المحاضرة الثالثة لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى الهجرة النبوية 4 محرم 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
في سياق الحديث عن المعالم الرئيسية في الإسلام التي نجدها واضحةً وجليةً على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، وفي حركة رسول الله -صلى الله وسلم عليه وعلى آله- بالرسالة الإلهية في مسيرته بالإسلام، فيما سعى له ما قبل هجرته، وما بعد هجرته، لقد أسس رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ما بعد الهجرة لمرحلةٍ جديدة، تعتبر المرحلة التي ابتنى فيها كيان الإسلام والأمة الإسلامية، وبنى ذلك الواقع، ورسم ذلك المسار على أساس المبادئ والتوجيهات والقيم والأخلاق والتشريعات الإلهية، التي أتته من الله -سبحانه وتعالى- فيما نزل عليه به الوحي في كتاب الله، وفي التعليمات المباشرة التي كانت تصل إليه بالوحي من عند الله. وعندما نؤكِّد على ضرورة العودة، من واقعنا الذي نعيشه، بطبيعة التحديات والأخطار التي نواجهها، أن نعود كأمةٍ مسلمة للتطلع إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من موقعه في القدوة والقيادة والهداية، وإلى القرآن الكريم كمنهج؛ لأننا نعيش في واقعنا في حالةٍ رهيبة من التشويش، ومن التضليل، ومن المسارات المنحرفة والخاطئة، التي يراد للأمة أن تتيه فيها هنا وهناك، من أطرف متعددة، من جهات متعددة.
فنحن من واقع انتمائنا للإسلام، وبحكم هويتنا الإيمانية، يجب أن نعرف جيدًا أن الذي علينا، وأن الذي يصلحنا، وأن الذي ينقذنا، وأن الذي يفيدنا، وأن الذي به فلاحنا، وخلاصنا، ونجاتنا، وفوزنا، وعزتنا، وكرامتنا، وأن الذي يمثِّل الحل لنا فيما نعانيه من المشاكل هو العودة إلى الإسلام في أصالته: أصالته في منهج القرآن، وأصالته في حركة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- على أساس ذلك القرآن، هذا الذي يفيد، وهذا الذي نحمي به أنفسنا من كل محاولات التضليل والخداع.
المفاهيم الضالة التي تهدف لهدم أسس الإسلام
إنَّ الأمة الإسلامية اليوم تعاني معاناة كبيرة جدًّا، ومعظم أبناء هذه الأمة يعيشون حالة التيه بكل ما تعينه الكلمة، بمعنى: الابتعاد كليًا عن المسارات الرئيسية التي تنقذ الأمة، تصلح الأمة، تبني واقع الأمة، تمثِّل الحل لمشاكل الأمة؛ لأننا نعاني فيما يقدَّم لنا باسم الدين، باسم الإسلام نفسه، من مفاهيم مغلوطة، سعى الآخرون من: الطغاة، والمضلين، والمحرفين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم… سعى كل أولئك إلى الانحراف بنا من خلال تلك المفاهيم، والتدجين لنا- كأمة- لصالح الطغاة والمستكبرين والمجرمين، من خلال تلك المفاهيم المغلوطة، التي حُسِبت زورًا وبهتانًا على الإسلام، وعلى الرسول، وعلى القرآن، والرسول والقرآن كلٌ منهما بريءٌ من تلك المفاهيم الضالة والخاطئة.
اليوم، قُدِّم الإسلام للكثير من أبناء الأمة إسلامًا لا يحق حقًا، ولا يبطل باطلًا، ولا يثمر عدلًا، ولا يصلح واقعًا، ولا يبني أمةً؛ والنتيجة هي التي نراها في الساحة: أمة كبيرة، كثيرة العدد، دينها لا نظير لما قدَّمه في سبيل توحيدها، جعل وحدتها فريضةً دينية، جعلها واجبًا إسلاميًا، قدَّم لها من التشريعات والمبادئ والأسس ما يساعد على تحقيقها؛ فإذا بها أكثر الأمم في الأرض شتاتًا، وفرقةً، وتنازعًا، وتبعثرًا، وتفككًا، هل هذه حالة طبيعية؟ |لا|، هذه الحالة من التبعثر، من التفكك، من التنازع، من الاختلاف… كان وراءها عمل كبير، وكان وراءها أفكار هدَّامة، وكان وراءها مفاهيم مغلوطة، وكان وراءها مسارات منحرفة، شتتت الأمة وبعثرتها، إلى أن وصلت فيما هي عليه من بعثرة وتفكك إلى واقعٍ لا نظير له في أي أمةٍ من الأمم الأخرى، بينما يفترض أن تكون هي أرقى أمة على وجه الأرض في: تماسكها، ووحدتها، وتآخي أبنائها، وألفة أبنائها…الخ. لماذا غاب كل ذلك؟ كما قلنا: مفاهيم، مسارات، شغل كبير جدًّا أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه.
أمة أراد الله لها أن تبني واقعها، وأن ترسم مسارها في الحياة في كل شؤونها على أساس التحرر من الطاغوت، وعلى أساس الاستقلال من التبعية لكل قوى الضلال والباطل في هذه الأرض، وتبني واقعها، وترسم مسار حياتها على أساس تلك المبادئ، والقيم، والأخلاق، والتشريعات، والتوجيهات التي قدَّمها الله من رحمته، ومن حكمته، ومن علمه، وبعزته، وبقدرته… أراد الله لها أن تحمل مسؤوليتها في هذه الحياة بين أوساط البشرية؛ لتكون الأمة التي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، ولتكون الأمة التي تدعو إلى الخير، وتصلح في واقع البشرية، وتؤدِّي دورها في الواقع البشري بما فيه الخير للبشرية جمعاء. فإذا بها تفقد هذا الدور، وتتعطل هذه المسؤولية في واقعها، حتى في وضعها الداخلي، ما بالك بأن تكون مصلحة في واقع البشرية من حولها، أصبح الكثير من أبنائها أيادي هدم، وأذرعة إجرام بيد الطاغوت، يسخرون أنفسهم، ويسعون لتسخير الأمة بكلها لصالح الطاغوت، كما تفعل بعض الأنظمة اليوم لمصلحة أمريكا ولمصلحة إسرائيل، تسعى لتدجين الأمة، وتسخير هذه الأمة بكل قدراتها، وبمواردها البشرية والمادية، في خدمة أمريكا. مأساة، كارثة جدًّا، أمر فظيع، لا يستطيع إنسان أن يتخيل مدى فظاعة هذا الأمر، إلَّا من تدبر وتأمل واستوعب من خلال كتاب الله وسيرة رسول الله، ما كان يفترض أن تكون عليه هذه الأمة، وما كان ينبغي أن يكون عليه واقعها، وكيف ينبغي أن تكون في حملها للمسؤولية، وفي طبيعة دورها بين بقية البشر.
