المحاضرة الرمضانية الثالثة والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1439هـ
مع عباد الرحمن في سورة الفرقان
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في سورة الفرقان في مواصفات عباد الرحمن المتقين، ونستدرك في هذه المحاضرة مثالين على ضوء الآيات التي تلوناها في المحاضرات الماضية.
قبل البداية.. ملاحظتان مهمتان:
كنا أشرنا في محاضرة من المحاضرات الماضية إلى قول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}[لقمان: من الآية19]، واحدة من الأخلاق المهمة والآداب العظيمة هو هذا الخلق، وهذا الأدب الرحيم: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، تحدثنا عن أمثلة فيما يتعلق بهذا الموضوع، ونستدرك مثالًا واقعيًا، عادةً في المناسبات الاجتماعية، لا سيما في الأعراس، يستخدم الكثير مكبرات الصوت، وفي بعض الأحيان يستخدمونها في الليل، في حارة معينة، بالذات في المدن مثلًا، وهذا يحصل في بعض المدن، حارة معينة، أو شارع معين، أو في منطقة آهلة بالسكان يستخدمون مكبرات الصوت بشكل قوي، يعني: يأتون بمكبرات صوت قوية، يصل صدى صوتها إلى مدى بعيد، ثم خلال الليل يستمرون في احتفالهم بمناسبتهم التي هي عرس، أو أي مناسبة أخرى، يستمرون طوال الليل، سواءً بالأناشيد، أو الأهازيج، أو بعضهم باللهو، أو بغير ذلك، ويزعجون الناس على مستوى مثلًا حارة معينة، أو شارع معين، طوال الليل، مكبرات الصوت التي يصل صداها وإزعاجها إلى كل منزل، تؤذي الكثير من الناس، قد يكون هناك المريض، قد يكون هناك الإنسان المنشغل الذي إن أصيب بالأرق طيلة ليلته، يذهب في اليوم الثاني إلى عمله وهو متعب، حالة الانزعاج والتأذي التي تسود تحوِّل جو الآخرين المحيطين بأصحاب المناسبة إلى حالة من الانزعاج، بدلًا من أن يشاركوهم الفرح، يتحولون إلى منزعجين.
هذا يدخل في: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، سواءً الصوت بشكل مباشر، أو بالوسائل المستخدمة لرفع الصوت، مثل: مكبرات الصوت، على حسب التعبير المحلي (الميكرفونات)، فمهم أن يتعود الناس في مناسباتهم الاجتماعية أن يستخدموا إما سماعات داخلية، أو أن يخفضوا أصوات مكبرات الصوت، بحيث تؤدِّي دورها- مثلًا– في إسماع الحاضرين، بالذات إذا كانت المسألة في المساء، في الليل، وبالذات إذا كانت في أوقات ستسبب إزعاجًا للناس بغير ضرورة، لا يحتاج الإنسان إلى هذا، أن يزعج أهل حارة بأكملهم، أو أهل قرية بأكملهم طوال الليل، مثلًا: البعض باللهو، البعض بالأناشيد… ويمكن للإنسان أن يستخدم- مثلًا– مكبرات صوت: إما سماعات داخلية- كما قلنا- أو نحو منها، ويركِّز على أناشيد جيدة، مفيدة، وأهازيج- أيضًا– لا يدخل في المحظور.
على كلٍ هذه ملاحظة؛ لأن البعض من الناس في بعض المدن يستخدمون هذا الأسلوب المزعج للناس في مناسباتهم الاجتماعية، وسواءً كانت مناسبات أفراح أو غير ذلك، يعني: يدخل في {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} ملاحظة هذا الجانب، بالذات في غير شهر رمضان، وفي شهر رمضان ترعى حرمة شهر رمضان إلا بالمفيد والنافع، لكن حالة الازعاج غير مطلوبة يعني للناس بشكل يعود إلى مناسبات خاصة، مناسبات اجتماعية، وما شاكل.
