المحاضرة الثانية لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة المولد النبوي الشريف 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الجمعة في الحديث عن نعمة الله -سبحانه وتعالى- ومنَّته الكبرى ببعثة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ومرَّ بنا- بالأمس- الحديث عن نقاط مهمة وأساسية، وتحتاج الأمة إلى استيعابها بشكلٍ جيد؛ لتبني عليها تفاعلها المطلوب مع الرسالة الإلهية.
صلة التدبير والرعاية الإلهية بالهداية
الله -جلَّ شأنه- عندما قال في كتابه المبارك: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: الآية2]،الرسالة هي رسالة الله، والرسول هو رسول الله، والمنهج هو منهج الله -سبحانه وتعالى- برحمته، فما فيه من توجيهات وإرشادات وتعليمات من منطلق رحمة الله، من منطلق حكمته، من منطلق عزته، وله هذا الأثر في حياة الناس، إذا تمسكوا بهذه الرسالة فهي رسالة تتسم بالعزة، بالرحمة، بالحكمة، بالخير، بالصلاح، بالفلاح، يستفيد الناس منها، وليس هناك أي بديل يساويها أبدًا، أو يكون هناك مبرر للتمسك به بدلًا عنها، ثم أضف إلى ذلك أنها ترتبط بملك الله -جلَّ شأنه- لأنه هو ملك السماوات والأرض، ملك هذا العالم بكله، وهو- أيضًا– ملك الناس الذي له حق الأمر والنهي فيهم، والتشريع لهم، وإليه هدايتهم، {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: الآية12]، كما قال -جلَّ شأنه- في كتابه الكريم، هي مسألة تعود إلى الله -سبحانه وتعالى- والبشر يحتاجون إلى الله -جلَّ شأنه- في الهداية كما يحتاجون إليه في بقية أمور حياتهم، كما وهبهم الحياة، كما وهبهم الرزق، كما منَّ عليهم بسائر النعم المادية، والنعم المتنوعة والمتعددة التي لا تحصى ولا تعد، يحتاجون إليه في هذا الأمر: فيما يتعلق بالهداية، الهداية المتصلة بمسؤوليتهم في هذه الحياة، وواجباتهم في هذه الحياة، ونظم هذه الحياة بمنهج يتحدد لهم فيه ما يعملون وما يتركون، ثم المسألة يرتبط بها ثوابٌ وعقاب وجزاء، جزاءٌ على الإحسان بالإحسان، وجزاءٌ على الإساءة بالعقاب؛ لأن الله هو الملك، ومن عزته أن يجازي، وأن يعاقب، ولا يمكن أن يهمل، وأن يتركهم في هذه الحياة في حالةٍ من الفوضى والعبث.
ثم- كما أكدنا على نقطة أخرى بالأمس- المنهج الإلهي والرسالة الإلهية هي من جهة في كل ما فيها من: مضامين، وتوجيهات، وأوامر، وتشريعات، خيرٌ للإنسان، وصلاحٌ للإنسان، توجيهات حكيمة ورحيمة وخير لهذا الإنسان، وهي- كذلك- يرتبط بها جزاءٌ على الخير بالخير، وعلى الإساءة بالعقاب، وهي- كذلك- متصلة بتدبير الله ورعايته، يعني: ليست المسألة منحصرة في أنها توجيهات إيجابية للأخذ بها أثر إيجابي في واقع الحياة، وكذلك يتصل بها الجزاء في الآخرة: إما بالجنة ومرضاة الله، وإما بالنار وسخط الله إذا انحرف الإنسان وخالف نهج الله ورسالته.
المسألة- أيضًا- يتصل بها تدبير إلهي مباشر في كل نواحي الحياة، كما تحدثنا بالأمس على هذه النقطة، وضربنا بعض الأمثلة، من مثل قوله -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: من الآية96]، نجد هذه الرعاية الإلهية الواسعة والشاملة التي تدخل إلى كل شؤون حياتهم، إلى أرزاقهم، إلى مرافق حياتهم، تأتي مرتبطةً بهذا التفاعل الإيماني، والتقوى في التعامل مع رسالة الله -سبحانه وتعالى- والالتزام بها، نجد مثل قوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ∗ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، نجد مثل قوله -سبحانه وتعالى-: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: من الآية16]، وهكذا نجد كثيرًا من الآيات المباركة من مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: من الآية69].
فيأتي التدبير الإلهي والرعاية الإلهية متصلة بهذا الهدى، بهذا النور، بهذه الرسالة الإلهية، كلما اتجه الإنسان في جانبٍ من الجوانب يجد في ذلك رعاية إلهية تسانده، تُمِدُّه، تعينه، تيسر له، تحقق له الكثير من النتائج، هذا جانب مهم جدًّا وجذاب للغاية، جذاب بشكل كبير إلى الإتباع لهدى الله، إلى التمسك برسالة الله -سبحانه وتعالى- وليس هناك فيما يتجه إليه البشر من بدائل، أي شيء من هذا القبيل ليس له كل هذه المميزات الثلاث الكبرى، بحيث أن له إيجابية كبيرة جدًّا في واقع الحياة، إذا نُفِّذ، إذا طُبِّق، إذا اُلتزم به، وله نتائج عظيمة في الآخرة: سلامةٌ من عذاب الله، وفوزٌ بأعظم نعيم بالحياة السعيدة الأبدية، الجنة التي عرضها السماوات والأرض، التي هي مستقر أولياء الله، وعباد الله الذين استجابوا له في هذه الحياة، واتبعوا رسالته.
