المحاضرة الأولى لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة عاشوراء – 5 محرم 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
عندما نتأمل في واقع أمتنا الإسلامية، وفي الظروف التي تعيشها شعوب منطقتنا، في المنطقة العربية، وفي سائر العالم الإسلامي، وما تعانيه هذه الشعوب على كل المستويات، من: تحديات، وأخطار، ومشاكل، وأزمات، من انعدامٍ لحالة الأمن والاستقرار، ومشاكل كبيرة على هذا المستوى، وفي هذا الجانب حروب، ونزاعات، وصراعات، وانقسامات، وتباينات…الخ. ثم على المستوى الاقتصادي، والأزمات الاقتصادية خانقة ومؤثرة جدًّا، وشاملة، تشمل كل أمتنا، كل شعوب المنطقة، ما هناك- تقريبًا- أي بلد إسلامي إلَّا ويعاني من أزمة اقتصادية، ومشاكل كبيرة على المستوى الاقتصادي.
ثم تأتي إلى بقية المجالات: تجدها كلها في حالةٍ من: المشاكل، والأزمات، والتحديات، والتعقيدات الكبيرة جدًّا، بمعنى: أننا نعيش- كأمة مسلمة ومجتمع إسلامي في المنطقة العربية وغيرها- وضعًا غير طبيعي وغير سليم، واقعًا مأزومًا، واقعًا تطغى عليه الكثير من المشاكل الكبيرة والتعقيدات الكثيرة.
ثم نجد في واقعنا، سواءً التحديات التي من خارج بيئتنا وساحتنا، والتي هي عبارة عن مخاطر واستهدافات من قوى وأمم أخرى معادية لنا كأمة مسلمة، أو المشاكل التي نعاني منها من واقع ساحتنا الداخلية، من داخل أبناء أمتنا: فئات، كيانات منتسبة لهذه الأمة، من أبناء الأمة، وباتت تمثِّل اشكالية كبيرة في واقع الأمة من داخل هذا الواقع.
نأتي إلى طبيعة هذه المشاكل، وهي تمس بحياتنا في كل شئون حياتنا، تأتي إلى واقع معيشتنا، إلى واقع أمننا واستقرارنا، إلى واقع حتى غذائنا… هذه المشاكل لا ينبغي أبدًا أن ننظر إليها مجردة عن أسبابها، يجب أن نأتي لنعرف ما هي الأسباب، أننا نعيش- كأمة مسلمة ومجتمع مسلم- كل هذه المشاكل، والتحديات، والتعقيدات، وفي كل مجال من المجالات، هل ثمرة إسلامنا الذي ننتمي إليه في مبادئه، وقيمه، وأخلاقه، وتشريعاته… أن ينتج عن التمسك بها، والانطلاقة على أساسها، واقعٌ كهذا، ظروفٌ كهذه، حياةٌ كهذه، مشاكل كهذه، أو أنَّ النتيجة المفترضة لهذا الإسلام في مبادئه، وأسسه، وقيمه، وأخلاقه، وتشريعاته، أن نكون على واقعٍ مختلف، بدءًا في ساحتنا الداخلية، وفي واقعنا الداخلي، ثم في أدائنا، وطبيعة حضورنا بين المجتمع البشري، وطبيعة علاقاتنا بسائر الأمم؟
عندما نأتي إلى ما نعانيه حاليًا، نجد أن في ذلك بنفسه شاهدٌ واضحٌ وجليٌ على عظمة تلك المبادئ والمعالم الأساسية والمهمة في الإسلام، التي لمَّا أضاعتها الأمة وصلت إلى ما وصلت إليه، عندما نأتي إلى أول هذه المبادئ، وهو: التحرر من سيطرة الطاغوت، والاستقلال عن التبيعة للمضلين، والطغاة، والمفسدين، والمجرمين… هذا المبدأ عندما أضاعته الأمة ما هو البديل عنه؟
البديل أن يسيطر الطاغوت، البديل أن تعيش الأمة في كل شئونها حالة التبعية لأعدائها الذين لا يريدون لها الخير أبدًا، والذين عندما يخططون فيما يخططون لها، أو يرسمونه فيما يرسمونه لها، في أي شأنٍ من شئونها: اقتصاديًا، أو سياسيًا، أو بأي مجال، في أي مجالٍ من المجالات، يعملون ما يرون فيه مصلحةً لهم وإضرارًا بالأمة، ويساعدهم على استحكام سيطرتهم أكثر، سيطرتهم عليها أكثر، وإضعافها على نحوٍ أكثر.
عندما غاب مبدأ الارتباط بمصادر الهداية والنور، لكي نكون أمةً مستنيرةً، واعيةً، مبصرةً، تنظر إلى الواقع من حولها، وإلى الأحداث من حولها على أساسٍ من نور الله وهديه، وترسم معالم حياتها، ومسارها في هذه الحياة، في كل اتجاه من مجالات الحياة على أساس ذلك الهدى؛ كان البديل هو الضياع، كان البديل هو الأفكار الظلامية الرهيبة جدًّا، التي تجعل الأمة في واقعها وكأنها عمياء، لا تهتدي لرشد، لا تعرف الحلول، تتعاظم مشاكلها، وتكثر اشكالاتها مشكلة على مشكلة على مشكلة، تلك المشكلة لم يجدوا لها حلًّا، وتلك الإشكالية لم يجدوا منها مخرجًا… وهكذا تتعاظم المشاكل، وتتكثف الظلمات التي تساعد الآخرين على التضليل لنا كأمة بشكلٍ أكبر، وعلى الخداع لنا بشكلٍ أيسر… إلى غير ذلك.