ولذلك، نحن نقول: يجب أن نعود إلى أصالة الإسلام في حركة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لنرى بكل وضوح كل أولئك المفضوحين بزيفهم، وما جنوه على الأمة من خلال ما يقدِّمونه من مفاهيم مغلوطة، جرَّدوا هذا الإسلام من مبدأ التحرر، من مبدأ الاستقلال، ودجَّنوا الأمة للطاغوت، ودفعوها نحو التبعية لأعدائها في كل شؤون حياتها، ثم جرَّدوها من الوعي، من النور، من الهدى، وجعلوها أمة تعيش حالة الأمية الرهيبة جدًّا، التي هي أخطر من أمية القراءة والكتابة، الأمية في الوعي: لا تمتلك الوعي لا تجاه واقعها، ولا مسؤوليتها، ولا دورها، ولا أعدائها، ولا الأحداث من حولها؛ فتصبح قابلة للتضليل بشكل كبير، حال الكثير من أبنائها هو على هذا النحو: قابلية عالية للتضليل والخداع، وانعدام- إلى حد رهيب- لمستوى الوعي والبصيرة، ثم جرَّدوها من مبدأ المسؤولية تجريدًا كاملًا؛ فأصبح الكثير من أبناء هذه الأمة يفهم أن الإسلام مجرد طقوس لا أقلَّ ولا أكثر، والبعض يزيد عليها شيئا من القيم الأخلاقية البسيطة (المحدودة)، وتضيع أشياء مهمة جدًّا، والكثير يعتبر نفسه غير معنيٍ بشيء: لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا إقامة حق، ولا إقامة عدل، ولا محاربة ظلم، ولا إصلاح وضع… ولا أي شيء، يعتبر نفسه غير معنيٍ بشيء، يصلي ويصوم ومن بيته وإلى المسجد، وخلاص وانتهى الأمر، من أين جاءت هذه المفاهيم، هل من عند رسول الله؟ معاذ الله! هل من القرآن الكريم؟ معاذ الله!
مساحة المسؤولية في القرآن الكريم
أوسع مساحة في القرآن الكريم في الجانب العملي تحدثت عن جانب المسؤولية، بأكثر مما تحدثت عن أي فريضة أخرى، الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، والجهاد في سبيل الله، ومقارعة الطغيان والاستكبار والظلم والفساد، المساحة التي ركَّزت عليه في القرآن الكريم أوسع بكثير بكثير مما تحدث القرآن فيه عن أي فريضة أخرى، سواءً عن صلاة، عن صيام، عن زكاة، عن حج، عن شعائر معينة أو عبادات معينة، والإسلام دين مترابط، إذا فصل جانبٌ منه عن الجوانب الأخرى؛ فَقَدَ ذلك الجانب المتبقي أثره في الحياة إلى حدٍ كبير، يبقى آثار ضئيلة جدًّا، ضئيلة للغاية، إذا فُصِل الجانب الروحي والتربوي منه عن جانب المسؤولية، وعن جانب المنهج العملي في الحياة؛ أصبح غير مجدٍ، وأمكن حتى استغلاله. يمكن للمساجد أن تستغل من قبل الطغاة؛ فتتحول منابرها إلى منابر تدجين، يمكن لشعائر الصلاة أن تتحول إلى مجرد عملية تجميع للناس ليحضروا إلى عند ذلك المُضِل الذي يرتقى المنبر ويصعد عليه ليبث أفكاره الظلامية؛ فيدجِّن الناس للطاغوت والاستكبار، ويخدرهم لتعطيلهم عن كل شعورٍ بالمسؤولية، يمكن- كذلك– لشعائر الحج أن تستغل بالقدر الذي استغلت عليه في زمن الجاهلية، يمكن لأي شعيرة دينية أن تستغل إذا فُصِل الجانب التربوي والروحي عن جانب المسؤولية، عن الجوانب الأخرى، عن الالتزامات العملية.
الصلاة ما هو المطلوب منها؟ فقط الحصول على الأجر؟ الحصول على الأجر يتأتى إذا أثمرت الصلاة ثمرتها، أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا كانت الساحة مليئة بالمنكر، وصلاتك هذه لم تربك تربيةً إيمانية، ترقى بك إلى أن يكون لك موقفٌ من المنكر، معناه: أنها صلاة عديمة الجدوى، غير مقبولة عند الله، غير مثمرة، وعليك أن تحرص كيف تكون صلاتك هذه مثمرة، ومرتبطة بواقع عملي. الدين مترابط، من يسعى لبتر هذا الجانب، أو لبتر هذا الجانب، أو التخلص من هذا الجانب؛ هو يجني على الدين بكله، على نفسه، على الأمة من حوله.
كذلك جانب المسؤولية لا يمكن الانطلاق فيه مع البعد عن الجانب التربوي والروحي والأخلاقي. |لا|، يتحول جانب المسؤولية- مجردًا عن الجانب التربوي والروحي- إلى ميدان- كذلك– ميدان يتحرك الإنسان فيه بكل قصور، لا يمتلك لا الروحية، ولا القيم التي تؤهله لأداء سليم ومستقيم، وبدافعٍ صحيح وسليم، يتحول- كذلك– إلى وسيلة للتسلط والاستغلال، فالترابط هذا في الدين هو ما عمل عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وبنى الأمة على أساسه.