فإذًا، ليس هناك أي بدائل لهذه الإيجابية، لهذه القيمة، لهذه الأهمية، ويتصل بها رعاية إلهية مباشرة، وتدبير من الله -سبحانه وتعالى- متصلٌ بها، تنفذ توجيه الله -سبحانه وتعالى- مع تنفيذك لذلك التوجيه الإلهي تحظى برعاية مباشرة من الله -سبحانه وتعالى- {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهكذا تجد كثيرًا من الآيات المباركة التي تؤكِّد على هذا الجانب.
ما الذي يصرف الناس إلى بدائل ليس لها أي قيمة في جنب القيمة والإيجابية العظيمة للرسالة الإلهية، نجد هنا أيضًا في قول الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة: من الآية2]، أنها من أعظم النعم الإلهية أن يبعث الله رسولًا، فلا خلاص، ولا مناص، ولا حل لمشكلة البشرية فيما تعاني منه باتباعها لرموز آخرين، ولبدائل من الأطروحات والثقافات والقرارات والتوجهات والنظم كبدائل عن رسالة الله -سبحانه وتعالى- وبدائل عن رسل الله، لا خلاص لها بذلك، ولا فلاح، ولا خير، ولا نجاح.
نجاة البشرية، وفلاح البشرية، وصلاح البشرية، وحل مشاكل البشرية يتوقف على اتباع الرسالة الإلهية، وخلاصهم عن طريق الرسل والأنبياء، وما أتوا به، كل البدائل الأخرى هي ضياع، وتصنع المزيد من المشاكل، مهما امتلكت من إمكانات، مهما كانت سيطرتها في الأرض، في عصرنا هذا، في زمننا هذا جُرِبت بدائل لا تزال بعضٌ منها قائمة في واقع الحياة، وسلبياتها كبيرة جدًّا، جُرِبت الشيوعية بإخلاص وبقوة وبسطوة وبجبروت؛ فكانت نتائجها كارثية في كثيرٍ من أقطار العالم، وفي الأخير اضمحلت إلى حدٍ كبير، ودخلتها تعديلات كثيرة كثيرة كثيرة، حتى أصبحت بشكلٍ آخر، أضف إلى ذلك الرأسمالية- اليوم- التي تطبق على نطاقٍ واسع في واقع البشر، سلبياتها كثيرة جدًّا، مفاسدها كبيرة جدًّا، المشاكل الناتجة عن تطبيقها في واقع الحياة مشاكل كبيرة جدًّا، الانحرافات التي حصلت في ساحتنا الإسلامية إما انحرافات محسوبة على الإسلام نفسه، وهي محسوبةٌ بالخطأ، بالغلط، لا تمثِّل حقيقة الإسلام وحقيقة تشريعاته وتوجيهاته كما هي في القرآن الكريم، وكما أتى بها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بل هي نتائجٌ لتحريف، ولتضليل، ولأخطاء، ولغلط، وإما التأثر- أيضًا– بما يأتي من جانب الآخرين من خارج الأمة الإسلامية، من خارج الإسلام، كانت نتائجها سلبية كبيرة في واقع حياتنا كمسلمين، سلبية، ومعاناتنا منها إلى اليوم معاناة كبيرة، وتزداد يومًا بعد يوم، تتفاقم المشاكل وتعظم، وتطغى الحالة السلبية على واقع الحياة.
حكمة الله في إعداد الرسل
فيجب أن ننظر إلى أن نعمة الله عظيمة بالرسل، الرسل الذين يحظون بإعدادٍ إلهي، هم بهذا الإعداد لا يخرجون عن واقعهم كبشر، الرسول هو بشر، وهذه نعمة أنه من البشر؛ لأنه يعيش الجو البشري والواقع البشري في همه، في معاناته، في ظروفه، إضافة إلى الأنس به كإنسان من البشر يتحرك بواسطة الرسالة الإلهية فيما بينهم، ثم لأنه هو في واقعه في الحياة، وفي واقعه العملي يكون معنيًا أن يكون هو القدوة في الالتزام بهذه الرسالة، في التطبيق لهذه الرسالة، في أن يكون هو على رأس الأمة، على رأس البشرية ملتزمًا، معبِّدًا نفسه لله -سبحانه وتعالى- مؤمنًا، ولهذا يأتي في الآية القرآنية من مثل قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: الآية12]، وهكذا يأتي التعبير بـ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوَّلَ المُؤمِنِينَ، أَوَّلَ مَنْ أَسلَم، بهذه التعبيرات القرآنية التي تجعله هو القدوة في الالتزام، في التطبيق، في العمل، ليس كما هو حاصل في واقع البشرية، يأتي طاغية يفرض على الناس أنظمة وقوانين ولا يلتزم هو بها، ويكون هناك بعيدًا عن التزامات من هذا النوع، أما في واقع الرسل فهم الأكثر تعبيدًا لأنفسهم لله -سبحانه وتعالى- الأعظم طاعةً، الأكثر التزامًا، القدوة في الالتزام والتطبيق والخضوع لله -سبحانه وتعالى- واتجاههم إلى البشر من حولهم لا يكون قائمًا على أساس الاستعلاء، ولا التكبر، ولا الطغيان، ولا الاستبعاد، ولا الاستغلال. أبدًا، هو يتحرك كعبد لله -سبحانه وتعالى- وهو القدوة في تعبيد نفسه لله -سبحانه وتعالى- يبلغ رسالة الله إليهم، وفي نفس الوقت يتعامل مع الناس، يكون هو رحيمًا بهم، محبًا لهم، مريدًا للخير فيهم، لا مثيل له بينهم في مستوى الرحمة، واللين، والإحسان، والحرص على خلاصهم، وإرادة الخير لهم، مميزات مهمة لا توجد عند غير الرسل والأنبياء.