أيضًا نستدرك فيما يتعلق بموضوع الإسراف، التنبيه على خطورة ما يعاني منه مجتمعنا المسلم، وبالذات- بالدرجة الأولى- داخل المجتمع الإسلامي مناطقنا في المجتمع العربي، هناك إنفاق هائل جدًّا على التدخين، ويصل هذا الإنفاق سنويًا إلى مليارات الدولارات، تخيَّلوا، في عالمنا العربي مجموع ما تنفقه شعوبنا على التدخين، سواءً في اليمن، في مصر، في دول متعددة، مجموع ما تنفقه هذه الشعوب على التدخين (تدخين السجائر) تصل كلفته إلى مليارات الدولارات في العام الواحد، هذا أمر فظيع جدًّا، إنفاق هائل جدًّا على شيء يضر بالناس ولا يفيدهم، وتذهب تلك الأموال في النهاية إلى صالح الأعداء، شركات أمريكية للتبغ أو للسجائر، شركات صهيونية، فيبيعون ما يضر بنا وما يضر بصحتنا، ما يجلب لنا الكوارث على المستوى الصحي، الكوارث الناتجة عن التدخين رهيبة جدًّا على المستوى الصحي، مثل السرطان، مثل أمراض القلب، مثل أمراض خطيرة جدًّا، تدمير للرئتين، أمراض كثيرة يتحدثون عنها، وأضرار كثيرة مقطوع بها ومؤكَّدة، يؤكِّدها الأطباء، يؤكِّدها المختصون، ومشهورة ومعروفة، ومعترف بها يعني، أن يصل الإنفاق على شيءٍ مضر، وليس مفيدًا، بل مضر بكل ما تعنيه الكلمة، سنويًا إلى ما يعادل مليارات الدولارات، ويصل هذا المال في النهاية إلى أعدائنا الذين يستفيدون منه في محاربتنا، في التآمر على شعوبنا، في أن يكونوا أقوياء في التسلط علينا، هذه فيها كوارث ومآسي متعددة: مأساة الهدر لأموال كثيرة جدًّا، وفيما يضر ثانيًا، هذه مأساة إضافية، وليس فقط في شيء- مثلًا– اعتيادي لا يضر ولا ينفع، شيء طبيعي، بل يضر أيضًا، وفيما يصل- أيضًا– إلى أعدائنا.
لو يأتي الإنسان ليقيم واقع الكثير من المدخنين، كم سيصل إنفاقه السنوي خلال العام؟ البعض يصل إلى أموال كثيرة، يعني البعض لا هو أنفق في سبيل الله لدعم قضايا أمته وقضايا شعبه، ولا هو أنفق في سبل الخير الأخرى: لفقراء، لمساكين، لصلة أرحام، ولا هو أنفق لأي شيء مهم له عائد إيجابي على دينه وعلى نفسه وعلى شعبه وعلى أمته، بقدر ما أنفق على التدخين، على ذلك الدخان الذي يستنشقه إلى رئته ليضر بجسمه كله، ويدخل من خلاله السموم إلى جسده، ثم يذهب بما بقي منه دخانًا يتطاير في الهواء، وهو ينفق عليه أشياء كثيرة، القضايا الرئيسية، المسؤوليات المهمة التي هي في إطار المسؤولية، سيحاسبه الله إن لم ينفق فيها، المسؤوليات التي بلغت درجة التشجيع على الإنفاق فيها في القرآن الكريم إلى درجة أن يقول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وهو الغني الذي له ملك السماوات والأرض، والغني الحميد، والذي بيده خزائن السماوات والأرض: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}[البقرة: من الآية245]، هل هناك عبارة أبلغ، أعظم، أكبر في التشجيع لنا على الإنفاق في مسؤولياتنا من هذه العبارة، أن يقول الله لنا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ}، اعتبرها قرضه، اعتبر ما أنفقته قرضه با يسلم لك الباري، سيدفع لك أضعافًا مضاعفة، هذا تشجيع كبير جدًّا، واللوم عظيم، والوزر كبير، إن لم نتجاوب، إن لم نستجب لله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى بعد كل هذا الحث، بعد كل هذا الترغيب، أن يقول لنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: من الآية195]، إن بخلتم عن الإنفاق في سبيل الله الذي هو حمايةٌ لكم، دفاعٌ عنكم، دفعٌ للخطر عنكم، دفعٌ للشر عنكم، حمايةٌ لكم من الاستعباد والإذلال والقهر والشر، إن بخلتم ألقيتم بأنفسكم إلى التهلكة بأيديكم الباخلة التي أمسكت عن الإنفاق.
هكذا نجد أن مجتمعنا بحاجة إلى أن يسترشد بكتاب الله، أن يهتدي بكتاب الله، بما يؤثر في سلوكه، في أدائه في هذه الحياة، في اهتماماته، في أولوياته، بما يرشِّد هذا المجتمع في كل تصرفاته، ومنها في الإنفاق، نحن بحاجة إلى ترشيد النفقات، وإلى الرشد في الإنفاق والتصرف المالي.