المفهوم الواسع للمسؤولية
اليوم، نتحدث فيما يتعلق– أيضًا– بجانب المسؤولية، وجانب المسؤولية جانب واسع، واسع يشمل مجالات متعددة: المسؤولية في إقامة العدل والحق في الحياة، المسؤولية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قرأنا في المحاضرات الماضية قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ}[النساء: من الآية135]، تحدثنا عن هذه الآية المباركة، أيضًا قول الله -سبحانه وتعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران: من الآية110]، خيرية هذه الأمة، وما كان عليه أخيارها في الماضي هو بالالتزام بهذه التعليمات الإلهية: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، أخيار هذه الأمة في الماضي كانوا أخيارًا بهذه القيم، بهذه الالتزامات، بهذه التوجيهات الإلهية، ومدى التزامهم بها، الأمة بعدهم كذلك لن تكون خيِّرةً إلَّا بمدى التزامها بهذه؛ لأن الخيرية اقترنت بهذا: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}، من لا يسير في هذا الاتجاه حتى لو كان يعتبر نفسه من الأخيار: إما باعتباره بصفة عالم دين، أو يقدِّم نفسه بصفة عابد، أو بأي شكلٍ من الأشكال، كمصلح في هذه الحياة، أو أي شيء، أي عنوان آخر… ليس من الأخيار أبدًا، ليس من الأخيار من لا يتجه هذا الاتجاه، لا كشخص، ولا كمجتمع، ولا كأمة، بل يمكن للأمة- بتعطيلها لمسؤوليتها هذه، وابتعادها عن هذه التعليمات الإلهية- أن تتحول إلى أسوء أمة، بدلًا من أن تكون خير أمة، أن تكون أسوء أمة أُخرجت للناس، أمة قليلة الخير، ومتعطلة عن القيام والنهوض بمسؤولياتها، بما أتاح المجال لقوى الشر والفساد أن تطغى بفسادها وظلمها وإجرامها في هذا العالم.
كذلك المسؤولية المتعلِّقة بالجهاد في سبيل الله، الفريضة العظيمة المهمة، التي لابدَّ منها، لكي تتمكن الأمة من الاستقامة في السير على أساس منهج الله، وإلَّا ستُمنع هذه الأمة كأمة، أو أي مجتمع كمجتمع يسعى لأن يتحرك على أساس منهج الله، متحررًا من سيطرة الطاغوت، ومستقلًا من التبعية للاستكبار والطاغوت، سيُمنع، سيقاتَل، سيعادى إن أراد السير في هذا الاتجاه الذي يتناقض كليًا مع قوى الطاغوت والشر والإجرام والفساد في هذا العالم، سيمنع الناس؛ لأنه يراد لهم من قِبَل تلك القوى الشيطانية أن يكونوا خاضعين، أن يكونوا مذعنين، أن يكونوا مستسلمين ومستكينين، ثم أن يكونوا مستغَلين ومستعبَدين لقوى الطاغوت، ما الذي تريده أمريكا منَّا اليوم، إلَّا أن نخضع لسيطرتها بشكلٍ مطلق، إلَّا أن تستغلَّنا نحن كبشر، ومواردنا الاقتصادية، ومناطقنا، حتى على مستوى أراضينا، بكل شيء، تريد أن تستغل كل شيء، ما الذي يريده عملاء أمريكا، إلَّا عملية اخضاع لطاغوتهم الأمريكي على نحو ما يريد، وبما يسعى له.
فإذًا، هذه الأمة إذا أرادت أن تتحرك، ستقمع، سيسعى الآخرون لاستهدافها، وهي أمة لها أعداء تختلف معهم، تتناقض معهم في اتجاهاتهم، في إرادتهم، فيما يسعون له من سيطرة واستعباد؛ فالأمة لابدَّ أن تدافع عن نفسها، وأن تدافع عن نفسها في ظل مسارها هذا، لكي تسير في هذا الاتجاه المتحرر والمستقل، فتواجه هذا العدو الذي يعتدي عليها، ويسعى لاستهدافها بكل الوسائل، والأعداء هم يستهدفون الأمة عسكريًا، يستهدفونها اقتصاديًا، يستهدفونها ثقافيًا وفكريًا وإعلاميًا، وكل ما يدخل في إطار ما يسمى اليوم بـ(الحرب الناعمة)، الاستهداف للأمة بكل أشكال الاستهداف.
منهجية القرآن لرسول الله أمام استهداف الأعداء للأمة
في ظل واقعٍ كهذا كيف نتحرك؟ من هو قدوتنا؟ ما هي المنهجية التي ينبغي أن نتبعها؟ ما هي الرؤية التي ينبغي أن نعتمد عليها؟ نعود إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- نعود إلى القرآن الكريم، ماذا فعل رسول الله؟ ما الذي وجهنا إليه الله في القرآن الكريم؟ هل وجهنا بالقعود والسكوت والجمود والاستسلام؟ هل أمرنا بالخنوع والخضوع للطغاة؟ هل علَّمنا في القرآن الكريم أن نكون أمة ميتة الإحساس، ميتة الشعور، غافلة عن أعداءها، لاهية بالأشياء التافهة في واقع حياتها، وغير متنبهة إلى الواقع من حولها؟ هل علَّمنا أن نبني واقعنا لنكون أمةً ضعيفةً عاجزةً، تتجه إلى الاعتماد على أعدائها في كل شيء، أم أنَّ للقرآن منهجًا آخر، غير هذا المنهج الذي يحدثنا به الكثير من الضالين، من المرجفين، من المنافقين، من الذين في قلوبهم مرض، من الخانعين، من الجاهلين…؟ أم أنَّ للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في مسيرته العملية، في تطبيق القرآن، وفي إقامة هذا الدين، سيرةً مختلفة عما يحاول الآخرون باسم الدين، أو تحت عناوين أخرى أن يخدعونا به لتدجيننا لصالح أعدائنا؟
عودة بسيطة إلى القرآن الكريم تجد سوَرًا بأكملها تبني واقع هذه الأمة على درجة عالية من: الانتباه، واليقظة، والحذر، والوعي، والاحساس العالي بالمسؤولية، والسعي لأن تكون أمةً قوية، وأن تكون أمةً حرةً وعزيزةً وأبيةً وثابتةً في وجه أعدائها، وأن تحمل في مشاعرها العزة، والقوة، والحرية، والإباء، وأن تتحرك بكل جدية في مواجهة التحديات والأخطار التي يستهدفها بها أعداؤها.