عندما ضيعنا كأمة بشكل كبير في واقعنا مبدأ: التركيز على تزكية النفوس على أساس هدى الله، والبرنامج التربوي والأخلاقي في الإسلام، ولم يبقَ منه إلَّا أقل القليل، كانت النتيجة أن تتدنس الكثير من النفوس، وأن يكون لديها قابلية كبيرة جدًّا للانحراف بكل أشكال الانحراف: الانحراف الأخلاقي، الانحراف في الطغيان والاجرام والإفساد… كل أشكال الانحراف.
عندما فقدنا- أيضًا- مبدأً آخر من المبادئ الرئيسية جدًّا، وهو: مسؤوليتنا كأمة في إقامة العدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلاح واقعنا الداخلي، وبناءه على أساس تلك المبادئ، والقيم، والأخلاق، والتشريعات، ماذا كانت النتيجة؟ أضعنا مبدأ العدل؛ حلَّ بديلًا عنه الظلم، مَنْ الذي يعاني من الظلم؟ أولسنا نحن كأمة إسلامية، كمجتمع مسلم، كمجتمعات عربية نعيش واقعًا من المظلومية والظلمات لا نظير له في أي بقعةٍ من بقاع هذا العالم؟! النتيجة نعاني في واقع حياتنا، المسألة بالنسبة لتلك المبادئ، ليست فقط مجرد مبادئ دينية التمسك بها يترتب عليه- مثلًا- أجر وثواب للآخرة، هذا يحصل تلقائيًا، الثواب والأجر في الآخرة يحصل تلقائيًا من التمسك بتلك المبادئ، لكن هناك ثمرة عاجلة لها، وضرورية لها، وهادفة منها في هذه الحياة، ثمرتها لو أخذنا بتلك المبادئ، لو استمر المسار: مسار الأمة الإسلامية على مثلما تحرك به رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” بتلك المعالم الرئيسية، لو استمر ذلك المسار؛ لكان واقع الأمة مستمرًا بشكلٍ تصاعدي، بشكل ارتقاء، بشكلٍ يتعاظم ويتطور ويرتقي أكثر فأكثر، وأفضل فأفضل، وأحسن فأحسن، ولما كان مسار الأمة من بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم”، وعبر الزمن يتجه نحو الانحدار، نحو الانحدار، نحو الانحدار، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
عندما تتأمل اليوم في واحدة فقط من مظلوميات هذه الأمة، مظلومية واضحة ومعترف بها بين الجميع، ليست محلَّ إشكال أو جدل في الواقع الداخلي في الساحة الإسلامية، فقط يراد لها من الآن فما بعد أن تتحول إلى مسألة جدل وإشكال، وإلَّا فكانت معترفًا بها في الساحة الإسلامية بكلها، ولدى كل العرب، مظلومية الشعب الفلسطيني، على مدى كل هذه العقود من الزمن، أكثر من سبعين عامًا، مظلومية واضحة ومؤلمة وكبيرة، فيها كل أشكال الظلم: القتل والاستباحة لحياة الناس، القتل اليومي، الذي لا يكاد يمر يومٌ من الأيام إلَّا ويتكرر، جريمة ومأساة متكررة، ومشهد واضح أمام جميع العرب، وأمام جميع المسلمين، الاستباحة للأرض، اغتصاب الأرض، ومصادرة الأرضي والمزارع والمساكن، واقتلاع المزارع، اقتلاع شجرة الزيتون، والسيطرة والسطو على ممتلكات الناس وحقوقهم، وكذلك الاضطهاد الديني، معاناة حتى في الصلاة، على مستوى المسجد الأقصى، وتهديد لهذا المقدس، وتهديد للمشاعر المقدسة هناك والمعالم المقدسة، المقدسات بشكلٍ عام هناك تهديد مستمر لها، كل أشكال الظلم، وكل أشكال المعاناة قائمة، وتمسّ بالناس هناك في حياتهم وفي كل شئونهم: في شئونهم الدنيوية، وفي شئونهم الدينية، يعاني من مشكلة في أن يتمكن من أداء الصلاة في المسجد الأقصى، ويعاني من مشكلة في أن يصل إلى مزرعته التي هي مهددة: إما بقلع ما فيها من أشجار الزيتون، أو بمصادرتها عليه بشكلٍ تام، مشكلة القتل المستمر والاستباحة للدماء، مشكلة السجن والاعتقال التعسفي والظالم للرجال وللنساء… كل أشكال الظلم موجودة، واستمرت، ليس فقط عامًا بعد عام، بل على مدى عقود من الزمن: عشر سنوات، ثم عشر سنوات، ثم عشر سنوات… تتفاقم، تتعاظم، تتزايد، يزداد الوضع من واقعٍ إلى ما هو أقسى، المزيد من الأراضي تؤخذ، المزيد من أشجار الزيتون تقلع، المزيد من المزارع يتم السطو عليها والسيطرة عليها، حالات الجرائم: جرائم القتل، جرائم الاغتصاب، جرائم السجن… كل أشكال الظلم تحصل.