{رَسُولاً مِّنْهُمْ}، وكونه منهم هي نعمة عليهم، وحجة عليهم، ومسؤولية عليهم، هذا الرسول هل يتحرك مع ما أعطاه الله من كمال: ذكاء على مستوى عالي، ملكات ذهنية وفكرية على مستوى عظيم، حرص على الناس، حرص على إرادة الخير لهم، رحمة بهم، حكمة عالية، نظرة ثاقبة للأمور، وعي عالٍ… ملكات مهمة جدًّا، ويتحلى بأمانة كبيرة: مؤتمن على التبليغ، ومؤتمن على المسؤولية، ومؤتمن تجاه الناس فيما يريده لهم ومنهم، مؤتمن أمانة كاملة وشاملة وتامة. مع ذلك هل يتحرك من تلقاء نفسه بأطروحات شخصية، بأفكار شخصية، باتجاهات شخصية ابتكرها هو، اخترعها هو، من تفكيره، من نتاجه الشخصي، أو لحسابات شخصية يتحرك ليحقق لنفسه مصالح ومكاسب معينة مادية من الناس، أو معنوية، أو فئوية (لفئته)، أو قومية (لقومه، قبيلته، أو أوسع من إطار قبيلته)، مثلًا: هل كان يهم رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أن يتحرك لمصالح عربية على حساب بقية الشعوب والأمم، أو بأي اعتبارٍ كان؟ |لا|، الرسل يتحركون بتجردٍ تام عن كل هذه الأمور، لا يتحرك على أساس رؤية شخصية من ابتكاره ونتاجه الشخصي البشري، الذي سيبقى قاصرًا مهما كان إذا كان منفصلًا عن الله -سبحانه وتعالى- لأن الواقع البشري محدود مهما كان، الإنسان كإنسان هناك حدود: حد لقدرته، حد لعلمه، وتتفاوت حتى في الواقع البشري، يمتلك هذا من العلم أكثر مما يمتلك الآخر، هناك ذكي، هناك من هو أذكى، هناك عالم، هناك من هو أعلم… وهكذا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية76]، حتى تصل المسألة إلى الله، والله هو الذي له الكمال المطلق، أما الواقع البشري فكل شيءٍ فيه محدود: القدرات الذهنية، الملكات الفكرية، كل القدرات لدى الإنسان، كل الملكات، كل ما يمكن أن يحصل عليه مكتسبًا أو من الأساس شيء محدود محدود محدود، محدود كبشر.
مميزات حركة الرسل
فالرسل لم يكونوا يتحركون على أساس رؤية شخصية، اتجاه شخصي، ولا لحسابات شخصية: أنَّه يريد مصالح له، كانوا يقولون- دائمًا- لأقوامهم: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}، لا أريد من وراء تبليغي للرسالة إليكم أي أجر منكم، أي مقابل منكم تعطوني شخصيًا، لا مال، ولا منال، ولا منصب، ولا أي شيء شخصي تقدِّمونه لي كمكافئة على أن أوصلت إليكم الرسالة الإلهية، ولا لحسابات- أيضًا– فئوية، أو شخصية، أو حزبية، أو قومية… يكونون متجرِّدين من كل هذه الاعتبارات، ولهذا- كما نكرر- الإيجابيات عظيمة ومهمة جدًّا للرسالة الإلهية، هذا لا يوجد خارج إطار رسالة الله -سبحانه وتعالى- اذهب إلى أي رؤية يتبعها البشر في أي بلدٍ هنا أو هناك، قدَّمها لهم رمزٌ معين: زعيمٌ وطني، أو زعيمٌ قومي، أو مفكر، أو فيلسوف، أو منظِّر… أياً كان، أولًا ستكون نتاجًا شخصيًا بحدود قدراته، وستكون متأثرةً بواقعه هو في نفسيته، في اهتماماته، في واقعه بشكلٍ عام، ثم سينظر من منظار معين، البعض ينظر من منظار مصلحة شعبه، أو بلده، أو حزبه، أو قومه، أو عشيرته… أو أي اعتبار، كلها مؤطَّرة، كلها لها حدودها، لها اعتباراتها، أما رسالة الله فهي الوحيدة التي تصلح لأن يلتقي عليها كل البشر، وأن يجتمع عليها كل الناس، هي الصالحة لوحدها أن تكون للناس جميعًا؛ لأن فيها الخير للناس جميعًا، ليست مؤطَّرة بأي أطر تجعل منها مصلحةً شخصيةً لشخص، أو مصلحةً قوميةً لقوم، أو مصلحةً محدودةً بحدود جغرافية، أو بحدود سياسية معينة. |لا|، لها هذه الإيجابية الكبيرة والعظيمة والمهمة.