عندما نعود إلى القرآن الكريم، مثلًا: في سورة التوبة، سورة التوبة من أولها إلى آخرها سورة استنفار، سورة تعبئة، سورة تحفيز، سورة تعطي وعيًا عاليًا عن العدو، وكيف ينبغي أن نكون في مواجهة العدو، سورة واحدة، عندما نأتي إلى القرآن الكريم سنرى كيف هو موقف القرآن الكريم من الجهات التي تسعى بأن تتجه بالأمة أثناء التحديات، وعندما يوجد الخطر، إلى اتجاهات: الخنوع، والجمود، والاستسلام، والتخاذل، والتنصل عن المسؤولية… كيف يتخاطب معها القرآن الكريم، كيف يصنِّفها، كيف يعتبر موقفها شاذًا بكل ما تعنيه الكلمة، لا هو ينسجم مع الفطرة، ولا هو ينسجم مع الإنسانية، ولا هو ينسجم مع الدين، موقف سيء، سلبي، خاطئ بكل ما تعنيه الكلمة، لا يمثِّل أي خير، ولا أي مصلحة للأمة.
القرآن الكريم يحيي حالة النفير ويذم حالة التخاذل
نأتي إلى بعضٍ من النصوص القرآنية في سورة التوبة؛ لأننا سنستعرض كذلك– إن شاء الله- في المحاضرات القادمة هذه الحالات التي لا تنسجم مع ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ∗إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة: 38-39]، هذه الآية بخطابها هذا المؤثِّر والمستنفر الذي يحيي في الأمة حالة النفير، حالة اليقظة العالية، الذي يخرج الناس من حالة الغفلة والجمود، هو يأتي ليتخاطب وليواجه حالة: هي حالة التثاقل، يعني: ليست بالدرجة التي تصل إلى حد التنصل الكلي عن المسؤولية. لا، مسألة التثاقل.
البعض- مثلًا– يتنصل كليًا عن المسؤولية، عازفًا نهائيًا عن أن يكون له أي موقف، عن أن يلتفت- أصلًا– إلى هذا الموضوع. البعض قد يكون لا بأس متفاعلًا، لكن بشكلٍ بطيء، وبشكلٍ متثاقل، حتى حالة التثاقل حالة غير مقبولة- نهائيًا- في الإسلام، الحالة التي يُبنى عليها واقع المجتمع الإسلامي إذا كان متفاعلًا مع هدى الله، ومقبلًا إلى آيات الله، غير معرضٍ عنها، أن يعيش هذه الروحية العالية من: التفاعل، والاستجابة، واليقظة، والانتباه، والمبادرة، والمسارعة، وليس في حالة من: التثاقل والتباطؤ؛ لأن طبيعة هذه المسؤولية، ومستوى الأخطار يقتضي من الأمة أن تكون يقظة ومبادرة ومسارعة، وألَّا تكون على هذا النحو من التثاقل والتباطؤ في مواجهة الأخطار، وأمام التحديات؛ يسبب للأمة نكبات كبيرة، أحيانًا في فارق البعض من الوقت تُنكب أمة، تخسر معركة؛ وتتيه وتتحمل تبعات كبيرة جدًّا نتيجةً لتثاقلها.
{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}، هذه الحالة هي حالة غير صحية، غير سليمة، غير إيجابية، أين هذا المنطق من منطق من يثبط، من يخذِّل، من يجمِّد الناس، من يميت فيهم روح المسؤولية والإحساس بالمسؤولية. {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، هذا وعيد إلهي، وعيدٌ بالعذاب من الله، وعيدٌ لمن؟ للكافرين، لليهود، للنصارى؟ هذا وعيد للذين آمنوا، للذين يصلون ويصومون ويزكون، ويعملون بعض الأعمال بصفة أنها أعمال صالحة، ولكنهم لا يريدون الجهاد في سبيل لله، لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية أمام التحديات والأخطار التي تعاني منها الأمة، وستؤدي إلى ضياع هذه الأمة، وضياع كل ما لديها، يريدون إسلامًا لا مسؤولية فيه، لا تحرك فيه، لا موقف فيه… هذه النوعية من الناس موعودون من الله بالعذاب، {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، حينها لا تغني عنكم صلاتكم، ولا يغني عنكم صيامكم، ولا تغني عنكم أعمالكم من النوافل والمستحبات؛ لأنكم فرطتم في فريضة مهمة جدًّا، هي تُدلل على مدى مصداقية الإنسان حتى في انتمائه الإيماني، في مصداقيته مع الله -سبحانه وتعالى- فالله يتوعد بالعذاب في خطابه للذين آمنوا، للمنتمين إلى هذا الدين، لأولئك الذين يذهبون إلى المساجد ويعودون منها، ولكن لا يريدون أبدًا أن يتحملوا هذه المسؤولية، ولا أن يلتفتوا إليها.
