها في واقع أمتنا في حالة رهيبة من الضياع، ضعنا بمفاهيم ظلامية كثيرة: سياسية، ثقافية، دينية محسوبة على الدين وليست منه…الخ. كم هناك وهناك.
القرآن يجب الرجوع إليه، والتفاعل معه حينما نذكَّر به، في كل المسائل، في كل القضايا، في كل الاتجاهات، الجوانب السلوكية، كل السلوكيات المنحرفة التي تخالف القرآن حينما تُذكَّر تجاهها كُفَّ عنها، كل الأخلاق التي يدعوك إليها القرآن إسعَ للالتزام بها، لا تتجاف على وجهك أصمًا وأعمى، كأنك لا تسمع حينما ذُكِّرت بالآيات.
الموسوسون وضرورة الاستعاذة منهم
لا تكن أسيرًا في هذه الحياة للموسوسين، { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}[سورة الناس]، ما أكثر الموسوسين في هذا الزمن، وما أكثر وسائلهم، اليوم صاروا متطورين، الموسوسون في صدور الناس لديهم قنوات فضائية، لديهم إذاعات، لديهم مجلات، لديهم مواقع هائلة ونشاط هائل في الشبكة العنكبوتية، في الإنترنت، في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، الموسوسون اليوم نشاطهم كبير جدًّا، {مِنَ الْجِنَّةِ}، والجِنَّة قد يكونون قد طوَّروا وسائلهم في الوسوسة والتأثير على الإنسان، {وَ النَّاسِ}، والنَّاس، افهموا يا أخوة ويا أخوات، هناك موسوسون من الناس، هذا ما يقوله الله لنا بصريح العبارة: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}، ما أكثر الموسوسين من الناس، يوسوس لك، يزين لك المعصية، يوسوس لك، يزين لك الموقف الخاطئ، الاتجاه الخاطئ، الولاء في الاتجاه الخاطئ، العداء في الاتجاه الخاطئ، يوسوس لك فيدفعك إلى التصرف الخطأ، ينحرف بك عن تعليمات الله وتوجيهاته، نرجع إلى الله، نستعيذ به منهم، نقاطعهم، نقاطع وسائلهم، لا تجعل نفسك إنسانًا مفتوحًا، تأتي لتصغي فتكون سمَّاعًا للكذب، أو تدفع نفسك وتخضع نفسك لمشاهدة تلك القنوات السيئة، قنوات الإفساد قاطعها، قاطعها نهائيًا، أي قنوات مفسدة تستهدف زكاء نفسك لا تتفاعل معها، اقطع الطريق، مواقع على التواصل الاجتماعي، أنشطة من مراسلات عبر الجوالات أو غيرها، قاطع كل هذه الوسائل التي تؤثِّر عليك، لا تستخدم ذلك، لا تستخدم جهازك (الهاتف النقال) في هذه الأغراض السيئة، اتركه للأغراض النافعة للحياة فقط، احمِ نفسك، القنوات التي هي منابر للضالين والمجرمين والمضلين، قاطعها، اتركها.
على مستوى التضليل السياسي، إذا أنت غير مرتبط بعمل ترد فيه عليهم، أو معنيٌ بأمر عملي تتابع من أجله، ذو صلة بالتصدي لهم، إذا لم يكن لديك هذه المهمة، اتركه نهائيًا، لا تتابع قنواتهم، لا تسمع لمضليهم، ولا لمبطليهم، اجعل نفسك على ارتباط بقنوات الهداية، ومصادر الحق والخير، والاتجاهات الإيجابية الأقل ضررًا عليك في هذه الحياة، والأقل خطرًا عليك في هذه الحياة في توجهاتك، وأعمالك، ورؤاك، ومواقفك، أما ما هو للإفساد، تجنبه نهائيًا نهائيًا، ما به فيها مسألة لأجل ترد عليهم، والا مدري أيش، تجنبهم نهائيًا، وللتضليل إذا ليس لك علاقة بردود أو مواقف، اتركه، اتركه نهائيًا، لا يرتبط الناس بهم، أولئك الموسوسون يجب أن يحذر الإنسان منهم، أن يستعيذ بالله منهم، وأن يقاطعهم، الله يلوم السماعين للكذب، ويجعلها صفة سيئة حتى في بني إسرائيل {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}[المائدة: من الآية41]، لا تكن سمَّاعًا للكذب، يسمعه، يتأثر به، سمَّاعًا للباطل، يتأثر به، يتفاعل معه، حتى يكون تأثرك بهدى الله.
رابعًا: يسعون لصلاح نفوسهم وأسرهم
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}[الفرقان: الآية74]، لديهم حرص على صلاح أسرهم، فهم يدعون الله، وهم يسعون عمليًا إلى صلاح أسرهم: (الزوجة، الذرية)، حتى يكونوا مصدر سرور، يُسرون بهم حينما يكونون صالحين وفي الاتجاه الإيجابي، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}، قدوة يقتدى بنا للمتقين، قدوة في التقوى، متبوعين في التقوى، وفي طريق التقوى قدوتنا وهداتنا هم الرسل والأنبياء، ومن بعد الرسل والأنبياء، ومن بعد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” قدوتنا العظيم وأسوتنا العظيم الهداة الذين قد أعلنهم هداةً للأمة: الإمام علي “عليه السلام”، أعلام الهداية الذين حددهم لنا، ومن على طريقتهم، ومن على نهجهم متمسكًا بكتاب الله، مهتديًا بهدى الله، في طريق التقوى أعلامها هم المتقون والقدوة، يحرص الإنسان أن يكون قدوة؛ لأن مستوى القدوة في التقوى مستويات متعددة، مستويات على درجة كبيرة من التفاوت، يعني: فرق بين الإمام علي “عليه السلام” في موقع القدوة وبين شخص في واقع حياتنا اليوم في موقع القدوة، لكن يحرص الإنسان أن يكون مؤثرًا في الآخرين، دافعًا بهم في هذا الاتجاه، قدوةً لهم في مدى التزامه، ومدى اهتمامه.
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً}[الفرقان: الآية75]، الغرفة في الجنة، وعادةً تسمى غرفة معينة- مثلًا– داخل القصور، لها ميزة خاصة في تصميمها، في شكلها، في مستواها، تسمى بهذه التسمية في الاستخدام العربي، في أعلى قصور الجنة، في حسب الروايات أن هناك غرفًا في أعالي قصور الجنة على درجة عالية جدًّا من التصميم الإلهي والتهيئة الإلهية، يكون الإنسان مستقرًا فيها ضمن قصره، ليست المسألة مجرد غرفة في الجنة، لكن هذا على مستوى راقي جدًّا جدًّا، وكل هذا يحتاج إلى صبر، كل الالتزامات التي مرت تحتاج إلى صبر {بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً}، الملائكة تزورهم، آخرون، فيما بينهم يتزاورون، فيحظون بالتحية- بالدرجة الأولى- من الملائكة، تكريم كبير وعظيم جدًّا.
{ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً}[الفرقان: الآية 76]، أحسن مكان للاستقرار فيه، من حيث: الراحة، الأمن، الاطمئنان، وتوفر الاحتياجات، الرغبات، {وَمُقَاماً}، أحسن مكان للإقامة والسُكنى فيه.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم- في هذه الشهر الكريم- لنكون من المهتدين بكتابه، ممن {إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}، نسأله أن ينصرنا بنصره، أن يرحم شهداءنا الأبرار، أن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن يعافي مرضانا، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، إنه سميع الدعاء، وأن يكتبنا في هذه الشهر المبارك من عتقائه ونقذائه من النار، يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