فيأتي الرسول كنعمة من الله -سبحانه وتعالى- برؤية إلهية، يأتي ليتحرك- ضمن مسؤوليته ووظيفته الرئيسية- لهداية الناس بهدى الله، ودعوتهم إلى الله -سبحانه وتعالى- هو قناة وصل مع الله، يوصل إلى الناس التوجيهات الإلهية، ويتحرك بهم على أساسها، يوصل رسالة الله في مضمونها الشامل والكامل: من عقائد، من تشريعات، من حقائق، من… كل ما يتصل بهداية هذا الإنسان، وتربية هذا الإنسان، وتزكية هذا الإنسان، وحياة هذا الإنسان.
{رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، فهو يتحرك على هذا الأساس، الآخرون الذين يرتبط بهم البشر ويعتمدون عليهم ويتمسكون بما هو منهم وكبدائل- المصيبة هذه- كبدائل عن الرسالة الإلهية، ليس لديهم هذه الميزة المهمة، الرسول هو فقط يوصل إلى الناس ما هو من الله -سبحانه وتعالى- قناة وصل ما بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى- لا يأتي ليستغل الناس لمكاسب شخصية، ولا حزبية، ولا فئوية، ولا قومية… ولا لأي اعتبار، ولا يأتي بنتاجه الشخصي، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) آيات الله -سبحانه وتعالى- (آيَاتِهِ) في حركة الرسول محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- والكلام هنا يركز عن بعثة الله له كنعمة عظيمة، الآيات المباركة آيات القرآن الكريم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- لم تكن مسألة تلاوته لآيات الله على الناس كالحالة السائدة الروتينية المعتادة، الحالة السائدة- الآن- لدى الكثير من الناس أنَّ مسألة تلاوة الآيات هي عبارة عن قراءة اعتيادية روتينية، يرغب الكثير أن تكون بصوتٍ حسن، وأحيانًا تتحول مسألة الصوت الحسن إلى مسألة أساسية ورئيسية، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) لهدايتهم بها، هذه الآيات بما فيها من هدى، بما فيها من نور، بما فيها من بصائر، بما تصنعه من وعي، بما تصححه من مفاهيم، بما تقدِّمه من تشريعات، من توجيهات، من تعليمات، بما فيها من عقائد، بما فيها من أحكام، بما فيها من بصائر واسعة تمتد إلى شتى شؤون الحياة، إلى كل ما له علاقة بهداية هذا الإنسان، ما يحتاج هذا الإنسان إلى معرفته ليهتدي إلى ما فيه الخير له في الدنيا والآخرة؛ فلذلك تأتي تلك الآيات لتكون هي- فيما تحمله من: فكرة، ورؤية، وتشريعات، وأحكام- لتكون هي التي يتجه إليها الناس للاهتداء بها، للانتفاع بها، للاستنارة بنورها، يحملون ما تقدِّمه من أفكار لتكون هي البديل عن الأفكار الظلامية، والأطروحات الأخرى التي كانت رائجة في الساحة.
الناس لا يبقون في حالةٍ من الفراغ، دائمًا ما تكون لديهم كثير من التصورات، والأفكار، والنظرة، والرؤية تجاه مسائل كثيرة، وهذه حالة كانت قائمة سواءً في الواقع العربي، أو في الواقع العالمي بكله، بقية المجتمعات البشرية لديهم عقائد بدءًا من عقائدهم نحو الله -سبحانه وتعالى- عقائد باطلة كثيرة، وكانت ظاهرة الشرك في مقدمتها، الشرك بالله -سبحانه وتعالى- ثم الكثير من العقائد الباطلة، التصورات الخاطئة، الأفكار الضالة، الكثير والكثير مما هو باطل بشكل عقائد، بشكل رؤية في الحياة، بشكل عادات وتقاليد، بشكل مواقف، بشكل تصرفات وسلوكيات.