القعود انحراف عن خط رسول الله
ثم نأتي أيضًا في القرآن الكريم، في نفس سورة التوبة تجد الآيات التي تبين كيف هو اتجاه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وأن الحالات التي يتجه فيها البعض متنصلًا عن المسؤولية، متهربًا من أداء هذه المسؤولية، هي اتجاه منحرف، أولئك لا يقتدون برسول الله، من يسلكون سلوك الجمود والقعود والتخاذل هم لا يقتدون برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من كان منهم باسم عالم، أو متعلم، أو مرشد، أو خطيب جامع، أو إمام مسجد، أو أيًّا كان، بأي صفةٍ كان، هو لا يقتدي برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الله يقول: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}[التوبة: من الآية120]، ما ينبغي لهم أبدًا أن يتخاذلوا عن الجهاد، في الوقت الذي كان مَنْ يدعو إلى الجهاد، ويقيم فريضة الجهاد هو رسول الله، الذي هو القدوة والأسوة، والذي يجب أن يحذوا الناس حذوه، أن يقتدوا به، عندما تريد أن تمتنع عن أداء هذه الفريضة، وقدوتك في أدائها والقيام بها هو رسول الله الذي كان مجاهدًا، داعيًا إلى الجهاد، قائدًا للجهاد، محرِّكًا للأمة في الجهاد في سبيل الله، فتأتي أنت إما لتقعد، وإما لتثبط الآخرين أيضًا، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ}، ما يليق بهم أبدًا، {وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ}، أيضًا الأمة بكلها- من بعد رسول الله إلى قيام الساعة- ما ينبغي لها أن تتثاقل، ولا أن تتخاذل، ولا أن تثبط، ولا أن تجمد، ولا أن تشطب المسؤولية في الدفاع عن: (نفسها، ومبادئها، وقيمها، وعرضها، وأرضها، وحريتها، واستقلالها)، من خلال الجهاد في سبيل الله، الذي يوفر لها المَنَعَة والحماية، ويدفع الخطر عنها، ما ينبغي لها أن تتنصل عن هذه المسؤولية؛ لأن القدوة في أداء هذه المسؤولية والقيام بها، وباعتبارها فريضةً إلهية، هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[التوبة: 120-121]، فالمؤمنون عليهم أن يقتدوا برسول الله، وأن يدركوا أن كل عناء في سبيل أداء هذه المسؤولية، وكل مشقَّة يقابلها مكافأة عظيمة من الله، يقابلها الأجر، يقابلها الفضل، يقابلها الرحمة، يقابلها المكافأة بالنصر والعزة والكرامة، يقابلها حُسن ثواب الدنيا وحُسن ثواب الآخرة، يقابلها الخير كل الخير فيما وعد الله به الأمة إذا استجابت، إذا نهضت، إذا تحمَّلت مسؤوليتها، فيما يمنحها الله من: رعاية، ونصر، وتأييد، وتمكين، وخير الدنيا والآخرة…
فالمسألة مهمة جدًّا، فما كان لأيِّ عالم، ولا لأيِّ خطيب، ولا لأيِّ مثقف، ولا لأيِّ شخصٍ ينتمي إلى هذا الإسلام أن يجمد، وأن يميت من نفسه روح الشعور بالمسؤولية، أو أن يتجه في الساحة للتثبيط والتخذيل، وزرع الوهن واليأس في نفوس الناس، والسعي لأن تجمد هذه الأمة، وأن تستكين وهي تواجه أكبر الأخطار والتحديات من قوى الطاغوت المستكبرة، وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، ومن معهما من العملاء الذين يعملون لصالحهما من داخل أبناء الأمة، مرحلة مهمة، لا تقلُّ عن أي مرحلة تمثِّل خطورة بالغة على الأمة في ما مضى من الزمن، مرحلة تستدعي إحياء هذه الفريضة.
المخلفون.. خواء الإيمان وموت الضمير
عندما نأتي أيضًا إلى القرآن الكريم كيف يتحدث– أيضًا– في هذا السياق، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ}[التوبة: من الآية81]، (الْمُخَلَّفُونَ): هذه السِّمة، وهذا التوصيف الذي يمثِّل- فعلًا– علامةً سلبية لمن يتصفون به، المُخَلَّفُون: هم أولئك الذين تنصَّلوا عن المسؤولية، هم أولئك الذين لم تحركهم لا فطرتهم، ولا مشاعرهم الإنسانية، وهم يرون الخطر على أمتهم من حولهم، الخطر الذي يشملهم، كما هو خطرٌ على الأمة بكلها، رضوا لأنفسهم بالتنصل عن المسؤولية، رضوا لأنفسهم أن يعيشوا في واقع الذل والهوان والجمود والاستسلام، رضوا لأنفسهم بالخنوع، لا يمتلكون الطاقة الإيمانية والدافع الإيماني، ولا الضمير الإنساني، ولا الإحساس بالواقع من حولهم، قلوب ميتة وجامدة وباردة، لا تلتفت ولا تتفاعل مع ما حولها.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ}، كان لهم ذنبان: الذنب الأول هو قعودهم، قعودهم بنفسه ذنب، وتخلفهم عن النهوض بالمسؤولية والتحرك ذنب، وإضافةً إلى ذلك فرحوا، فرحهم هو ذنبٌ آخر، الفرح بقعودهم؛ لأنهم يعتبرون قعودهم هو الصواب، وهو السياسة، وهو الحكمة، وأنهم أذكياء، وأنهم عباقرة، لم يورِّطوا أنفسهم كما فعل الآخرون، يرون في نهوض الآخرين بالمسؤولية، وتحركهم للتصدي للخطر أنَّه تَوَرُّط، وأنه غباء سياسي، وأنه حماقة، وأنه كان ينبغي لهم أن يخنعوا، وأن يستكينوا، وأن يستسلموا لأعداء الأمة… فهم فرحوا بما هم عليه من قعود، واعتبروا أنفسهم أذكياء، وعباقرة، وسياسيين، وحكماء، وأن الآخرين أغبياء ومتهورين.
{وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}، عندهم كره للجهاد، وصل بهم الحال إلى أن يكرهوا الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، ليس عندهم أي رغبة في ذلك، ولا أي اندفاع، هذا يدل على خواء إيماني، على فراغ؛ لأن الجانب الإيماني ثمرته في النفس: رغبة فيما هو رضى لله، هذا أمرٌ لا شك فيه، ثمرة الإيمان رغبة، اندفاع، تفاعل مع ما فيه مرضاة الله -سبحانه وتعالى- فهؤلاء- على العكس- كَرِهُواْ، معقَّد من الجهاد، يعني: البعض من شدة تعقده لا يرغب حتى بأن يسمع الكلام، حتى اسم الجهاد، عنده عقدة نفسية من نفس الاسم، وعلى هذا يجري الحال في بعض المناطق، لا يرغب حتى أن يسمع في خطبة جمعة، أو في حديث، أو في تذكير بآيات الله، أي كلمة فيها مفردة: (قتال في سبيل الله)، أو (جهاد في سبيل الله)، هذه الحالة الشاذة سنتحدث عنها على ضوء بعض الآيات- إن شاء الله- أيضًا فيما سيأتي.
{وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، لا يكتفي بأن يقعد بكل ما هو عليه من عار القعود، عار التخلف، هذا الذي شهد عليه أنه قد تفرغ من كل المشاعر الإنسانية والدوافع الإيمانية، لا يكتفي، بل يتجه إلى الآخرين لتثبيطهم تحت أي عنوان: إما عنوان مثل هذا العنوان {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، أو أي إشكالية يستغلها، أو أي عنوان آخر يرى أنه وسيلة للتثبيط، يسعى للتثبيط من خلاله.