عندما نتأمل في هذه المظلومية فحسب، ما بالك الآن كل شعوبنا مظلومة، وتتفاوت مستوى المظلوميات من شعبٍ إلى آخر، هذه مظلومية واحدة، ننظر إلى جانبين لهذه المظلومية:
هناك طرف آخر، طرف هو الذي يباشر هذا الظلم بحق هذا الشعب، هو: (الكيان الإسرائيلي)، كيف نشأ هذا الكيان؟ كيف نمت وترعرعت تلك الغدة السرطانية في وسط هذه الأمة؟ كيف تمكنت أن تصل إلى ما وصلت إليه هي في نفسها، وفي ما تفعله بفئة من أبناء العالم الإسلامي، جزء من الأمة العربية والإسلامية، قطعة من المنطقة الإسلامية، كيف تمكنت من كل ذلك، وبكل بساطة على مدى كل هذه العقود من الزمن؟
لا تنظر إلى هذه المشكلة إلى أنها مشكلة عادية أبدًا، لا يوجد سبب لأن يتمكن ذلك العدو من أن ينمو، ويترعرع، ويبني نفسه، ويصل إلى ما وصل إليه، ويفعل كل ما يفعله من دون أن يكون ذلك بسبب خللٍ في واقع هذه الأمة الإسلامية بنفسها، في واقع هذا المحيط الكبير العربي والإسلامي، الذي شعب فلسطين جزءٌ منه، وأرض فلسطين جزءٌ من جغرافيته، انظر إلى أن هناك مشكلة في هذا الطرف الآخر، كيف بقي كل هذا المحيط الواسع الذي هو مُشَكَّل من مئات الملايين من الناس، والذي يمتلك من القدرات البشرية والمادية والإمكانات ما بإمكانه لو اتجه برؤية جادة، وتوجه جاد، وبمسؤولية فعلية، وبصدق إرادة، إلى أن يعالج هذه المشكلة في أسرع وقت، وأن ينهي تلك المظلومية في أقرب فرصة، المشكلة ليست طبيعية، المشكلة تدعو إلى التأمل، إلى أن ندرك أنَّ وراء هذا الخلل خلل يعود إلى مبادئ، إلى قيم، إلى منظومة نُسِفت، منظومة من: المبادئ، والأخلاق، والقيم، والتعليمات، نُسِفت وقوِّضت من واقع هذه الأمة، أضاعتها الأمة؛ فضاعت، وتحوَّلت إلى أمة لا فاعلية في مواجهة التحديات والأخطار الحقيقية والفظيعة والرهيبة، والتي لا يمكن أن نتجاهلها، إن تجاهلناها لم تحتل المشكلة، تبقى المشكلة قائمة، بل تتعاظم، وتكبر، وتعظم، وتصل إلى مستويات خطيرة جدًّا.
عندما تشاهد كل تلك المآسي على الشعب الفلسطيني، وترى واقع هذا المحيط بكله، المحيط العربي، المحيط الإسلامي المتشكل من أكثر من مليار مسلم، والذي يمتلك من القدرات والإمكانات المادية الهائلة ما يمكنه من مواقف كبيرة جدًّا، من حضور عالمي كبير، من التصدي لأخطار كبيرة جدًّا، لماذا هذه الأمة الكبيرة في إمكاناتها وقدراتها، والكثيرة في عددها وعديدها، والواسعة في جغرافيتها، لماذا هي ضعيفة إلى هذا الحد الذي عجزت فيه عن التصدي لتلك المشكلة وتلك المظلمة، وحل هذا الإشكال، وتخليص ذلك الشعب، الذي هو جزءٌ منها، جزءٌ من هذه الأمة، مما يعانيه من هذا الظلم على مدى كل هذه العقود من الزمن.
هذه الأمة فيما تعانيه من ضعف في الفاعلية، في الأداء، في الموقف، من انعدام الاحساس بالمسؤولية، من ضعف في الوعي، من اهتمام كبير جدًّا وصل بها أن هبطت دون مستوى بقية الشعوب والأمم، يعني: عندما نتَّجه بأنظارنا إلى البلدان الأخرى، إلى الشعوب الأخرى، إلى الأمم الأخرى، إلى الصين مثلًا، أوليست الصين تسعى اليوم إلى أن تكون في قدرتها، في استقلالها، في قوتها، في حريتها، في إمكاناتها، في حضورها العالمي… منافسًا وندًّا لأمريكا، أوليست تسعى لذلك؟ بلى، تسعى. وهل واقع الصين- مثلًا- كأمة، وكمجتمع، وكدولة في مسار حياتها، فيما هي عليه من: تعزز، واستقرار، وتمكّن، واقتدار، ونهضة، يمكن أن نساوي بينه وبين الواقع العربي، الذي هو يتجه إلى الأسوء في مشاكله وتعقيدات وضعه؟!
إذا جئنا لنتأمل- مثلًا- الواقع الروسي، لماذا العرب- مثلًا- ليس لديهم مسار كهذا، أن يتجهوا ليكونوا أمة موحَّدة، أمة مقتدرة، أمة قوية، أمة عزيزة، أمة ذات مَنَعَة، أمة في مستوى مواجهة التحديات والأخطار، أمة تتصدى للسيطرة الأمريكية، والهيمنة الأمريكية، والطغيان الأمريكي؟ بل أكثر بلدان المنطقة العربية يتجهون اتجاه مختلف كليًا: الإذعان، الخضوع، الاستسلام لأمريكا، إعطاء أمريكا كلما تريده… الخ. هذا الواقع ليس واقعًا طبيعيًا أبدًا.
عندما ترى أشجار الزيتون تقلع في فلسطين، عندما ترى الأراضي تؤخذ وتغتصب، عندما ترى القتل اليومي لذلك الشعب المستضعف المظلوم، عندما ترى المقدسات مهددة، وتقتحم يوميًا، وعلى رأسها المسجد الأقصى الشريف، عندما ترى كل أشكال الظلم هناك، اعرف أنَّ السبب في واقع هذه الأمة التي تنظر إلى تلك الأحداث- ومع الوقت- إلى أنها أحداث روتينية، والكثير يتعامل معها ببرودة، وينظر إليها نظرة الاستبساط واللامبالاة والتجاهل، اعرف أن هناك مشكلة، هذه المشكلة تعود إلى بُعدِ هذه الأمة عن مبادئ وقيم ومعالم أساسية، حينما أضاعتها ضاعت، وحينما فرَّطت فيها وصلت إلى ما وصلت إليه من المشاكل التي هي كثيرة جدًّا، وتعقيدات كثيرة، وخلل، وعندما ترى التعافي يدبُّ في جسد هذه الأمة، وترى كيانات نهضت، هذه الكيانات التي تنهض في وسط هذه الأمة؛ إنما نهضتها هذه بقدر ما عادت إلى تلك المبادئ والمعالم الرئيسية، ومن يعود من أبناء الأمة إلى تلك المعالم الرئيسية- فعلًا- سيرى واقعه يبدأ بالتغير: في طبيعة التوجه، في طبيعة الموقف، في طبيعة المسار الذي يتحرك على أساسه.