عباد الرحمن.. ثلاث من مواصفاتهم البارزة
ندخل في الآيات المباركة، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}[الفرقان: 68-71]، في هذه الآيات المباركة أتى بما يتضمن- أيضًا– النهي، وبما يؤكِّد على أن من الصفات والالتزامات البارزة في سلوكيات وأعمال وتصرفات عباد الرحمن المتقين المؤمنين، ثلاث قضايا يحذرونها ويجتنبونها ولا يتورَّطون فيها، وهي محرمة، ويتضمن هذا نهيًا، إضافة إلى تقديمه ضمن التزاماتهم العملية، فيما يجتنبون وفيما يحذرون؛ لأن هناك جانبًا نعمله، وجانبًا نتركه ونحذره في التزاماتنا الإيمانية.
أولاً: العقيدة الصحيحة
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}، لا يؤلِّهون آلهةً غير الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، لا في الشرك العقائدي، الذي يعتقد فيه الإنسان أن هناك آلهة أخرى، مثلما عليه معظم البشر اليوم، اليوم معظم البشرية، المليارات من البشر لا يزالون يعتقدون عقائد وثنية (عقيدة الشرك)، في دول كثير من العالم، وهذا الشرك العقائدي، يعني: هو يعتقد أن هناك تعددًا في الآلهة حسب عقائدهم الباطلة، وأن هناك آلهة غير الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى تضاف في سلم الألوهية عندهم الذي جعلوه مراتب ومتعددًا في ضلالهم الكبير جدًّا، طبعًا هذا من أكبر الضلال، ويترتب عليه انصراف عن رسالة الله، عن هدي الله، ولهذا الوثنيون والمشركون هم عادةً يتنكَّرون لرسالة الله بكلها، وينصرفون عنها كليًا؛ لأنهم لمَّا كانوا مشركين لم يقبلوا بالرسالة الإلهية بكلها، ترتب على شركهم انصراف كامل عن هدي الله، وإعراض تام عن نهج الله، ورفض كامل لشرائع الله ودين الله، وهذه القضية خطيرة جدًّا، يعني باطل كبير جدًّا، فيه تنكر لأكبر حقيقة، وهي التوحيد لله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى الذي هو أكبر الحقائق، ثم فيه على المستوى الحياتي والعملي انصراف كامل وتنكر كامل لهدي الله ودين الله، وكفر برسالته، فالمؤمنون المتقون هم منزَّهون وهم مجتنبون لهذا الكفر وهذا الشرك العقائدي.
الشرك العملي في الوسط الإسلامي
ثم- أيضًا- على المستوى العملي لا يؤلِّهون آلهةً أخرى؛ لأن هناك على المستوى العملي في خوفه، في رجائه، في طاعته، من يخاف غير الله أكثر من الله، من يرجو غير الله أكثر من الله، من يجعل طاعة غير الله أقدم عنده وأوجب وأهم من طاعة الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الشرك العملي يمكن أن يكون داخل حتى أوساط المسلمين، الشرك العملي، مثلما حالة الرياء، حالة الرياء هي شرك عملي، وتأتي كخلل كبير في الواقع العملي، الإنسان من خلالها لا يزال محسوبًا على الإسلام والمسلمين، ومحسوب من المسلمين، يعني: لا يحسب في معاملات الإسلام له على أنه مشرك حاله حال الوثني الخارج عن الملة. لا، يمكن أن يعيش الإنسان حالة الشرك العملي وهو منتسب للملة الإسلامية، ملته ملة الإسلام، والأحكام في المعاملات تجري عليه ومعه كمسلم؛ لأنه عقائديًا هو يوحِّد الله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكن مشكلته تأتي في هذه الحالة الإيمانية التي كان لديه فيها خلل كبير، فاتجه يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله)، مقتضى هذا أن يخاف من عذاب الله فوق كل شيء، أن يرجو الله فوق كل رجاء، وأن يستشعر عظمة الله فوق كل عظيم، وأن يتجه إلى الله بالطاعة، ويجعل طاعة الله فوق كل طاعة، إذا هو لم يفعل ذلك، بات عنده خلل إيماني كبير جدًّا، قد يسبب له حالة من الانحراف الخطير في الواقع العملي الذي يوصله إلى النار “والعياذ بالله”، قد يتحول إلى منافق، قد يتحول إلى فا%D