{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}؛ لأنهم موعودون بالعذاب، هم موعودون بعذاب الله -نعوذ بالله!- {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً}، هذا وعيد بجهنم، {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}؛ لأنهم قد تبلَّدوا، وانغلقت عندهم كل منافذ الوعي، المتخلفون، الجامدون، القاعدون، يصلون إلى هذه الحالة من الخذلان.
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً}[التوبة: الآية82]، فيما هم عليه من تباهٍ وارتياح بتخلفهم، واستخفافهم بالآخرين، وسخرية من الآخرين الذين تحركوا في مسؤوليتهم، {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً}؛ لأن أمامهم في جهنم العذاب الشديد الذي سيكونون فيه حالة بكاء لا انقطاع له، {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، مع أن البعض حتى في الدنيا تصل إليهم: {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً}.
موقف القرآن من المُتخلِّفين
{فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}[التوبة: الآية83]، البعض يصل بهم الحد من سخط الله ومقته عليهم عندما يتخاذلون في مرحلة حسَّاسة، مرحلة مصيرية، تكون الأمة فيها في مشكلة كبيرة، وفي مواجهة تحديات وأخطار كبيرة، وفي أشد الظروف، وأقسى المراحل، وأصعب المراحل يتخاذلون، يثبطون، يشمتون، يسخرون، يستهزئون، ثم عندما تجتاز الأمة تلك المرحلة الخطرة جدًّا، تلك الظروف الصعبة والحسَّاسة والمصيرية، وتخرج منها بالنصر، وتنفتح لها آفاق الانتصارات، وتأتي مراحل متقدِّمة، الأمة فيها في مرحلة انتصارات، وقد تجاوزت تلك المراحل الخطرة للغاية والصعبة جدًّا، يأتي البعض في تلك المراحل ليتحرك فيما بعد، ويعتبر نفسه ذكيًا أنه في المراحل الخطرة والحسَّاسة والصعبة قعد وتخاذل، مثل هذه النوعية لا يقبل الله منها، ولا ينبغي للمؤمنين أن يقبلوا منها أن تتحرك فيما بعد، ممنوعة خلاص، مقتت وخذلت؛ لأنها حتى لو تحركت فيما بعد، هي لا تتحرك بدافع إيماني، إما بدافع مادي، بدافع المكاسب في مرحلة اطمأنت فيها من المخاطر، وفي المرحلة التي هي صعبة، والمرحلة التي فيها أخطار كبيرة تنصلت وتخاذلت، مثل هذه الفئة بالذات لا ينبغي أن تقبل فيما بعد أبدًا.
بهذا التعبير القرآني: {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً}، نهائياً؛ لأنهم لا يتحركون بدافع إيجابي نهائياً، {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أنتم قعدتم برضى بذلك القعود، البعض من الناس قد يقعد وهو يحس بالذنب، ويستشعر التقصير، ويقول: [والله نحن مقصِّرون للأسف، وقعودنا هو خطأ]، لكن البعض لا، يقعد برضى، بارتياح إلى ما هو فيه من تخاذل، هذا إنسان عديم الإحساس، منعدم الإيمان، هذا إنسان قد وصل إلى درجة خطيرة جدًّا من الانسلاخ والتفرغ من كل القيم الإنسانية والفطرية والإلهية، إنسان بلغ غاية السوء جدًّا، وأحيانًا تكون هناك أحداث مؤلمة للغاية، تُحرِّك أي إنسان بقي فيه شيءٌ من الإحساس الإنساني: مظالم كبيرة، جرائم كبيرة، معاناة كبيرة، ويكون الأعداء على مستوى فظيع جدًّا من عدوانيتهم وإجرامهم، إنسان يرضى لنفسه بالقعود في واقعٍ كهذا، فاعتبره لم يعد له من كلمة إنسان إلَّا الاسم ، وإلَّا قد صار حيوانًا متبلدًا، لم يعد يمتلك المشاعر الإنسانية، البعض يشاهد مشاهد مأساوية جدًّا من جرائم الأعداء ولا يحركه ذلك، يلحظ عدوانًا وحشيًا وإجراميًا وببغي كبير ولا يستفزه ذلك، ولا يؤثر فيه ذلك، لا آيات الله تؤثر فيه من القرآن، ولا الواقع من حوله، ولا المآسي من حوله، ولا الأحداث من حوله تؤثر فيه ولا تحركه، ماذا يعني ذلك؟ يرضى لنفسه بالقعود، ويرتاح، ويضحك، يشعر بالسرور فيما هو فيه، وهو في حالة لا تليق أبدًا بإنسان يحمل الشعور الإنساني، لا تليق بإنسان بقي فيه ذرة من الإحساس والوجدان والمشاعر الإنسانية، مثل هذه النوعية لا يقبل منها، {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، (رَضِيتُم بِالْقُعُودِ)، كما قلنا: البعض قد يقعد وهو يحس بالذنب، وقد يتوب فيما بعد وينطلق، لكن تلك الفئة التي رضيت بالقعود، خلاص، {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}، (فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ): اقعدوا كما النساء والصبيان، النساء اللواتي لهن عذرهن في التخلف، أما موقفكم فليس بمناسب أبدًا، وكالأطفال الصغار، يبقى رجّال، [البعض- ما شاء الله- با يطلع وزنه ثمانين كيلو، والَّا مائة كيلو، والَّا سبعين كيلو، والَّا مائة وعشرين كيلو، يبقى حاله حال طفل صغير في المزباء (في المهد) عند أمه ترضعه، مسكين، وترعاه وتنظفه]، يبقى كأنه طفل صغير، يعني: في حالة الجمود، والتخاذل، والتنصل عن المسؤولية، يعني: حالة معيبة، {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}، يعني: أنتم في حالة معيبة، لا تشرفكم أبداً كرجال، يفترض أنكم من تذهبون، وتعلِّق عليكم نساؤكم الأمل بأنكم حماة الديار، وحماة الأعراض، والحماة للعرض والأرض والشرف، ولكن تبقون أنتم بحاجة لمن يحميكم أنتم والنسوان والأطفال، حالكم حال تلك النسوة وأولئك الأطفال الذين هم بحاجة إلى من يحمل نخوة، وشهامة، ومروءة، وعزة، وإباء، فيذهب لحماية تلك الفئات الضعيفة والمستهدفة من جانب الأعداء.