طبعًا، إذا جئنا لنقول: كيف غابت تلك المعالم والقيم من أوساط هذه الأمة، ما هو السبب، هل لأن حضورها- مثلًا- في القرآن الكريم، الذي هو المنهج الأساس المفترض لهذه الأمة، كان حضورًا ضعيفًا، بسيطًا، مثلًا: مجرد إشارات في نصوص قرآنية، تُلمِّح من بعيد إلى أهمية الجهاد، إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أهمية العمل لإقامة الحق والعدل والقسط في هذه الحياة، إلى ضرورة أن تكون هذه الأمة أمة موحدة ومعتصمة بحبل الله، وأن تترك التنازع والاختلاف فيما بينها، وأن وأن… الخ. هل إعطاء مسألة الوعي، والبصيرة، والفهم، الصحيح، والحكمة، والرشد، والنضج الفكري، هل هي مسألة في القرآن الكريم هامشية، وقليل من الآيات تشير من بعيد البعيد إليها، أم أنَّ الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” كذلك لم يركِّز على هذه المسائل والأمور، ولم تكن بارزة في سياساته، في أعماله، في مساره العملي، في حركته؟ الأمر ليس كذلك.
العودة إلى القرآن- كما قلنا- يرى الإنسان في القرآن الكريم حضورًا كبيرًا، ومساحة كبيرة جدًّا تركِّز على جانب المسؤولية، على المبادئ الرئيسية، على المعالم الأساسية، وتعطيها أهمية كبيرة جدًّا، وأهمية قصوى، كثير من الآيات القرآنية، وبأكثر من أي مواضيع أخرى.
عندما تعود إلى الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، ترى أنَّ الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” كان أكثر اهتمامًا عمليًا وفعليًا وقوليًا، وفي نشاطه وحركته بتلك المسائل أكثر من أي مسائل أخرى، وأنها بارزة جدًّا وواضحة جدًّا فيما وثَّقه القرآن الكريم بشكل توجيهات أتت إلى الرسول، أو فيما تحدث به عن الرسول، أو فيما نقلته السِّير ونُقِل لنا عبر التاريخ، كل ذلك يظهر فيه رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” أنه عمل بشكلٍ أساس على أن يبني الواقع الإسلامي تحت قيادته، وتحت رايته، ليكون واقعًا مستقلًا وحرًا، ومبنيًا على تلك المبادئ والأسس العظيمة والمهمة، كان يبذل كل جهده لأن تكون الأمة- تحت قيادته- أمة متحررة كليًا، ومستقلة بشكلٍ خالصٍ وتام عن أي تأثيرات وارتباطات بالأمم الأخرى والاتجاهات الأخرى، فلم يكن لليهود أي تأثير لا في رسول الله، ولا في حركته، ولم يكن يقبل، وكان يحارب أي تأثير يصل إلى أطراف هنا أو هناك في الساحة الإسلامية، ثم كذلك بقية الفئات والجهات؛ فكان الإسلام- تحت راية الرسول- إسلامًا مستقلًا، الأمة فيه تخضع وتتجه بناءً على معالم هذه الدين وأسس هذا الدين بشكلٍ مستقل، طبعًا كانت تبرز بعض الظواهر السلبية من هنا أو هناك في داخل المجتمع الإسلامي، لكنها ظواهر سلبية تبقى محسوبة على تلك الجهات: فئة المنافقين، فئة الذين في قلوبهم مرض، فئة ضعيفي الإيمان، ناقصي الوعي، وكان النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” يحارب تلك الظواهر، ويسعى لاحتوائها، ويعمل على معالجتها، ويسعى للحد من تأثيرها في الساحة الإسلامية، والنصوص القرآنية الكثيرة جدًّا تأتي- كذلك- وتتجه بالنقد، وتتجه- أيضًا- بالموقف تجاه هذه الظاهرة أو تلك، هنا أو هناك.