آيات الله تحكم واقع حركة رسول الله في كل الجوانب
الآيات تأتي وما أتت به ليكون هو المتَّبع، الثقافة تكون هي الثقافة القرآنية، الفكرة تكون هي تلك التي قدمها القرآن الكريم، العقيدة تكون هي تلك التي قدمها القرآن الكريم، السلوكيات تكون منضبطة ملتزمة على أساس تلك المضامين القرآنية والتوجيهات التي أتت في القرآن الكريم، وهكذا كانت حركة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- لم تكن تلاوته مجرد تلاوة صوتية يستمع الناس إليها ليستحسنوا ذلك الصوت الجميل، أو مجرد تلاوة يتأثر الناس بها وجدانيًا فحسب وينتهي الموضوع. |لا|، ما يقدم للواقع العملي ليتم الالتزام به عمليًا، يعني: تلاوة لهدى يسير الناس عليه، يتمسكون به، يلتزمون به، مشروع للحياة، منهج للحياة، وهكذا كانت حركة رسول الله من موقعه كرسول، موقعه في الرسالة الإلهية كرسول يتحرك ويقدم هذا الهدى إلى الناس، يتلو عليهم آيات الله ليهتدوا بها، فيغير بتلك الآيات الكثير من الأفكار الظلامية والخاطئة، والرؤى الخاطئة, وليصلح بها في واقع هذه الحياة، وليقدم بها تعليمات وتوجيهات وأوامر من الله -سبحانه وتعالى- إلى ميدان الحياة وإلى واقع الحياة، وهذا ما يجب أن نركِّز عليه في واقعنا من جديد، واقعنا العربي، واقعنا الإسلامي الذي ابتعد كثيرًا عن طبيعة هذه العلاقة مع آيات الله، علاقة الاهتداء والاتباع، كم هناك من أفكار، من أطروحات تقدَّم في الساحة بعيدًا عن القرآن الكريم، كم هناك من مواقف لدى الكثير من الناس والأطراف والجهات بعيدة عن القرآن الكريم، كم هناك من ولاءات وعداوات وتوجهات، كم ظهرت في الساحة من مشاكل نتيجة هذا الابتعاد عن القرآن الكريم.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، فهو كان- كرسول من عند الله- قناة وصل مع الله، لا يقدم من تلقاء نفسه، وليس له أهداف شخصية أبدًا، يدعو إلى الله، ويأتي بهدى الله، ويتحرك على هذا الأساس، آيات الله، كلماته، نوره، هديه، الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، آيات الله التي هي من كتابه الحكيم، كلها آيات أحكمت، كلما فيها: حكمة، وحق، وخير، وهداية، ونور، آيات الله التي ينقذنا بها، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: من الآية9]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: من الآية1]، الظلمات بشكل مفاهيم مغلوطة، أفكار ضالة، اتجاهات خاطئة، عقائد باطلة، سلوكيات منحرفة، كلها ظلمات يحتاج الإنسان إلى الإنقاذ منها، تؤثِّر على حياة الإنسان، وتشكِّل خطورة على الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
الرؤية القرآنية هي الحل لكل مشاكل الحياة
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، الآيات التي تضمنها القرآن الكريم، وهي نور، وهي هدى، وهي حقٌ محضٌ لا باطل فيه، وهي التي تقدِّم لنا البصائر والحقائق في كل أمور الحياة المهمة ذات الصلة بمسؤوليتنا، وما يترتب عليه في حياتنا خيرٌ أو شر، تقدِّم لنا في ذلك الهداية اللازمة التي فيها الخير والصلاح والفلاح، ثم تمثِّل تلك الرؤية حلًا لمشاكل الحياة في كل اتجاهاتها، عندما جاء الإسلام كم كان هناك من مشاكل وأزمات في الواقع العربي، ثم في الواقع العالمي، مشاكل كثيرة كانت قائمة، وكثيرٌ منها باتت اليوم قائمة، بقدر ما ابتعدت الأمة عن القرآن، بقدر ما خالفت منه، بقدر ما جهلت من هديه؛ نشأت مشاكل كثيرة، آنذاك كانت هناك مشاكل كثيرة، أزمات كثيرة: المشاكل السياسية، المشاكل الاقتصادية، المشاكل الاجتماعية… كثير من المشاكل كانت قائمة، آيات الله بما فيها من هدى، بما فيها وبما لها من عطاء تربوي، وبما فيها من تشريعات وتوجيهات وتعليمات مثَّلت حلًا للمشاكل التي يعاني منها الناس، مشكلة الاختلاف، والتناحر، والعداوات، والتشرذم، كانت من أبرز المشاكل في الواقع العربي، العرب فيما بينهم كانوا مختلفين ومتشرذمين ومتباغضين، وكانت تسودهم العصبية، كانت سائدة في الواقع العربي- إلى حد كبير- العصبية بكل أشكالها، كانوا يختلفون على المستوى الديني في كثيرٍ من العقائد، حتى في الأصنام، قبيلة معها صنم، وقبيلة معها صنم آخر، وقبيلة معها صنم ثالث، أولئك اسم صنمهم (اللات)، والآخرون (العزى)، والآخرون (مناة)، والآخرون (هُبل)، والآخرون… قائمة طويلة من أسماء الأصنام، يختلفون في كثيرٍ من المواقف، العصبيات فيما بينهم، العصبيات العنصرية: بنو فلان، وبنو فلان، وبنو فلان… أو القبيلة: قبيلة كذا، وقبيلة كذا، وقبيلة كذا… الخلافات بكل أشكالها كانت موجودة في الواقع العربي، كلها عالجها الإسلام عندما التقت الأمة على رؤية واحدة، ليس فيها أحد يستغل أحدًا، الكل عبيدٌ لله -سبحانه وتعالى- الكل يتجهون ليس على أساس رؤية لطرف يستغل بها طرفًا آخر. |لا|، هدى الله الذي هو خيرٌ للناس جميعًا، هدي الله الذي يلتقي عليه الكل من الله -سبحانه وتعالى- السقف واحد (العبودية لله -سبحانه وتعالى-)، فكانت تمثل حلًا لمشاكلهم، وصلاحًا لحياتهم، وإذا جئنا لنقيِّم النتائج، ماذا بعد أن تحرك الرسول بتلك الآيات في الواقع؟ سنأتي لنشير إلى ذلك- إن شاء الله- بعد أن نصل إلى هذا الموطن {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، بعد أن نستكمل هذه نعود إلى تقييم كيف كانت النتائج.