فعندما يقول الله: {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}، يعني: أنكم في وضعية معيبة، ومخزية، ومشينة، وغير لائقة بكم، انظروا كيف هو منطق القرآن، البعض يكونون في حالة من التباهي بما هم عليه من قعود، كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم؟
جريمة الرضى بالقعود
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}[التوبة: الآية84]، هذه الفئة التي رضيت بالقعود، وافتخرت بقعودها، وبرَّرت قعودها، وأصرَّت على أنَّه هو الموقف الصحيح والسليم والحكيم، تحت أي تبرير، هؤلاء مقاطعة لهم حتى بالصلاة عليهم، {وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ }، لَا تَقُمْ– حتى- عَلَى قَبرِهِ، فئة لا ينبغي أن يتعامل معها المجتمع بالاحترام أبدًا، لا في حياتها ولا في مماتها، وتقاطع إلى هذه الدرجة من المقاطعة، لماذا؟ لأن الإنسان إذا وصل إلى حالة الرضى بالقعود، ومات عنده روح الإحساس بالمسؤولية بشكلٍ تام، فإن هذا يعني: أنَّه فَقَدَ إيمانه، في داخله كفرٌ مبطَّن، في وجدانه وفي أعماق نفسه كفرٌ مبطن، هو فَقَدَ الثقة بالله -سبحانه وتعالى- إذا كنت تعتبر نفسك مؤمنًا ومتدينًا؛ لأن البعض يعتبر نفسه- حتى- متدينًا وأكثر من غيره، فما هو هذا التدين الذي لا ينسجم مع القرآن، لا يلتقي مع القرآن، لا يتجاوب مع آيات الله وتوجيهاته، أيُّ تدينٍ هذا؟!
آيات الله فيها وعيد على ترك الجهاد في سبيل الله، وعيدٌ بالعذاب، فيها تأكيد على أن الإنسان الذي يُعرِض عن هذه الفريضة، ويعطل هذه الفريضة فَقَدَ إيمانه، فَقَدَ إيمانه، وأنه لا يعتبر عند الله من المؤمنين، ولا يسير في طريق الجنة، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية142]، فالمسألة واضحة جدَّا.
يقول الله: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: من الآية84]، فهم عاشوا في واقعهم لمَّا وصلوا إلى درجة الرضى بما هم عليه من قعود، وجمود، وتنصل عن المسؤولية، وتفرج على واقع الأمة، معنى ذلك: أنهم وصلوا إلى حالة سيئة، وحالة مخزية، وحالة من انعدام تلك المبادئ الإيمانية، والقيم والأخلاق الإيمانية، التي يفترض أن تحيي فيهم روح الشعور بالمسؤولية.
{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ}، فلا تعوِّل عليهم، ولا على إمكاناتهم، ولا تؤمِّل فيهم، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة: الآية85]، هي عذاب نفسي عليهم، هم في حالة من الألم والقلق عليها؛ حتى لا تتضرر، أو يخسرون شيئًا منها، {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة: الآية86]، هذه الفئة الميَّالة للقعود، الميَّالة للجمود، المتنصلة عن المسؤولية، المتهربة من القيام بالواجب، المتفرِّجة على ما تعانيه الأمة من حولها، وما تواجهه من أخطار وتحديات، وكأنها غير معنية بشيء {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}[التوبة: الآية87]، رضوا لأنفسهم أن يكونوا بلا ضمير، بلا موقف. معيبٌ في حق الإنسان أن يكون بلا موقف، الله قد أعطاك طاقة وقدرة تستطيع أن تكون صاحب موقف، إيمانك يفرض عليك أن تكون صاحب موقف، إن كان فيك إيمان، الدين الذي تنتمي إليه يفرض عليك أن يكون لك موقف، أين هو موقفك؟ {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}، وهذه حالة خطيرة جدًّا: (حالة الرضى)؛ لأن البعض- كما قلت- قد يستشعر التقصير والذنب، ويعترف على نفسه بالتقصير لقعوده، لكن البعض راضون بما هم عليه، ومرتاحون بما هم عليه، وهذه قضية خطيرة جدًّا تسبب مقتًا من الله، مقتًا شديدًا جدًّا، وخزيًا من الله، وسخطًا كبيرًا من الله -سبحانه وتعالى-.
نتائج الطبع على القلوب
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، هذه حالة خطيرة جدًّا. أنا أعتقد أنَّ هذا من أكبر العقوبات الإلهية على المتخاذلين، والمتنصلين عن المسؤولية، والراضين بالقعود، أنَّ من أكبر ما يعاقبهم الله به أن يطبع على قلوبهم، وإذا طُبِعَ على قلب الإنسان فهو يتعرض لحالتين خطيرتين جدًّا:
الحالة الأولى انعدام المشاعر الإنسانية: مهما حدث فقد أصبح قلبه بالطبع عليه قلبًا شبه ميت، لا يتفاعل، لا يتأثر بأي أحداث، هذا الإنسان المطبوع على قلبه، لو يشاهد ما شاهد من المآسي، لو يشاهد ما يشاهد، أو يسمع بما يسمع من جرائم، من هتكٍ للعرض، من أمور فظيعة جدًّا، أي إنسان فيه حياةٌ إنسانية: حياة الشعور، حياة الإحساس، حياة الوجدان، حياة القيم؛ يتألم، يتأثر، يتفاعل، يترتب على تفاعله هذا موقف، ولكن من طُبِعَ على قلبه. |لا|، يحصل ما حصل، يحدث ما حدث، يقع ما يقع، المآسي الكبيرة لا تؤثر فيه، لا يتفاعل معها، بارد، مهما حصل فهو ذلك البارد، اللامبالي، اللاملتفت إلى ما هناك، بل هو الذي يسخر من كل ذلك، ويعتبره شيئًا طبيعيًا، ويسخر من أولئك الذين يعيشون تلك المأساة.