فمثلًا: عندما عمل الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” أن يتحرك بالأمة لتجاهد، كان هناك من يعترض على ذلك، كان هناك من يسعى إلى تقويض هذه المساعي والجهود لتحريك الأمة، لتكون أمة قوية ذات مَنَعَة، تتصدى لأعدائها، تواجه الأخطار والتحديات، ومن يسعى إلى تثبيط الناس، وإلى توهين عزائمهم، وإلى الإرجاف عليهم، وإلى السعي لمنعهم عن التحرك، من الذي كان يسعى هذا السعي، من الذي كان يتحرك هذا التحرك؟ فئة سمَّاها القرآن الكريم بالمنافقين، الذين كانوا يطلقون كل عبارات التثبيط والإرجاف؛ بغية تثبيط المجتمع عن التحرك للجهاد في سبيل الله. عندما يعمل الرسول على إقامة العدل وإقامة الحق في أوساط الأمة، كان البعض من هنا، أو البعض من هناك يعترض، يشكك، حتى الإساءة إلى الرسول كانت تحصل من البعض، بحسب ما ورد في سورة التوبة، حتى إطلاق الشائعات والدعايات من شخصيات وأطراف وفئات تنتسب للإسلام، تنتسب، تقول: [أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله]، أبرز هذه الفئة هي فئة المنافقين الذين قال الله عنهم: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون: الآية1]، فئة المنافقين، فئة الذين في قلوبهم مرض، فئات أخرى كان يحصل عندها نقص وعي، ضعف إيمان، قصور في جوانب معينة؛ فتتراجع عن مواقف، تتأثر بمواقف، تتأثر بشائعات، فالظواهر السلبية كانت تحصل وتحدث، والاعتراضات والانتقادات والشائعات والدعايات كانت تحصل في داخل المجتمع الإسلامي، لكن تُعَبِّر عن مَنْ؟ عن منهج الإسلام؟ لا. عن الرسول؟ لا. عن القرآن؟ لا. والرسول كان يتحرك بالقرآن لاحتواء تلك الظواهر، والتصدي لها، والعمل على الحد من تأثيرها في الساحة الإسلامية وفي المجتمع المسلم، إلى درجة أنَّ الله أمره بمحاربتها، وإلى درجة أن يصل في مرحلة من المراحل إلى مواقف حاسمة جدًّا، من مثل قول الله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}[الأحزاب: الآية60]، إلى هذه الدرجة وصلت الأمور في العمل على الحد من تأثير تلك الفئات، وخلخلتها للساحة الإسلامية من الداخل، وصلت إلى هذا الحد من المباينة الشديدة، إلى درجة أن الله قال للنبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}[التوبة: من الآية73]، يأتي الحديث عن الجهاد ضد المنافقين إلى جانب الحديث عن الجهاد ضد الكفار، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.
وهكذا نجد أنَّ الظواهر السلبية التي سعت إلى التأثير على الأمة في استقلالها وحريتها، وإلى زرع ولاءات في داخل الأمة لأعدائها، وخلخلة استقامة الأمة في الولاء، في الموقف، في الاتجاه، في المشروع العملي، في برنامج الحياة… الخلخلة في كل هذه الأشياء كانت في العصر الأول في عهد الإسلام، في الصدر الأول للإسلام، في عصر رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” بشكل ظواهر سلبية تتبناها فئات محددة، مسمية بمسميات قرآنية، أمَّا الرسول فكان يواجهها، ويتصدى لها، ويتغلب عليها، يتغلب عليها فيواصل برنامجه في الحياة، واصل المسار الجهادي، لم تتمكن من تعطيل هذا المسار، واصل العمل على بناء قواعد الإسلام؛ ليسود هو في شرعه، وفي نهجه، وفي سياسته، وفي أخلاقه، وفي قيمه، ويهيمن في الساحة، ويسيطر في الساحة، ونجح في ذلك نجاحًا عظيمًا.
فما الذي حصل؟ ما الذي حصل في واقع الأمة فحصل هذا التدهور الذي وصل بنا إلى مستوى أن مئات الملايين من أبناء الأمة اليوم غابت عنهم هذه المبادئ، ليس عندهم مشكلة لا من تبعية، ولا من سيطرة طاغوت، ولا من ولاء لليهود والنصارى، ولا من خنوع للطغاة والمجرمين، وباتت أزمة الوعي تمثِّل أزمة كبيرة جدًّا في واقع الأمة، والأفكار الظلامية تطغى على أذهان الكثير من الناس، وعلى تفكير الكثير من الناس، وو…الخ. وبات الظلم والمعاناة يطغى على واقع الأمة، ما الذي حصل؟ هناك انحراف كبير حصل، ليس ما يحدث اليوم هو وليد هذا العصر، أننا فجأة استيقظنا في هذا الجيل، فوجدنا أنفسنا- في يومٍ من الأيام- وقد تغيَّر كل شيء، كان هناك عدل قائم في واقع الأمة، في كل واقع الأمة، وبسرعة، مجرد أن استفاقت الأمة- في يوم من الأيام- من نومها فإذا هي تغرق في كل هذا الظلام والظلمات. لا، والمعاناة والمظلومية، لا.
هناك مشكلة متقادمة، يمكننا القول: أنَّه منذ أن وصل بنو أميَّة إلى السيطرة على مقاليد الحكم في الأمة، وتولوا هم إدارة شئون هذه الأمة، فإنَّما حدث نتيجة ذلك كان كارثة، كارثة في حق هذه الأمة، كان مصيبة كبرى، وأسس لتحول سلبي جدًّا في مسار الأمة، استمر في سلبيته، وتعاقب في سلبيته جيلًا بعد جيل، إلى أن وصل إلى عصرنا هذا فيما هو عليه.
لم تكن مسألة بسيطة ولا سهلة، عندما وصل بنو أمية إلى السلطة، وتحكَّموا بشؤون هذه الأمة، وتولوا إدارة شؤون هذه الأمة، معنى ذلك: أنهم أسَّسوا لمسار جديد يُفرِّغ الإسلام من مضمونه الجوهري والمهم والعظيم والمثمر في واقع هذه الحياة، ويحوِّل الإسلام إلى حالة شكلية، وطقوس يتمكنون من استغلالها، وتتأقلم ليتواجد معها كل شيء: صلاة، لكن يتواجد مع هذه الصلاة فحشاء، ومنكر، وظلم، وطغيان، وإجرام… صيام، ولكن لا يثمر ثمرته بالتقوى، ويوجد مع هذا الصيام كل أشكال الفجور في واقع الأمة، وهكذا إسلام يقبل بالظلم، ويجعل طاعة الطغاة والظلم والجائرين جزءًا من تشريعاته وتعليماته، وهذا زورٌ على الإسلام، وليس بحقيقة على هذا الإسلام، لكن عملية تزوير، عملية تزييف، عملية تجوير، عملية وصفها الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم”- بما ذكرناه من كلامه كثيرًا في كثيرٍ من المناسبات- أنَّهم عندما يتمكنون ماذا سيفعلون بهذه الأمة؟ (اتَّخَذُوا دِينَ اللهِ دَغَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا، وَمَالَهُ دُوَلًا)، هذه الكارثة في الاتجاهات الثلاثة، بدءًا بالدين نفسه؛ لفصل الأمة عن كل المفاهيم المهمة، المصلحة في واقع الحياة، التي تشكِّل عائقًا وحائلًا بين الطغاة وبين سيطرتهم على هذه الأمة، وبين تقبل هيمنتهم واستغلالهم وسيطرتهم لهذه الأمة.