ضرورة التوازن بين البناء المعرفي والتهذيب النفسي
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، يتجه- أيضًا– ليس فقط ليقدِّم لهم التوجيهات كمعارف ومعلومات، وتنتهي المسألة عند هذا الحد، أو حتى كمنهج للحياة يلزمون به عمليًا هكذا من دون أن يؤخذ بعين الاعتبار تزكية النفس البشرية، مهما قُدِّم للإنسان من أفكار عظيمة، من توجيهات صالحة، مهما طُلِب منه من أعمال إيجابية، أو مواقف إيجابية، إذا لم يلحظ جانب التزكية للنفس تبقى هذه مشكلة كبيرة جدًّا لدى الإنسان، يمكن أن يعرف الإنسان أشياء مهمة في هذه الحياة ذات قيمة أخلاقية وإنسانية كبيرة، ولها إيجابية في واقع الحياة وأثر طيب في واقع الحياة، فيها خير، فيها مصلحة، ولكن إذا لم تكن نفسه زاكية، وإذا لم يتجه بدافع هذا الزكاء في النفس للأعمال الزاكية، يمكن أن ينحرف، يمكن أن يتعمد التوجه للأعمال السيئة، والأعمال السلبية، والسلوكيات السلبية، وهو يعرف أنها أعمال سيئة، وأنها تصرفات سيئة، ويتعمد فعل ذلك، لماذا؟ لأن عنده خلل في زكاء نفسه.
النفس البشرية خلقها الله -سبحانه وتعالى- وجعل فيها قابلية للزكاء والخير والصلاح، وقابلية للفساد، وللانحطاط، وللظلم والظلام والانحراف، يمكن أن تزكو هذه النفس، ويمكن أن تتدنس هذه النفس، وتفسد هذه النفس، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ∗ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ∗ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ∗ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]، فالنفس البشرية قابلة لأن تزكو، لأن تصلح، لأن تطهر، لأن تسمو، لأن تنمو فيها البذور التي فطرت النفس البشرية عليها (بذور الخير)، الإنسان في فطرته يحب الخير، يحب السمو، يحب الشرف، يحب مكارم الأخلاق، يشعر بعظمتها، بقداستها، ينجذب إليها، ولهذا نجد في الساحة البشرية والواقع البشري حتى الأشرار كيف يسعون دائمًا أن يقدِّموا لما هم عليه عناوين إيجابية، مثلًا: لا يحبِّذون أن يرفعوا عنوان الباطل صراحةً، فيسمون باطلهم بحق، ويقدِّمون أنفسهم أنهم أهل الحق؛ لأن الإنسان في فطرته مفطور على أن يتبع الحق، وأن يعظِّم الحق، وأن يؤمن بأن الشيء الصحيح الذي يفترض أن يتبع في هذه الحياة، وأن يلتزم به هو الحق، ولذلك كل فئات الباطل لا تأتي لتعترف على نفسها بصراحة على أنها جهات باطل، إذا كانت هي حالات نادرة وشاذة لا اعتبار لها ولا حضور لها في الواقع البشري بشكلٍ كبير، ولكن يحاولون، حتى فرعون يقول لقومه: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29]، يرفع عنوان الهداية، ويرفع عنوان الرشاد، تجد كذلك عناوين لفسادهم بالإصلاح، يحكي الله عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: الآية11]، فيسمون فسادهم بالصلاح.
الواقع البشري يعترف بسمو القيم والأخلاق العظيمة، والأشياء السيئة يعترف البشر بسوئها وقبحها، إنما يشتغلون على تبريرات لها، أو فلسفات، أو عناوين، ويتعبون في ذلك، يتعبون في التبرير لها، وفي التفلسف لها.
فالنفس البشرية قابلة للزكاء، لكن إذا لم يكن هناك اهتمام بتزكيتها تفسد، وإذا فسدت انحرف الإنسان وكان عنده اندفاع داخلي للانحراف، اندفاع نفسي نحو الانحراف، وحينئذٍ لا ينفع فيه معرفة الحق، ولا معرفة الخير.
عملية التزكية هذه التي تتجه نحو الإنسان لإصلاح نفسه، ولتنمية مشاعر الخير في نفسه، ولتنمية الاتجاه الإيجابي في نفسه، الاتجاه نحو القيم الفضلى، ونحو مكارم الأخلاق، ونحو الحق، ونحو السمو، ونحو الأعمال الزاكية، الإصلاح للنفس البشرية لإبعادها عن الخبائث من الأعمال والتصرفات والسلوكيات، وإبعادها عن الرذائل، وإبعادها عن المفاسد، والسمو بها حتى تحمل اهتمامات زاكية، واتجاهات زاكية، وميول صالحة، تحب مكارم الأخلاق، تعشق حميد الصفات، تنشد إلى ما فيه خيرٌ وسموٌ وشرف، تترفع عن الرذائل والخسائس والنقائص المسيئة للإنسان في أخلاقه وشرفه وفي حياته، والمضرة بواقع حياته، يحتاج الإنسان إلى جهد.