المشكلة الثانية، والحالة الثانية الخطيرة جدًّا لمن طُبِعَ على قلبه، انغلاق حالة الفهم عنده: كل نوافذ الفهم تقفل عنده، مقفل، ما عاد يفهم، يتبلد ويتحول إلى غبي بشكل رهيب جدًّا، تكون نظرته إلى الأحداث وإلى الواقع نظرة غير صحيحة بالمرة، نظرة غبية تمامًا، نظرة جاهلة، لا ينظر نظرة صحيحة، لا يفهم الأشياء بشكل صحيح، لا يفهم الأحداث بشكل صحيح، يتحول إلى أسوء حالة من الغباء، أغبى من حمار أهله، إن كان لديه حمار في المنزل، يصبح أغبى من ذلك الحمار الذي في المنزل، غبي إلى درجة رهيبة جدًّا، لا يفهم الأحداث نهائيًا، ولا عواقبها، ولا مساراتها، ولا ما يترتب عليها، وينظر إلى الأشياء من حوله نظرةً غبية بكل ما تعنيه الكلمة، هذه عقوبة خطيرة جدًّا؛ لأن من أعظم ما يتميز به الإنسان هو: إحساسه، وجدانه، مشاعره الحيَّة، وأيضًا فهمه، وعيه، بصيرته، فإذا فَقَدَ ذلك الإحساس، وذلك الشعور الإنساني الحي، المتفاعل مع الواقع من حوله، وفَقَدَ البصيرة، والوعي، والنظرة الصائبة، والفهم الصحيح لما يدور في هذه الحياة؛ فَقَدَ قيمته الإنسانية، وخاصيته الإنسانية، وأصبح {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف: من الآية179]، كما يتحدث القرآن في آيةٍ أخرى، فمن أسوء ما يعاقب به الإنسان الذي رضي بالقعود والجمود هو هذه العقوبة الإلهية.
طريقة تعامل الصادقين مع رسول الله
{لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}[التوبة: من الآية88]، هذه آية عجيبة جدًّا ومؤثرة في هذا السياق، مؤثرة، لكل القاعدين، والجامدين، والمتنصلين عن المسؤولية، والمتخاذلين… اسمعوا ما يقوله الله، تحدث المتخلفين، الميَّالين للقعود: {ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ}، لا يريدون أن يتحركوا أبدًا، {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}، رسول الله مجاهد، جاهد بالمال والنفس، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ}، الذين كانوا معه بما تعنيه كلمة (مَعَهُ)، كانوا معه في الموقف، كانوا معه مجاهدين، ولم يكونوا فقط على النحو الذي عليه الكثير من الناس ممن يقول: [أنا مؤمن برسول الله، ومع رسول الله]، إذا كنت مؤمنًا مع رسول الله ستكون في طريق الجهاد، هذا هو طريقه، هو سيد المجاهدين، هو إمام المجاهدين، هو قدوة المجاهدين، {لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}، أين مَنْ يأتي ليقول أنَّه من ورثة الأنبياء، ثم يكون جامدًا وقاعدًا ومتخاذلًا ومتنصلًا عن المسؤولية، أين هو من الإتباع لرسول الله، والاقتداء برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؟! أين الكثير من أبناء الإسلام ممن فصلوا أنفسهم وانفصلوا كليًا عن جانب المسؤولية، وأصبحوا يتعاملون مع الإسلام مجرد طقوس منقطعة ومبتوتة ومفصولة من جذورها ومن ثمرتها، لا بقي ارتباط بجذور وأسس، ولا بقي لها علاقة بثمرة ونتائج، خلاص قطعوها هنياك لوحدها، {وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، هذا هو طريق الفلاح، هو الاتجاه الصحيح. {أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[التوبة: الآية89].
{وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}[التوبة: الآية90] أنظروا كيف يتخاطب مع القاعدين: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}، غير الأفياء من الناس، المتنصلين عن المسؤولية في الظروف والمراحل الحساسة والاستثنائية والمصيرية والخطيرة جدًّا، لا وفاء فيهم لا لدينهم، ليسوا أوفياء مع الله {كَذَبُواْ اللّهَ}، ليسوا أوفياء مع الله، ولا مع رسوله، ولا مع دينهم، ولا مع أمتهم، هذا هو حال الذين يقعدون ويتنصلون عن المسؤولية، {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}، كلمة مؤثرة جدًّا هذه، كلمة مؤثرة جدًّا، {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ لأن الإنسان يعيش حالة الكفر في قلة ثقته بالله، في نظرته المنفصلة كليًا عن توجيهات الله، وكذلك في ما يتعلق برفضه للحق ولتوجيهات الله وأوامره.
طبيعة الإذن للمعذورين من الجهاد
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة: من الآية91]، يعني: حتى الضعفاء والمرضى والمعذورين من الجهاد عذرهم في بقاءهم- مثلًا– مشروط، الإذن لهم مشروط بأن يكونوا ناصحين بالكلام الطيب، بالكلام المؤثر، بالتشجيع للجهاد، بكل ما يمتلكونه مما يستطيعون فعله في إطار إحياء الجهاد، والتشجيع عليه، والترغيب فيه… وما إلى ذلك.
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ∗وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}[التوبة: 91-92]، هذه الفئة التي لا تستطيع أن تموِّل نفسها، وليس هناك من يموِّلها لتتحرك في سبيل الله، وهي راغبة في الجهاد كل هذه الرغبة، إلى درجة { تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ∗ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[التوبة: 92-93]، يعني: فهم في حالة من الخذلان الرهيب، والتبلد الشديد والعجيب جدًّا.
فإذًا، مسيرة الإسلام- أيها الأخوة والأخوات- في حركة رسول الله، وعندما هاجر ركَّز عليها بشكل كبير جانبٌ رئيسيٌ فيها، هو التحمل للمسئولية، نحن أمة يجب أن نسعى لأن نكون أمةً متحرر، مستقلة، مجاهدة، تتحرك لمواجهة التحديات والأخطار، تواجه أعداءها ولا تخنع لهم، ولا تستسلم لهم، ولا تقف في حالةٍ من الجمود والعجز والاستسلام حتى يسحقها أعداؤها. لا، أمة حيَّة، أمة {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، أمة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران: من الآية110]، الأمة التي رسولها ونبيها هو سيد المجاهدين، هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يتحرك بشكلٍ لا مثيل له فيما يتعلق بالنهوض بالمسؤولية، لا مثيل له، ولم يشهد له التاريخ مثيلًا أبدًا، فهذا ما يجب أن نعيه جيدًا.
إن شاء الله نستمر في المحاضرات القادمة ونتحدث على هذا الأساس…
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