ولذلك نحن سنسير- إن شاء الله- في حديثنا خلال هذه الأيام، بعد أن نعود- أيضاً- نعود عودة إلى مسار الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” ضمن المعالم الرئيسية للإسلام، وما ورد عنها في القرآن الكريم، ثم نتحدث بالتالي فيما يصل بنا إلى الحديث عن ذكرى استشهاد الإمام الحسين “عليه السلام”، عن نهضته وجهاده وما عاناه، وعن تضحيته، وعن أسباب ما حدث في عاشوراء.
نعود الآن إلى ما قلناه في حركة الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، فيما كان بارزًا وواضحًا وظاهرًا وبينًا فيما يتعلق بتلك المعالم الأساسية، ومنها ما يتعلق بالمسؤولية، بالجهاد، عندما نرى أنفسنا اليوم وكأن والكثير منا يعيش في واقعه حالة التنصل التام عن المسؤولية، وكأننا أمة لسنا معنيين بشيء، وليس علينا أي مسؤولية تجاه ما نعانيه في واقعنا من ظلم، ومن معاناة، ومن استهداف، وما نواجهه من تحديات وأخطار، وما تعانيه الأمة هنا أو هناك، الكثير من أبناء الأمة الإسلامية يعتبر نفسه غير معنيٍ بشيء، فئة واسعة من أبناء الأمة تنظر هذه النظرة السلبية والخاطئة.
حينما نعود- كما قلنا بالأمس- إلى سورة واحدة من سور القرآن الكريم، هي سورة التوبة، كيف هو الاستنفار للمسلمين في مواجهة التحديات والأخطار؟ الرسول واجه الروم كخطر يهدد الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وتحرَّك، وأتت الكثير من الآيات لاستنهاض المسلمين، اليوم يواجه المسلمين ما هو أخطر من الروم في ذلك الزمن: (الخطر الامريكي، الخطر الصهيوني) بنفسه، وبما معه من أذرع، وأيادٍ إجرامية، وعملاء يتحركون معه من أبناء الأمة.
في مواجهة هذا الخطر، هل من الصحيح أن نتجه إلى السكوت، والجمود، والاستسلام، والخنوع، والتجاهل لهذا الخطر، أم أنَّ القرآن الكريم يربينا كمسلمين على أن نحمل الشعور بالمسؤولية، وأن نستشعر المسؤولية على نحوٍ عظيم، على نحوٍ لا مثيل له أبداً؟ لو اتجهنا إلى القرآن الكريم هذا الاتجاه الإيجابي: بالتفهم، والتأمل، والتقبل، والاهتداء بآيات الله، والحذر من الإعراض عن القرآن الكريم ونصوصه؛ لاتجهنا في هذه الحياة بكل جدية، ولكنا فعَّالين، ومهتمين، ونشطين، ومتحركين في تحمل المسؤولية، وفي التصدي لكل هذه الأخطار، ولما كانت ظاهرة الجمود هي الظاهرة الغالبة، والمسيطرة والمتحكمة بكثير من أبناء الأمة.
الله “سبحانه وتعالى” حينما قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة: 38-39]، هذه التربية في النص القرآني، هذ الاستنهاض يُحيي فينا روح المسؤولية، والاستشعار للمسؤولية، والتربية على التحمل للمسؤولية؛ فننظر إلى أهمية المسؤولية فوق كل أهمية، فوق أهمية حتى الحفاظ على هذه الحياة، حتى الحرص على أن تبقى سليمًا، بعيدًا عن الأخطار، ألَّا تدفع ثمن تحمل المسؤولية، حتى لو كان الشهادة في سبيل الله، إنك تنظر إلى أنَّ قيمة المسؤولية وأهمية المسؤولية حتى فوق قيمة وجودك في هذه الحياة، وأنَّ وجودك في هذه الحياة، وسلامتك من احتمال القتل، أو الجرح، أو الضرر نتيجة تحملك للمسؤولية، أنَّ هذا الوجود الذي عطَّلت فيه جانب المسؤولية لا قيمة له أبدًا، لا قيمة له نهائيًا؛ لأنه سيتحول إلى وجود ذلة، استسلام، استباحة للعدو، وقد تخسر- في نهاية المطاف- حياتك، وتخسر كل شيء، ومن دون مقابل، من دون أثر، من دون فائدة، من دون أي نتيجة، والنتيجة هي أن تخسر- أيضًا- مستقبلك في الآخرة، إذا اتجهت لتعطيل المسؤولية، وتنصلت عن هذه المسؤولية، وفررت منها، وتهرَّبت منها بهدف الحفاظ على وجودك في هذه الحياة؛ لأنك تخشى الشهادة، حينها أنت تخسر مستقبلك الأبدي، حياتك السعيدة للدائم والأبد، أنت تخسر آخرتك، أنت بهدف الحفاظ على هذه الحياة الدنيا تخسر آخرتك، والإنسان المؤمن يُرَبَّى في القرآن أن يعطي أهمية- قبل كل شيء- لحساب مستقبله الدائم عند الله “سبحانه وتعالى”.