رسالة الله أعظم برنامج لتزكية النفس
أعظم برنامج لتزكية النفس البشرية هو في رسالة الله، أشياء كثيرة في رسالة الله -سبحانه وتعالى- تتجه نحو تزكية الإنسان، وتترك أثرًا عظيمًا في تزكية نفسه، بدءًا بإيمانه بالله -سبحانه وتعالى- الإيمان الصادق، الإيمان الواعي، الإيمان الفعلي الذي يترك أثرًا عظيمًا في مشاعر الإنسان، تمتلئ بالمحبة لله -سبحانه وتعالى- هذا له أثر في طهر المشاعر، في نقائها، في صفاء الوجدان الإنساني إلى حدٍ كبير، إذا سكنت في مشاعرك المحبة لله -سبحانه وتعالى- ونمت وعظمت؛ تركت أثرًا إيجابيًا في شعورك ووجدانك واتجاهك في هذه الحياة، وسمو روحك، الخوف من عذاب الله -سبحانه وتعالى- التعظيم لله والاستشعار لعظمته ولرقابته، الإيمان بالمعاد والحساب والجزاء، كل هذا له أثر مهم في تزكية النفس البشرية، والانطلاقة في هذه الحياة بمسؤولية، وإدراك لقيمة هذا الوجود البشري، وماذا يعنيه، وما هو دور هذا الإنسان في هذه الحياة، وما ينتظره من حساب ومن مستقبل كبير جدًّا: إما في الخير، وإما في العقاب.
ثم كثيرٌ من العقائد، كثيرٌ- أيضًا- مما ورد في القرآن الكريم مما يحبب للإنسان الخير، مكارم الأخلاق، ما ورد عنها مما يحببها لهذا الإنسان، مما يشده نحوها، مما يرغبه فيها، فيما ترى فيها من إيجابية في هذه الحياة، فيما يترتب عليها من نتائج، فيما تمثِّله من سمو للإنسان وزكاء وارتقاء وصلاح لحياته، ثم كذلك التدخل الإلهي، الرعاية الإلهية التي تساعد في صلاح هذا الإنسان، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:الآية17]، الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النور: من الآية21]، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: من الآية21]، الله بفضله وبرحمته هناك جانب أساس من رعايته يتجه نحو الإنسان لتزكيته، عطاء إضافي من الله -سبحانه وتعالى-.
تشريعات- كذلك- مهمة، تحميك من الأشياء التي تدنِّس نفسك، تلوث مشاعرك، تصيب قلبك ومشاعرك ووجدانك بالرجس، فتأتي كثيرٌ من التشريعات لتحميك منها، وتبعدك عنها؛ فتصونك، وتحافظ على وجدانك ومشاعرك، كثير من التشريعات الإلهية والأعمال المهمة التي يأمرنا الله بها، أو يرشدنا إليها ويحثنا عليها، تترك أثرًا من الزكاء في نفس الإنسان، وهكذا برنامج واسع يساعد على تزكية هذا الإنسان.
والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من موقعه في الرسالة فيما يدعو إليه، فيما يربي عليه، فيما يحرك الأمة فيه، فيما يقدمه من إرشادات وتوجيهات وتعليمات ليزكي الأمة، مسار رئيسي في حركة الرسالة وفي مضمونها يتجه نحو تزكية الإنسان، إذا لم تتزك نفسية الإنسان- لو بلغ ما بلغ- يمكن أن يصل إلى مستوى عالم ديني بالمفهوم السائد، يعني: يحمل كثيرًا من المعلومات عن الدين، عن الشرع الإلهي، عن المعارف الدينية، وفي نفس الوقت يكون في غاية السوء مثلما سيأتي {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} [الجمعة: من الآية5]، (كَمَثَلِ الْحِمَارِ) هل يمكن أن تقول: أن الحمار يحمل نفسا زاكية، وتوجهات زاكية، وأخلاقا فاضلة، ويحمل من مضمون ما يحمل من كتب، حتى لو حمَّلوه أسفار التوراة، هل سيحمل مضمونها الأخلاقي والعملي في نفسيته، وشعوره، وسلوكياته، وفهمه، وبصيرته؟ |لا|، حمار، ولذلك هذا الجانب أساسيٌ جدًّا، حتى في الواقع العملي والاستقامة العملية لا تتحقق إلَّا بهذا، إذا أُهمِل هذا الجانب لا تنفع الجوانب الأخرى. {وَيُزَكِّيهِمْ} ويريد الله للمجتمع المسلم أن يكون مجتمعًا زاكيًا في النفسيات والتصرفات والأعمال، أن يبتعد هذا المجتمع عن المفاسد، عن الرذائل، عن القبائح، عن الفواحش، عن الجرائم، يتزكى فيبتعد عن ذلك حتى بدافع نفسي.
عملية التعليم في حركة الرسول الأكرم
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ): كيف كانت عملية التعليم هذه من رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؟ هل هي كالحالة الروتينية التي سرنا عليها [مدارس لتعليم القرآن الكريم وتحفيظ القرآن الكريم، يتم الاهتمام فيها بحفظ النص القرآني، أو قراءة النص القرآني، ثم المرحلة التي تلي ذلك التجويد وأحكام التجويد، فإذا تم القفز إلى مرحلة أعلى، فتلك المرحلة هي بعض المعاني للمفردات، ويتدخل الكثير من اتجاهات المذاهب بأفكارهم، بتوجهاتهم في بعض المعاني لفرضها كمعاني للنص القرآني، مما يلائم ما هم عليه من مذاهب وأفكار واتجاهات، وتحسب على القرآن، على أنها تفسيرٌ لمعانيه وهي بعيدة]، وهذه الحالة لم تؤثر- في واقعنا البشري، في واقعنا في الساحة الإسلامية- الأثر المفترض للقرآن الكريم، الأثر العظيم الذي يصلح واقع الحياة، الذي يجعلنا أمةً مستنيرة، مبصرة، واعية، ترى الكثير ممن يتجهون هذا الاتجاه، ممن لديهم هذه المنهجية يتجهون في واقع الحياة في مواقفهم، في تصرفاتهم بعيدًا عن القرآن الكريم.
الرسول في عملية التعليم هذه كان ضمن مسيرة عملية ارتبط بها واقع عملي، لم يعمل له- مثلًا– مدرسة معينة ويجلس فيها ليبدأ بعملية التعليم، يُقَرِّئ من بجنبه سورةً سورة، أو صفحةً صفحة، من أول القرآن من سورة الفاتحة: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:1-2]، إلى سورة الناس ويختم {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: الآية6] وانتهى الموضوع، وعلَّمهم الكتاب وانتهت المسألة، عملية تعليم الكتاب كانت عمليةً مرتبطةً بواقعٍ عملي، وهذا ما يجب على الأمة أن تلحظه: كيف يعود ارتباطنا العملي بالقرآن الكريم ضمن مسيرة عملية، طيب أن يكون هناك اهتمام بتعليم القرآن، واهتمام بتحفيظ القرآن، وعناية بحفظ النص القرآني، وعناية بالقراءة للنص القرآني، هذا أمرٌ مطلوب، نحن لا نقول: أنه خطأ في نفسه بحد ذاته، الخطأ هو الاقتصار عليه، الخطأ عندما يتحول هو المفهوم عن عملية تعليم الكتاب حصرًا، الخطأ عندما يتم الاقتصار عليه كمسار يكفي في طبيعة العلاقة مع القرآن الكريم.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- تَنَزَّل عليه القرآن الكريم ضمن مسيرة الرسالة على مدى سنوات طويلة، منذ أن بُعِثَ حتى العام الذي توفي فيه، وكان القرآن يأتي ضمن واقع عملي في كثيرٍ من الحالات، وكان يقدِّم القرآن الكريم مرتبطًا بواقعٍ عملي، عندما تأتي آيات النفير للجهاد تُقرَأ على الناس، لماذا؟ ليحفظوها وينتهي الأمر عند حفظها؟! {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً}[التوبة: من الآية41]، ويهتمون فيها بأحكام التجويد والإدغام… وما إلى ذلك وانتهى الموضوع؟! أو عند حد التفسير للمفردات، ماذا تدل عليه مفردة النفير؟ كانت تأتي لتدفع الناس إلى الميدان {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً}، فيتحرك الناس، تعليم يرتبط به عمل، يرتبط به تطبيق، يرتبط به اتجاه في الحياة للالتزام بهذا الكتاب بما فيه من تعليمات، كانت تأتي آيات تصلح للناس كثيرًا من أفكارهم، تأتي إلى واقعهم في الحياة فيما فيه من مشاكل: آية تحل مشكلة، آية تدفع إلى عمل، آية لتحدد موقفًا، وعليهم أن يتبنوه، آية لتصحح مفهومًا خاطئًا ويعرف الناس أن عليهم أن يحملوا ذلك المفهوم القرآني، ولا يتشبثوا بذلك المفهوم الخاطئ الذي هو مفهوم ظلامي، وأن ينبذوه ويتركوه، آية تنهاهم عن تصرف معين، آية تحل حلالًا معينًا ليلتزم الناس به، وآية تحرم حرامًا معينًا ليتركه الناس.
تأتي آية: {اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: من الآية278]، تأتي آيات النهي عن الربا ليلتزم الناس فيتركوا الربا، وهكذا ارتبطت عملية التعليم بمسيرةٍ عملية، وبواقعٍ عملي، وبالتزامٍ عملي، ونزلت إلى واقع الحياة؛ لتربي، لتصلح، لتحل المشاكل، لتعالج الواقع، لتبني الحياة، لتبني الحياة، فهكذا كان يُعَلِّم، هكذا كان تعليم رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ولم يكن تعليمًا نخبويًا اقتصر على مجموعة طلاب، وتم تسجيلهم في كشف، وأدخلوا إلى المدرسة، وحددت لهم رسوم، وانتهى الموضوع، مشروع الرسالة الإلهية يتجه إلى الناس جميعًا، إلى الجميع، يوجَه لهم الهدى، ثم تأتي الاستجابة ممن يتوفق للاستجابة، تتفاوت مستويات الاستجابة في واقع الناس بين مطيعٍ وعاصٍ، وبين مطيعٍ بشكلٍ جيد، بين مطيعٍ بشكلٍ أفضل، بين أكثر طاعة، أكثر استجابة، أكثر إيمانًا، {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ} [آل عمران: من الآية163]، كما في الآية المباركة، ولكن يكون هناك واقع هو هذا الواقع فيه أمر بمعروف، نهي عن منكر، تواصي بالحق، تواصي بالصبر، دعوة إلى الخير، دفع بالناس نحو هذا الاتجاه فيكون هو الاتجاه السائد والقائم.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا لما يرضيه عنا، وأن يهدينا بكتابه، ولاتباع رسوله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