ثم أنت مهدد بالوعيد الإلهي، {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، وهذا العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وما تخشاه من الناس فعطَّلت به مسؤوليتك، وعصيت الله؛ أنت تعرِّض نفسك لما هو أخطر منه، وهو عذاب الله “سبحانه وتعالى”، إذا كنت تخشى عذاب الناس، إذا كنت تخشى ما يحدث من جانبهم، من ضُرِّهم، من شرِّهم، فتتنصل عن المسؤولية، وتعصي الله “سبحانه وتعالى”، وتخالف توجيهه، وترمي بتوجيهه عرض الحائط، وتتجاهل أوامره من أجل أولئك الطواغيت والمجرمين؛ فأنت هنا تسبب لنفسك سخط الله، وعذاب الله، وهو يتوعدك بالعذاب، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: من الآية37]، ولذلك يقول الله في آيةٍ أخرى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}[التوبة: من الآية13]، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: من الآية175].
عندما نأتي إلى نصٍ آخر في القرآن الكريم، وهو يربينا على أن نكون في وعينا وإدراكنا لقيمة التحمل للمسؤولية، وما له من نتائج وآثار مهمة وعظيمة في الدنيا والآخرة، إلى درجة أن نحب هذه المسؤولية، أن نتعلَّق بها، أن نتجه فيها بكل رغبة، بكل انشداد نفسي ووجداني، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة: الآية24]، هذه الآية تتضمن موضوعًا مهمًا جدًّا، هي تدُّلنا، تعرفنا، تبين لنا، كيف يجب أن نصل في مستوى وعينا بأهمية القيام بالمسؤولية، والنهوض بالمسؤولية، هذه المسؤولية بحساب أنها تقربنا من الله، وهذا موضوع مهم عند كل إنسان مؤمن، كل إنسان مؤمن يهمه كل عمل يحظى من خلاله بمرضاة الله، يقربه إلى الله “سبحانه وتعالى”، أضف إلى ذلك أنَّ لها أهمية كبيرة في واقع الحياة، الأمة إذا كانت أمة متحرك، تواجه الأخطار والتحديات، تتحمل المسؤولية وتجاهد، والجهاد في سبيل الله ليس عملًا عدوانيًا إجراميًا على نحو ما عليه القوى التكفيرية. لا، هو عمل تتحرك به الأمة لتدافع به عن نفسها، عن مبادئها، عن كرامتها، عن حريتها، عن استقلالها، عن أرضها، عن عرضها، هو التحرك الذي تتحرك به لتواجه التحديات والاخطار الآتية- أصلًا- الآتية أصلاً من قوى الشر، من قوى الإجرام، من قوى الطاغوت، من قوى الطغيان، التي تبتدأ هي بعدوانها، وتتجه إلى الناس- ابتداءً- بشرها، تتجه الأمة حتى تتمكن من أن تحوط نفسها، وتحافظ على عزتها واستقلالها وكرامتها، وتدفع عن نفسها ذلك الخطر؛ تنطلق بهذه الفريضة، بهذه المسؤولية: بآدابها، بمبادئها، بقيمها، بأخلاقها، بتشريعات الله فيها، هذا هو الجهاد في سبيل الله، ليس معناه: دفاع عن الله “سبحانه وتعالى”. لا، الله غنيٌ عن العالمين، وغنيٌ عن عباده، بإمكانه أن يسلب أولئك حياتهم، كل قوى الطاغوت والإجرام، كل المجرمين، والمضلين، والفاسدين… كل قوى الإجرام يمكن أن يسلب منها حياتها في طرفة عين، يمكن أن يسلط عليها جراثيم لا ترى بالعين المجردة؛ فتفتك بها وتقضي عليها، يمكن أن يفعل بهم أيَّ شيء، نحن من نستفيد من الجهاد، من يمثِّل وسيلة دفع للأخطار تلك، للشر من قوى الشر…الخ.
فإذًا، نحن عندما نعود إلى النص القرآني: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ}، كل من تربطنا بهم أواصر القرابة، هذه الأواصر والروابط الإنسانية، وهم أغلى الناس عندنا، والأحب إلى قلوبنا وأنفسنا، ثم بقية الإمكانات المادية، أهم ما ترتبط به في هذه الحياة في محيطك بكله: أقرباؤك، مالك، منزلك… كل هذه لا ينبغي أن تكون أحب إليك لا من الله؛ وبالتالي في الاستجابة لله، أنت تستجيب لله “سبحانه وتعالى”، وتجعل استجابتك لله فوق كل اعتبارٍ آخر، ولا أحب إليك من رسوله، ولا أحب إليك من الجهاد في سبيله.
أمة يفترض فيها بتربية القرآن أن يكون الجهاد في سبيل الله أحب إليها (أحب: تتحول لعلاقة محبة)، كيف تتحول إلى علاقة محبة تفوق الحب لأي شيءٍ آخر في هذه الحياة؟ عند إدراك قيمة المسؤولية، أهمية المسؤولية، ثمرة المسؤولية، في علاقتنا بالله “سبحانه وتعالى”، وفي القرب من الله، وفي المنزلة عند الله، والأثر في واقع هذه الحياة، هذه المسؤولية التي إن عُطِّلت نتج عن تعطليها أن تمتلئ حياتنا بالظلم، والهوان، والذل، والقهر، والمسكنة، وأن تتحول حياتنا هذه إلى جحيم، أن تتحول بيئة مفتوحة لتلعبات وإجرام قوى الطغيان والإجرام والظلمة والمفسدين.
إدراك قيمة هذه المسؤولية فيما يترتب عليها من نتائج في الدنيا، وفيما لها من نتائج في الآخرة أيضًا، ما نكسبه في آخرتنا، فيما وعدنا الله به: من رضوانه، من الفوز بالقرب منه، من الكرامة عنده والزلفى لديه، من الجنة التي عرضها السماوات والأرض، بل حتى ما وعد به الشهداء أن يمنحهم حياةً سعيدةً بالعاجل، حتى قبل يوم القيامة، إلى حين قيام الساعة…وهكذا.
يفترض في واقعنا هذا الذي نعيشه، أنَّ الله فيما تحدث به، وهو حديث واسع في كتابه الكريم، يحبب إلينا القيام بهذه المسؤولية؛ فنتجه فيها برغبة، ندرك جدوائيتها، أهميتها، الحاجة الملحة والماسة إليها؛ فنتعلق بها هذا التعلق، فتكون أحب إلينا حتى من الآباء، والأبناء، والأخوة، والزوجة، والعشيرة، والمسكن، والتجارة…إلخ.
هناك نص- أيضًا- في القرآن الكريم يبين لنا كيف يجب أن نكون في واقعنا كأمة تدرك أن عليها مسؤولية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية71]، (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ): بينهم هذه الرابطة التي يتحركون فيها كأمة واحدة، متآلفة، متعاونة، تتحرك للنهوض بهذه المسؤولية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، ولا يتحولون هم إلى ساحة مفتوحة أمام قوى الشر والمنكر والطغيان، لتفعل في ساحتهم ما تشاء وتريد، مسؤولية أساسية، تعطيل هذه المسؤولية يحوِّل الساحة إلى ساحة مليئة بالمنكرات، والمنكرات ما هي، هل هي أشياء عادية، أشياء طبيعية، أم هي كوارث ونكبات، أم هي ذات أثر سلبي جدًّا في واقع الحياة: في تفكيك المجتمع، في الفتك به، في إلحاق أبلغ الضرر به في اقتصاده، في أمنه، في استقراره؟ المنكرات منها ما نفقد بسببه أمننا، منها ما يفكك مجتمعاتنا، منها ما يؤثر على اقتصادنا، كل المنكرات هي تمس بالناس في حياتهم، ليست مسألة فقط تؤثر علينا لعالم الآخرة، تسبب لنا آثام هناك في الآخرة، هذا يحصل، ولكن لها آثار وأضرار تتجه إلى واقع الحياة في جانب الأمن والاستقرار، في الجانب الاقتصادي، في الاستقرار الاجتماعي، الاستقرار السياسي، الاستقرار في كل شؤون وواقع الحياة.
فإذًا، يمكننا أن ندرك أنَّه حصل انحراف كبير في واقع الأمة، عطَّل في هذا الواقع المعالم الأساسية والمبادئ الرئيسية التي تصلح واقع الحياة وتحمي الأمة: تحمي الأمة من الظلم، تحمي الأمة من الطغيان، تحتوي كل الظواهر السلبية، وتقلص منها، وتحد من أن تكون هي الحالات المسيطرة في الواقع العام؛ لأنه للأسف بدلًا من أن تكون في عصر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” مجرد ظواهر تظهر هنا أو هناك في الساحة، ثم تحارب وتحتوى، ويتم السيطرة عليها، ولا تصل إلى درجة التعطيل لمسيرة الأمة، في نهاية المطاف ومنذ أن حكم بنو أميَّة، وتحكَّموا بالأمة؛ تمكَّنوا من العمل على حذف وشطب تلك المعالم من الساحة الإسلامية، وبرزت تلك السلبيات البديلة، تلك البدائل عن تلك المعالم، بدائل ظلامية، بدائل خطيرة جدًّا، لتتحول هي إلى حالة مسيطرة في الساحة الإسلامية، وحاكمة في الساحة الإسلامية، ومتحكمة بالساحة الإسلامية، ومؤثرة على المجتمع المسلم؛ فأوصلته إلى ما وصل إليه.
وطبعًا، في مسيرة الأمة بكلها بقي هناك خط يمثِّل الامتداد الأصيل للمنهج الإلهي، لحركة الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” متمثلًا بالإمام علي “عليه السلام”، متمثلًا بالإمام الحسن “عليه السلام”، متمثلًا بالإمام الحسين “عليه السلام”، متمثلًا بأهل البيت والصالحين من أبناء هذه الأمة عبر التاريخ، لكنه كان مسارًا محاربًا، حفظ للحق وجوده، وحفظ للحق امتداده في الأمة جيلًا بعد جيل، ولكن الطرف الآخر سيطر من موقع السلطة، من موقع القرار في الأمة، من موقع السيطرة على هذه الأمة في مواردها وإمكاناتها؛ فكان له نتائج سلبية جدًّا لها أبلغ الضرر، ولها الأثر السلبي جدًّا في واقع الأمة، هو الذي نراه اليوم فيما نراه من مظلومية كبيرة على شعوبنا المظلومة، ومعاناة بكل أشكال المعاناة؛ فندرك أن تحركنا لإحياء تلك المعالم البارزة والأساسية في حركة الرسول والقرآن، وفي امتدادها الأصيل المعبِّر عنها في أخيار هذه الأمة عبر التاريخ، هو تحركٌ ضروريٌ لنواجه ما نواجهه وما نعاني منه من أخطار وتحديات تمس بحياتنا وواقعنا وشؤوننا بشكلٍ مباشر: في الوضع الاقتصادي، في الوضع الأمني، في الوضع السياسي، في الواقع الاجتماعي، في كل مجالات الحياة.
نكتفي بهذا القدر…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وان يعيننا على طاعته، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